يارا، أيّتها المصلوبة في القلب والعقل وأمام بؤبؤ العين، كم من السهل عليّ أن أقول: “جُعلت فداكِ، وسلام عليكِ وعلى الذي براك”. ودون أن أعطي للقول استحقاقه، وبجرأة حدّ الوقاحة أسألك: هل خلصْتِنا من خطايانا، بدماك؟ أم تُراكِ صلبْتِنا عراة أمام محنتنا وعجزنا والسوس الذي نخر عظامنا وما زال؟
سلام عليكِ منّي، ومن إخوتي معشر العاجزين، معشر الكتّاب والمثقّفين، معشر الكليشيهات الجاهزة للبكاء والتباكي، معشر الدموع السوداء التي لا يمتصّها إلّا الورق، معشر من لم يعد فيهم للحياة فضيلة، مهما كان ألمهم صادقا وحزنهم عميقا. فما نفع الحزن الذي لا يُشرق في النفس ويورق أغصانا خضراء وزهورا بكل لون؟! وما نفع الألم الذي لا يستفزّ في صاحبه إلّا لسانا كاذبا وقلما شاكِيا. أولئك إخوتي، قد يتألّمون صدقا، ويتباكون عجزا أمام من حطّم القارورة الكبرى وأودى بعطرها. فهل يأبهون لعطر قارورة صغرى؟!
يارا، أيّتها الزهرة التي قُطِفت ولما تتفتّح، سلام عليكِ من معشر مثقّفين، أقلامهم سواد دموعها معك، وسواد نفوسهم وواقعهم عليكِ. وليس معك، حيث كنتِ وحيث أنتِ الآن، إلّا أنتِ، عاجزة كما أنتِ. جسدا بلا روح ألقينا بك في برزخ، قذرٍ، وكان قد غطّى على قذارته وقذارتنا، البهاء الذي سلبناكِ. وما زال سالب الروح طليقا في مدىً، قبل سويعات الردى، كان مداكِ.
يارا، سلام عليكِ لو تدرين كم من مثقّفٍ، ربما بألم صادق، وحزن حارق، ولكن بلسانٍ كاذبٍ وقلب عاجز، يرمي الذي رماكِ. ويلوم بعنفٍ كالذي أودى بك، من اعتدى عليكِ، ليُبرّئ يديْه المضرّجتيْن بطهر دماكِ، من جرم رداه حيّاً، ورداكِ. ويُحمّل ذنبكِ للسياسة وأهلها، ليُبرّئ نفسه من تربية بها ذبحناكِ. تربية دفعت بجُبْنٍ عن السياسة جرمها، وكرّست نهجها في أطفال، “سواعير” وقوارير معا، ألقينا بهم في سجن أسميناه مدرسة. فكيف لنا في هذا السجن، أن نستعين بمعلم أقلقنا شذوذه في إخلاصه، فقتلناه قبلك، وذنبه أنّه أراد أن ينقذك من زورنا وبهتاننا، ومن قذارة سياستنا التي لا طريق لها سواهما. كيف لنا أن نستعين بمعلّم قتلناه لأنّه أراد أن يُحرّك وعي معلمينا وضمائرهم خوف موتها: “أن تكون معلّمًا، يعني أن تزن كلمتك عشرات المرّاتِ، قبل أن تلقيها في الآذان، لأنّ كلّ كلمةٍ تخرج من فمك ترسم مصيرًا، وتشكّل قدرًا”. هذا كلام قدسيّ، يعني أنّ خروج الكلمة من الفم، يجب أن يكون كخروج نور الله يسطع من ملكوت السماوات، ليُخرِج الناس من الظلمات إلى النور. ويعني باختصار، أيّها المعلّم الذي يحترم نفسه وينتمي إلى جذور طلابه، يحبّهم ويؤمن برسالته نحوهم، يعني أنّه عليك أن تُفكّر بقولك وبنتيجته قبل أن تقول، لأنّ الكلمة في غير موضعها رصاصة قاتلة، أو سكّين بيد غبيّ أو مجرم. وأخال أنّ عليك أن تُدرك ما معنى أن تُقتل يارا وأخواتها ويستمرّ هذا المسلسل المعرّب للذبح؟ أليس لأنّه بصمتنا وخنوعنا، ليس بيننا من تنطبق عليه كلمات المعلم، وليس بيننا من يستنير بنورها؟ هل بيننا من يسكن تلك اليوتوبيا، أو يسعى إليها على الأقلّ؟ معلّمنا الذي أرادَنا كذلك، قتلناه وقطعنا يده التي تكتب على اللوح، وسنقتله ألف مرة أخرى إذا تجرّأ، ونقتل كل من يشدّ على يده التي قطعناها.
ولكن، لا عليك يارا، نظّمنا اليوم مظاهرة، وصرخ بعض أغبيائنا: “رائع … رائع … هذا هو الحلّ الصحيح”! هل تسمعين يارا؟ هذا هو الحلّ الصحيح، القاطع المانع … مظاهرة! سنصرخ فيها بوجه الحكومة: أنتِ القاتل! وستضحك الحكومة حتى تنقلب على ظهرها: “كل شيء يسير على ما يرام”!
غريب كيف يتّهم معظم مثقفينا، سياسةً لا تؤمن من التربية إلّا بعنفها، ولا يتّهمون تربيتنا التي تذدنب للسياسة وتدافع عنها؟ فهل عبثا في بداية العام الدراسي الحالي، أن أستاذا كبيرا ليس من إبناء جلدتنا، يعمل في إحدى الجامعات الكبرى في هذه البلاد، قال: “يدي على قلبي الآن، والطلاب يذهبون إلى مدارسهم، فوزارة التربية والتعليم، لا تعلّمهم إلّا أمرين اثنين لا ثالث لهما: الكذب والعنف”! ألا يستحقّ صاحب هذا القول وزنه ذهبا؟ ليس لأنّه جريء يُصادم السلطة ويفضح عُريها، ولكن لأنّه يستفزّنا، لا لنتساءل فقط: “بأيّ ذنب قُتلت”؟ وإنّما لنسأل ونتساءل ونسائل: بأية أيدٍ نضع أولادنا فلذات أكبادنا؟ ويريد ذلك الأستاذ أن يلفت انتباهنا أيضا، إلى أنّه ليس عبثا، أنّ عددا ليس بقليل من المفكرين والباحثين في مجال التربية والتعليم، في هذه البلاد، من أبناء جلدتنا وغيرهم، غير راضين عن مناهج التربية والتعليم. أليست مسمَّمة؟ فمن سمّمها؟ وربما الأهمّ: من يُساند تسميمها؟ ومن يجب أن يُناهضه؟ ألسنا نحن؟ لذلك يريدنا أن نسأل ونسائل: أين نحن مما تقترفه وزارة التربية والتعليم بحقّ أولادنا يوميا؟ لماذا لا يخرج صوتنا إلاّ عندما نبكي؟ أولسنا في الحقيقة نتباكى كالنساء على وطن لم نحافظ عليه كالرجال؟ وكان لا يروق لي هذا القول، “ستبكون كالنساء على وطن لم تحافظوا عليه كالرجال”، لأنّني كنت أشتمّ فيه رائحة إعلاء الرجال (الذكور) على النساء (الإناث). ولكنّه راق لي كثيرا بعد سمعي مثقّفا معروفا، يُفسّر مفردتَيِ “الرجال” و”النساء” تفسيرا جديدا باهرا، أنّ مفردة “النساء” قد تعني الرجال، ومفردة “الرجال” قد تعني النساء، كما جاء ذلك في تفسيره للقوامة في قوله تعالى: “الرجال قوّامون على النساء”. فهو يرى أنّ مفردة “الرجال” هنا تعني الأقوياء، والأقوياء قد يكونون من الرجال والنساء. ومفردة “النساء” تعني الضعفاء، وهؤلاء أيضا قد يكونون من الرجال والنساء. وبذلك يُصبح التفسير أنّ القويّ قوّام على الضعيف، أي يتحمّل مسؤوليته ويقوم على دعمه وخدمته ليقف على رجليه. وما أكثر النماذج الفردية في حياتنا، التي تُثبت قوّة المرأة وقوامتها على الرجل في حالات لا عدّ لها ولا حصر.
من هذا المنطلق، ورغم الألم، أحببت القول المذكور، لأنّه يُصوّر حقيقتنا اليوم. فها نحن نبكي يارا، كما بكينا أخواتها وسنبكيهنّ، كالضعفاء، رجالا ونساء، وكما بكينا وما زلنا نبكي وطنا لم نحافظ عليه كالرجال، أي كالأقوياء، رجالا ونساء أيضا.
وعليه، وانطلاقا من واقعنا المثير للحزن والأسى والسخرية، ما دامت أقلام كتّابنا ومثقّفينا، الكبار والصغار، تكذب وتبكي عجزا، ولا تُعبّر إلّا عن ألم حامليها، وربما ألمنا أحيانا، ولا تستفزّ إلّا دموعهم، وربما دموعنا. وما دامت أقلامهم تغضّ النظر عن مصالحهم، الخفيّة المفضوحة في آنٍ معا، مصالحهم التي تُساند جريمة السياسة في التربية، وجريمة التربية في السياسة، إلى ذلك الحين، ستظلّ يارا وأخواتها يُنحَرن، وسيظلّ إخوتهنّ يُنحرون بدمائهنّ. ولن يُحرّك المشهد فينا إلّا ألسنة وأقلاما ودموع تماسيح، وصحافة تحتفي بالشائعات والأكاذيب التي تسبق الخبر أو تلحقه، أكثر مما تحتفي بحقيقة الخبر نفسه، لا لهدف إلّا لملء الصفحات بالجعجعة الكاذبة وملء نفوسنا بكل ما هو شرّ، ومساهمة منها في إلهائنا وإعدادنا للبكاء والتباكي على الضحيّة القادمة! فهل تُريد الحكومة أكثر من ذلك؟
فيا عزيزتي يارا، لنا أسلحة لا تُطلق إلّا للخلف، إذا أطلقت. فسلام عليك يوم ولدت ويوم ذُبحت ويوم ستذبحين، سلام عليك منّي، من عاجز لا يشعر بالذنب، ويُدرك أنّه يقول عجزا وليس حكمة: خذي حذرك من الآن فصاعدا، كوني قوية ولا تثقي بأحد، كوني قويّة وتحمّلي مسؤولية روحك وجسدك، ومسؤولية حاضرك ومستقبلك! وإن لم تفعلي، لا أقول قد تكونين ضحيّتنا القادمة، بل أجزم، إن بقيت حالتك وحالتنا هذي الحالة، ولم نستفق، وبقينا غارقين فيما نحن غارقين فيه من سُبات، نستمرئ ضعفنا ونتلذّذ بجهلنا وتخلّفنا وخنوعنا … ولم … ولم … ولم … أنتِ، نعم أنتِ، ضحيّتنا القادمة