د. محمد هيبي
“مداخلتي في أمسية إشهار كتاب “ياسر عرفات وجنون الجغرافيا”
للكاتب نبيل عمرو
في مؤسسة محمود درويش – كفر ياسيف: 17/11/2018
نحن الرقم الصعب في الشرق الأوسط”. عبارة، أطلقها ياسر عرفات ذات يوم، ولاقت قبولا كثيرا، ورفضا قليلا. واعتمد أصحاب الرفض والقبول، دوافعهم السياسية أو الاجتماعية أو الشخصية، وكذلك مدى قربهم أو بعدهم من عرفات.
فيصل حوراني الذي قدّم للكتاب، عبّر عن تخوّفه من أن تُعزّز هذه العبارة الوهم عند الفلسطينيين وقياداتهم، وقد يكون محقّا في تخوّفه. وأضاف: “نحن إزاء نصّ يصعُب تقديمه بوصف واحد أو أوصاف قليلة، ويُمكن وصفه بأنّه محاولة جادّة وموفّقة لقراءة الرقم الصعب بجانبيه: العام والعرفاتي الخاص”.
من الواضح أنّ حوراني التفت أكثر إلى الجانب السياسي في الكتاب وفي حياة عرفات، وهذا ما لن أتورّط فيه. ولكنّ حوراني اعترف أيضا بروائية النص، وهذا ما يشغل مداخلتي.
تخييل الواقع، هو فنّ بحدّ ذاته، وهو عنصر من عناصر التشويق في أيّة رواية. ولكن، في هذا الكتاب، “ياسر عرفات وجنون الجغرافيا”، نقف أمام رواية من نوع آخر. هي ليست رواية بالمفهوم الفنّي للرواية، بل هي رواية وثيقة، ولكنّها مختلفة أيضا، لأنّ الرواية عادة، قادرة على الجمع بين التوثيق والتخييل، أمّا هذه الرواية فلم تفعل، لأنّها تحكي واقعا فقط لا مكان فيها للتخييل. إنّها وثيقة تاريخية وسياسية. ويُمكن اعتبارها شهادة أدبية على التاريخ والسياسة، لأنّها اتخذت شكل الرواية بما فيها من سرد جميل. ويتّضح من ذلك، أنّ الكاتب يُدرك أهمية علاقة الأدب بالتاريخ والجغرافيا، وتلك العلاقة تبرز عادة في ثلاثة جانرات أو أنواع أدبية هي: الرواية التاريخية، رواية السيرة الذاتية أو الغيرية وأدب الرحلات. وهذه الرواية تنتمي إلى الجانريْن الأوليْن. فالكاتب عندما يتحدّث عن عرفات، يتحدّث عن نفسه أيضا، وهذا إلى جانب ارتباط الرواية بالتاريخ والجغرافيا، يُعطيها شكلها ومضمونها كرواية سيرة ذاتية وغيرية معا.
لقد أحسن الكاتب فيها استخدام أسلوب حكاية الواقع أو سرده بما يُشبه التخييل، وبذلك فقد أبعد الحقائق التاريخية عن الجفاف، وجعل القارئ يُقبل على قراءة الكتاب بشغف حتى غلافه الأخير. هذا بالإضافة إلى أنّه وظّف فيه الكثير من العناصر الروائية الأخرى، وقد رسمها وبناها وشدّها بإحكام إلى بعضها البعض، من خلال علاقاتها بشخصية المروي عنه.
هذه الرواية تُحاكي أسلوب التخييل ولكنّها لا تعتمده، فالكاتب ينطلق بالنصّ من واقع ليكتبه أو ليكتب عنه، بدون حاجة للتخييل، ولكنّه فيما يكتبه عن هذا الواقع، يشدّنا أكثر بكثير من التخييل، ربما لأنّه يستبطن دواخل المروي عنه ويُضيء لنا صفحات من حياته خفيت علينا رغم معرفتنا الجيدة به، أو هكذا كنّا نظنّ. وهو ويعرف كيف يربط هذه الصفحات وكثرة ما فيها من أحداث، بالزمان والمكان، خاصة عندما يتحدّث عن ارتباط المروي عنه بالجغرافيا في زمن محدّد، وما سببته له هذه الجغرافيا من جنون، سواء كان ذلك في محاولات امتلاكها، أو في محاولات عدم خسارتها. والأردن هنا تُشكّل نموذجا جيدا قبل وأثناء وبعد أيلول الأسود. فالجغرافيا هنا تعني الأماكن التي تواجد فيها المروي عنه ومن يُمثّلهم، وبشكل خاص، مصر والأردن وسوريا ولبنان، ذلك لأنّ ارتباطه بهذه الجغرافيا، ليس ارتباطا سياسيا فحسب ولا كبديل جغرافي مؤقت لفلسطين، بل هو ارتباط نفسيّ أولا، وجغرافي ثانيا. لأنّ تلك الجغرافيا هي امتداد نفسيّ وجغرافيّ لفلسطين التي حرص عرفات أن يبقى قريبا منها، لأّنّه يرى العودة إليها حتمية. ولطالما أجاب عرفات بعد كل أزمة أو هزيمة، ردّا على السؤال: “وإلى أين الآن؟”. كان جوابه دائما: “إلى فلسطين”!
في الرواية عادة، راوٍ ومرويّ ومرويّ عنه. أما ما يُميّز نبيل عمرو فيها، فهو أنّه الكاتب والراوي والمروي عنه أيضا، كأحد بطلين رئيسين. وإن كانت بطولته تبدو ثانوية، إلّا أنّها بلا شكّ، ليست هامشية، فهو ليس مجرّد سارد يقتصر وجوده على السرد، بل هو شخصية تلعب إلى جانب المروي عنه، عرفات، دورا أساسيا في الأحداث والتّعاطي معها.
نبيل عمرو الكاتب، أظهر حضورا مميّزا وقدرة فائقة في ملكته للغة وتطويع عباراتها بما يخدم موضوعه ورسالته وما يحتاجه فيهما من مباشرة أحيانا، وإيحاء وتلميح أحيانا أخرى. وتميّز بقدرته على السرد، في استخدام إشكالٍ مختلفة للسارد أو الراوي. وتميّز بتحكّمه بزاوية السرد التي ينطلق منها، وقد استفاد كثيرا من قربه اللصيق بالمرويّ عنه. وقد برز ذلك في معلوماته وشهادته الموثوقة على ملامح عرفات الشخصية وأحواله النفسية وطرق تفكيره وممارساته. كل ذلك إلى جانب المادة الفكرية والسياسية التي أعاد بواسطتها بناء شخصية عرفات بشكل روائي، رغم صعوبة الأمر، إذ لا يختلف اثنان في أنّ شخصية عرفات، هي شخصية إشكالية إلى أبعد الحدود، وفي كل المجالات. هي ليست شخصية قلقة فقط، بل هي مثار قلق لكل من حولها. وهذا حسب ما قاله الكاتب، جاء نتيجة “الانطباعات التي تولّدت من خلال معايشة عرفات عن قرب، ومشاطرته كثيرا من أيامه المجيدة والبائسة” (ص 13).
في الرواية أيضا، شخصيات أخرى كثيرة، ولكن ما يلفت النظر، هو تسليط الضوء، أو ما يُسمّى بلغة الرواية، التبئير، على شخصين من شخوصها، هما الراوي والمروي عنه، ولكن دون أن يغمط حقّ أيّ من الشخصيات الأخرى، فقد كان حضورها جميعا مقنعا.
على الغلاف الأول تُهيمن صورة المروي عنه، وقد انضوت تحتها صور لشخصيات قد تكون مساوية له بالحجم والقدر والقدرة، أو تفوقه، ولكنّ مصمم الغلاف لم يقصد هيمنة عرفات على تلك الشخصيات، بل يُشير إلى أنّه كان يُمسك بكل الخيوط سواء في المنظومة الفلسطينية أو العربية، مدفوعا بقلقه أو بما يسميه نبيل عمرو “جنون الجغرافيا”. وهذا ما جاءت الرواية تقوله: إنّه كان قادرا على الشدّ بكل الخيوط واللعب بكل الأوراق”. ولكن، رغم الهيمنة الواضحة لعرفات على سير أحداث الرواية ومسار شخصياتها، إلّا أنّه لم يستطع تهميش شخصية الراوي المهيمن على السرد، والذي يحظى بثقة القارئ من خلال هيمنته تلك، كراوٍ وكشخص من شخوص الرواية، يُشارك في أحداثها ويتحمّل تبعاتها.
قد يكون الراوي في بعض الروايات، مجرد تقنية يُوظّفها الكاتب، تقوم بالسرد نيابة عنه. أما نبيل عمرو الراوي، فهو ليس مجرد همزة وصل بين الكاتب والنص، أو بين الكاتب والقارئ، أو بين القارئ والنص، إنّه تعالق فريد بين الكاتب والراوي والشخصية المشاركة بأحداث الرواية.
التعالق هنا، يعني أن القارئ يشعر بالحضور الدائم للكاتب، أو الراوي، الأنا الشاهد المشارك كأحد شخوص الرواية، عاش الأحداث وشارك فيها قبل سردها. وليزيد من مصداقيته وحيوية سرده، يوظّف لغة الحوار، ويُشارك فيه بحيوية مع باقي الشخصيات، وخاصة مع عرفات، المروي عنه، إذ يُنطقه باللهجة المصرية التي كان يُحبّها. وعندما سُئل نبيل عمرو: “لماذا تستعمل اللهجة الدارجة عندما تنقل كلام عرفات، بينما تستعمل اللغة العادية عندما تنقل كلام غيره معه؟”. كان جوابه واضحا ومقنعا، يُؤكّد أنّه أراد أن يُقدّم لنا عرافات كما هو، حيث قال: “عرفات هو الشخصية المحورية، وهو بطل روايتي، فأريد للقارئ أن يتخيّله عندما يقرأ أقواله. أما الآخرون فأريد للقارئ أن يعرف ما قالوه، سواء تخيّلهم أو لم يتخيّلهم”.
هذا الراوي يتحوّل أحيانا إلى راوٍ كليّ المعرفة، أي كأنّه يتحدّث من خارج النص ولا علاقة له بما يجري فيه إلّا معرفته بكل شيء وهيمنته على سرده. وأحيانا تراه وكأنّه يجمع بنجاح بين الراوييْن: الشاهد المشارك وكلّي المعرفة في شخصية واحدة.
وهذا يظهر عندما يتحدّث عن الحالة النفسية للبطل وغيره من الشخصيات، فالحالة النفسية تلعب دورا هامّا في هذه الرواية، إذ من الأهمية بمكان، ذلك البوح الذي يلائم الرواية النفسية، والذي لجأ إليه الكاتب، فأضفى به مصداقية على ما يقوله عن عرفات وعن نفسه وعن الشخصيات الأخرى التي أحاطت بعرفات، ولعبت في مسيرته دورا بالغ الأهمية، مثل (أبو الوليد) سعد صايل، و(أبو إياد) صلاح خلف، و(أبو جهاد) خليل الوزير، وغيرهم. فقد رأينا الراوي في أكثر من موقع، يُحاول استبطان دواخل هذه الشخصيات، وقراءة أفكارها، وخاصة دواخل عرفات وأفكاره، وبكل تأكيد دواخله هو كشخصية تتحدّث عن نفسها.
في بوحه، أظهر نبيل عمرو موضوعية وجرأة غير مسبوقة، لم نرهما على الساحة الفلسطينية حين يكون الكلام عن عرفات، ولكن له وعليه. وقد كان واعيا تماما لإشكالية شخصية عرفات، في السياسة وغيرها، وإلى أنّ إقدامه على هذا العمل يحتاج إلى كثير من الموضوعية التي تُغالبها العواطف، خاصة وأنّه اختار أسلوب الرواية التي تُبرز كل ذلك، وخاصة في وصفه لتصرفات عرفات. وبكل تأكيد، نجح نبيل عمرو في مهمته نجاحا باهرا، فقد استطاع رسم شخصية عرفات بملامحها المجهولة لمعظم القرّاء. وبهذا شوّقنا للجزء الثاني من الكتاب.
وختاما أودّ الإشارة إلى تقنيّة الميتاقصّ التي أصبحت ظاهرة منتشرة في الرواية العربية الحديثة. وقد وظّفها نبيل عمرو بشكل موفق لما فيها من إشارة إلى أنّه هو المؤلّف والراوي وأحد شخصيات الرواية، المشاركة بشكل أساسي وفعّال فيها.
في الكتاب ملامح ميتاقصية كثيرة ومهمّة، ولكنّ أبرزها ثلاثة:
-
تقديم فيصل حوراني وهو قراءة موضوعية لمادة الكتاب بكل أبعادها.
-
تمهيد وتوضيح الكاتب، وهو إعلان نوايا كان لا بدّ منه، يُساعد القارئ على استيعاب مادة الكتاب بكل ما فيها من تعقيدات ومفاجآت.
-
الاختزالات في بداية كل فصل. وهي نصوص ممهّدة وموجّهة، تختزل الفصل وتدفع إلى قراءته.