جرأة الإصدار
اقتنيت الديوانين في أمسية أقيمت لإشهارهما، في ملتقى الفنار العكّي، في مدينة عكا، بتاريخ 17/11/2017. وفوجئت من خلال تصفّح الغلافين وصفحتي البيانات، بأنّ أولهما، “الرساؤلات”، صدر في الشهر الماضي، تشرين أول 2017، وثانيهما، “كطاوي ثمانٍ”، صدر في هذا الشهر، تشرين ثانٍ 2017، الموافق لأمسية الإشهار. ولم أكن أعرف أنّ للشاعر إصدارات سابقة، وبعد أن عرفت زاد إلحاحي على التساؤل: ما الذي يدفع شاعرا لإصدار ديوانين في وقت واحد، علما بأنّ إصداره السابق، “سادر” (2014)، لم يمرّ عليه وقت طويل؟ ولماذا لم يجمع قصائد الديوانين في واحد؟ وهل هناك سبب لذلك غير الغزارة وتراكم القصائد التي لم يكن الشاعر قادرا على إصدارها فيما مضى؟ وهل ترتيب القصائد في الديوانين جاء تاريخيا يُمكّن الدارس من تتبّع مراحل تطوّر إبداعه الشعري، أم لاعتبارات أخرى لا علاقة لها بتاريخ الكتابة، وقد يكون لها علاقة بالشكل والمضمون وغيرهما؟ هذه الأسئلة وغيرها، ثارت لديّ قبل أن ألج النصوص، الأمر الذي دفعني بعد قراءة بعض نصوص الديوانين، للبحث عن كتابات سابقة حول ما سبق من انتاج الشاعر، ولم أجد إلّا القليل القليل.
العنوان بين التقليد والتجديد
كان الشاعر موفّقا ومجدّدا في اختياره لعنواني الديوانين رغم ما فيهما من نهج كلاسيكي. صحيح أنّ “الرساؤلات” هو عنوان إحدى قصائد الديوان الأول، واختيارها عنوانا له هو نهج متّبع وليس فيه تجديد، ولكنّ المفردة نفسها، “الرساؤلات”، نحتها الشاعر بشكل غير مسبوق، من كلمتين هما: الرسائل والتساؤلات، وليس المساءلة أو المساءلات كما ذهب البعض، لأنّه لو قصد الشاعر المساءلة أو المساءلات، لوجبت كتابة الهمزة منفردة وليس على واو. هذا بالإضافة إلى أنّ قراءة قصائد الديوانين تُؤكّد أن الشاعر يسأل ويتساءل أكثر مما يُسائل. وإذا فهم القارئ أنّ الشاعر يُسائل فإنّما يتأتّى ذلك من خلال مساءلته لنفسه التي تنبع من كثرة أسئلته وتساؤلاته التي تنبع من ذاته التي لا تنفصل عن الذات الجمعية. ومن يقرأ قصيدة “الرساؤلات” نفسها في الديوان، سيجد أنّها عبارة عن مجموعة من التساؤلات النابعة من ذات الشاعر، ولكنّه يُوجّهها كرسائل إلى المتلقّي ليُقاسمه همومه التي قلّما تبدو ذاتية فردية فقط. وشأن هذه التساؤلات في القصيدة، شأن الكثير من نصوص الديوان التي تقوم على حوار مباشر أو غير مباشر سعى إليه الشاعر ليُوثّق العلاقة بين النصّ والمتلقّي.
أمّا التجديد في عنوان الديوان الثاني، “كطاوي ثمانٍ”، فيظهر في عدم اختيار الشاعر له كواحد من عناوين قصائد الديوان، وإنما اختاره عبارة وردت في إحدى القصائد، وهي قصيدة “المتوجّس” (ص 25)، التي يستهلها الشاعر بعبارة “كطاوي ثمانٍ”، وفيها تناص واضح مع الحطيئة في قصيدته المشهورة:
“وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما”
ولكن لماذا اختار الشاعر “ثمانٍ” بدل “ثلاثٍ”؟ رغم وفرة رموز العدد (8 – ثمانية) في الحضارات وعبر التاريخ، لم أجد في القصيدة أو في الديوان، إشارة أو سببا غير التغيير الذي يدعمه الحفاظ على المدّ المتوفّر في “ثمانٍ” كما هو في “ثلاث”، والتكثير الذي يُظهر عمق قلق الشاعر، وخوفه المتمثّل في حالة التناقض الذي أصبح يُعانيه في المكان/الوطن. فهو، كما يراه الشاعر، الوطن ذو “الرمل المرموض” و”السواقي الشهية”، والشاعر يعيش فيه خائفا قلقا، (أخشى “جرّة الحبل” كالملدوغ)، يرى خيرات الوطن (السواقي الشهية وعالي الثمار) ولكنّه عاجز قاصر عن بلوغها، (عينيّ على عالي الثمار / وأينعت / “أتشابى” / لكن “حبالي قصار”).
وأمّا عناوين القصائد، فهي أيضا تُؤكّد قلق الشاعر وحضور الغياب والقلق في ذاته وفي شعره. فعنوان القصيدة لدى أسامة ملحم غالبا ما يكون مفردة واحدة، الغياب فيها حاضر بكثافة، فهي غالبا ما تكون مبتدأ خبره محذوف، أو خبرا لمبتدأ محذوف، ما سيدفع القارئ ليلج النصّ، لعلّه يفكّ سرّ الغياب، سواء كان ذلك الغياب متعلّقا بالذات الفردية للشاعر، وقد تُمثّله المحبوبة الحاضرة روحا الغائبة جسدا، أو متعلّقا بالذات الجمعية، وقد تّمثله الـ”نحن” الذين لم نعد “نحن”، أو متعلّقا بالمكان/الوطن، الحاضر بقسوة بكثرة رماده وضياعه وجفاف رمال صحرائه.
إذا أخذنا مثلا، “الغيمة” (الرساؤلات، ص 5)، عنوان القصيدة الأولى في الديوان، سنجده مبتدأ مغرقا في الغياب، رغم أنّنا سنجد خبره في النص، ولكن بكل تأكيد، ليس الخبر الذي نريد، فالغيمة عادة خبرها المطر، والمطر موجود بكثرة في قوله: “كل هذا المطر”، أمّا هذه الغيمة تحديدا، فخبرها الصحراء، والصحراء تعني الجفاف والخواء. إذن فهذه الغيمة كاذبة ومطرها زائف، ودليل ذلك قوله “لا غدير يجري”. وهكذا هو الوطن عند أسامة ملحم، صحراء، مطر غيمها لا يروي الأرض، فضاء سمائها هجره السنونو، وهل تكون سماء فلسطين بلا سنونو؟ عيون ناسه جاحظة بلا أفق، وشموعه لا عقول تُشعلها … وما إلى ذلك من تساؤلات لا تُفضي إلّا إلى الصحراء والخواء. فهل من خبر سارّ يأتي من الصحراء؟ وعليه فإنّ هذه القصيدة ومعظم أخواتها في الديوانين، تُعبّر عن مدى شعور الشاعر بالاغتراب عن ذاته الفردية والجمعية، وضياعه في مجتمعه الهشّ الذي يغشى عيون ناسه الرماد.
وحتى عندما يتجاوز العنوان المفردة الواحدة إلى عبارة، سواء تركّبت من مفردتين أو أكثر، ففي هذه الحالة أيضا، سيجد القارئ أنّ حضور الغياب والقلق فيها بارز ومثير يُحفّزه على ولوج النصّ واستجلاء أغواره بما فيها من غموض وجمال. ففي القصيدة / الومضة، “أرض واطئة” (الرساؤلات، 92)، نجد التنكير يشي بالغموض والغياب اللذين يقودان للنص، لنعرف عن أية أرض واطئة يتحدّث؟ وربما من مكامن الجمال في هذا النص، أنّ الشاعر لا يُصرّح كثيرا، قال إنّ هذه الأرض “ستشرب ماء غيرها / وأبناء غيرها معا”، وترك للمتلقّي عناء تحديد هوية تلك “الأرض الواطئة” أو البحث عنها. وقد لا يكون الأمر صعبا إذا كان المتلقّي يعيش بعض معاناة الشاعر؟
الاغتراب والضياع مقابل الذاكرة والأمل
في ديوانين يحتفلان بقصيدة النثر في حوالي 140 نصّا، يطغى الشعور بالبؤس والقلق والاغتراب الذي يُفضي إلى ضياع ذات الشاعر الفردية والجمعية. وهذا الشعور يُخيّم على قول الشاعر، خاصة في ديوان “الرساؤلات”، لأنّ الحالة التي يمرّ فيها الوطن، لا يمكن إلّا أن نراها كذلك، وإلّا، فما معنى الإلحاح على الصحراء والرماد والغبار في كثير من قصائد الديوان، إن لم يكن الهدف هو تكثيف صور الاغتراب والضياع، في وطن ضائع فقد ناسُه قدرتهم على التواصل معه والالتحام به؟
قد تكون قصيدة “المجد” (الرساؤلات، ص 7)، شاهدا على ذلك حين يقول الشاعر فيها: “هذه القصور القائمة / ويرقص البريق في بلورها المجلي / تتكتّم على هشاشة الرمل / تتمدّد على أرض عالية / ويأكلها الجفاف / يفتت أوصالها / لا شيء يبقيها قائمة / غير انحسار الريح / ونكوص العاصفة / وغضّ الطرف عن شرفاتها المباحة / الرماد يغشى العيون / الرماد العابر يوهم بالبقاء / الرماد في عروق الحلم”. الوطن هنا من الصعب أن يكون فلسطين وحدها، وإنّما هو الوطن العربي الكبير بما فيه اليوم من مظاهر مقلقة، زائفة، لا تفلح في ستر هشاشته وجفافه وتفتّته وقرب انهياره، لولا غياب المقاومة التي تغضّ الطرف عمّا يُستباح منها ومن الوطن، بسبب ما يُذرّه المستبيحون من رماد في العيون، يُوهم بالبقاء ويُعمي البصر عن كونه يضرب آخر ما تبقّى للإنسان، الحلم.
لا شك أن الصور التي يرسمها الشاعر، سوداء وشديدة السواد أحيانا، ولكنّ بعضها لا يخلو من بعض أمل يبثّه في بعض نهايات القصائد، لا ليُبيّن أن الصورة ليست سوداء أو قاتمة، وإنما ليدفع القارئ ليتشبّث بالأمل رغم قتامة الصورة وسوادها. وقصيدة “موطني” (الرساؤلات، ص 8)، تشهد بذلك. فرغم الصورة القاتمة التي رسمها الشاعر للوطن، بقي على حبّه له ” لو لقيتك – أنا – يوما / على جوعي / لالتهمتك ولو كنت حجر”. ونحن نلتهم الأشياء التي نحبّها.
ولكن، رغم قتامة الصورة وقلّة الأمل، تحضر الذاكرة بغزارة في شعر أسامة ملحم، ويحرص على ألّا تموت، حتى لو حضرت كل أسباب الموت، فهل من سبب أعظم من الموت؟ حتى في هذه الحالة، يلجأ الشاعر إلى ما يتعدّى الموت، إلى التقمّص، لحفظ الذاكرة، وذلك لأنّه يُؤمن أنّه لو مات كل شيء، الذاكرة يجب ألّا تموت. تشهد على ذلك، قصيدة أو ومضة “تقمّص” (الرساؤلات، ص 77)، وفيها يقول الشاعر: “في حياته الأخرى / يذكر العصفور ذابحَه / ورخامَ مذبحه / ورقصته الأخيرة / واتّشاح المشهد بالسواد”. فهل هناك مشهد مأساوي أكثر من الذبح؟ ومع ذلك نجد الشاعر يعيش في قميص آخر لتنتقل الذاكرة معه ولا تموت، لأنّها يجب إلّا تموت، لأنّ موتها في نظر الشاعر يعني الموت الذي لا حياة بعده.
قد يرى قارئ، أنّ الصورة في الديوان الثاني، “كطاوي ثمانٍ”، أقلّ سوادا من الديوان الأول. ربما يكون ذلك صحيحا، ولكن، ليس لأنّ سوادها أقلّ فعلا، وإنّما لأنّ الشاعر اعتاد هذا السواد، ولا أقول ألِفه، وإنّما غلّفه ببعض رومانسية وحلم، ليستعين بهما عليه. “قصيدة، أو ومضة “رماد” (كطاوي …، ص 35)، فيها بعض رومانسية، لأنّ فيها بعض حلم وحبيبة (مررتِ غدا)، أي أنّ مرور الحبيبة أصبح حلما، وفيها نار موقدة، وإحساس بالحرارة، لأنّ بقاء النار هو بقاء المعنى الذي يضمن عدم تحوّل الحياة إلى خواء. لكن، في القصيدة أيضا رماد غزير وفيها خوف من الآتي، لأنّ الإنسان عندما يرى الرماد يُفكر بأنّه يُخفي نارا، خاصة أذا كان الرماد حارّا، أمّ الشاعر فيخشى “نكش” الرماد لأنّه يخشى الخواء إذا خمدت ناره. وعليه فإنّ الصورة في هذه القصيدة، سوداء، ولكنّ الشاعر غلّفها بالرومانسية والحلم لئلا يفقد الأمل، ولتظلّ النار مشتعلة حتى ولو على شكل جذوة تحت الرماد.
ورغم تشبّثه بالرومانسية والحلم، لم يكفّ الشاعر، لا في هذه القصيدة ولا في غيرها، عن قلقه، ولا عن شعوره بالاغتراب والضياع، ولا كفّت لغته عن قلقها، لدرجة أنّ القلق أصبح سمة من سمات الشاعر واللغة في هذين الديوانين، وربما في شعر أسامة ملحم كله. لأنّ الكثير من نصوص الديوانين، يوحي بخراب يتوالى بشكل مقلق في الوطن، مما صدم الشاعر وجعله يشعر بالبؤس والمرارة اللذين سكنا قلبه وروحه فاغترب عن ذاته، الفردية والجمعية، وعن مكانه وزمانه اللذين يراهما يعيشان شرخا عميقا شوّه صورتهما الحاضرة.
قلق اللغة ولغة القلق
في نصوص الديوانين، حاول أسامة ملحم أن يكون ما عبّر به عن اللغة في قصيدة تحمل اسمها عنوانا، “اللغة” (كطاوي …، ص 93)، وقد نجح في ذلك إلى حدّ بعيد. في القصيدة، رأى الشاعرُ اللغةَ مهرة أصيلة لكنّها مقيّدة تراوح في إسطبلها يخالطها قلق الروح، وهو ذاته القلق الذي يخالط ذات الشاعر كما يُخالط القصيدة قلق الحروف والمفردات وقلق المعاني. ويرى الشاعرُ اللغةَ مهرة متوقّدة العينين لكن صهيلها مبحوح فيه حزن مكتوم، ورغم ذلك فهي تحلم بكسر قيودها لـ “ترمح” مع الريح بعيدا عن المألوف، لتكشف شعابا مجهولة تراها جديرة بحوافرها، لعلّ على صخورها العصيّة يكون لصوتها وقع جديد. وهذا هو حال اللغة، ففي القصيدة تشبه ضمني بين اللغة والمهرة، وقد يكون أبرز وجه للشبه بينهما هو الحاجة، حاجة اللغة إلى شاعر خبير يغوص وراء دررها ليصطاد معانيها التي تستعصي على غيره، وحاجة المهرة إلى فارس يعرف كيف “يرمح” بها مع الريح إلى شعاب مجهولة لم تطأها حوافر قبل حوافرها.
وعليه فإننا نجد في القصيدة، الكثير من التماهي بين اللغة والشاعر، محرّرها المنتظر، وبين المهرة وفارسها المنتظر الذي سيطلق حوافرها للريح لتنقر على الصخور أنغاما جديدة لم تُسمع من قبل. وعلى حدّ تعبير الشاعر ناظم حكمت: “أحلى القصائد تلك التي لم نكتبها بعد”، وهذا ما يبحث عنه أسامة ملحم، القصيدة التي لم يكتبها بعد، والتي سيُحرّر بها اللغة حين يكتبها، وتحرير اللغة يعني تحرير أو تحرّر أصحابها.
وهكذا هي نصوص الديوانين بغالبيتها، عبارة عن ومضات فيها الكثير من جمال اللغة وكثافتها. ولكن ذلك لا يمنع من أنّ ما يوحّد تلك القصائد هو تلك اللغة القلقة التي يغلب عليها ذلك القلق الذي يأكل الذات الفردية التي لا تستطيع إلّا أن تنصهر في الذات الجمعية، لأنّ ما يقلقها أكبر من أن يكون ذاتيا فرديا. وهذا هو حال أسامة ملحم في معظم نصوصه. ولكن ليس بالضرورة أن يكون قلق اللغة سيئا، فهو هنا انعكاس لقلق الشاعر من هذا الوضع الحرج الذي يمرّ به الوطن وناسه. والشاعر يُدرك أنّ تحرير اللغة لا يتأتّى بدون تحرير أصحابها.
وإذا كانت قصيدة “اللغة” (كطاوي …، ص 93) تُصرّ على تحرير اللغة من قيودها حين يقول على لسانها الشاعر: “لن أقف على أطلال درست / لن أعرج على خمارة البلد / لن أزور مواضع الوأد”، وكلها تشير إلى ضرورة تحرير اللغة وأصحابها من بعض موروثهم القديم على الأقل، فهناك الكثير من القصائد التي تُصرّ على تحرير أصحاب اللغة ليس من بعض موروثهم القديم فحسب، وإنما من كل الرواسب القديمة والحديثة التي تجذّرت في حاضرهم، وأغلقت عليهم وعلى لغتهم، تلك الشعاب التي تُفضي إلى الحرية التي يفتقدها الشاعر ووطنه ومجتمعه وناسه جميعا. وهذا هو المصدر الحقيقي لقلق الشاعر وقلق لغته.
في ومضة “المجد” التي ذكرتها سابقا (الرساؤلات، ص7)، يعرض الشاعر الكثير من أسباب الثورة، ولعلّه يستفزّ بها القارئ ويدعوه للثورة على قصور المجد الزائف التي يرقص بريقها، تتكتّم على هشاشة الرمل ويأكلها الجفاف و”لا شيء يُبقيها قائمة / غير انحسار الريح / ونكوص العاصفة / وغضّ الطرف عن شرفاتها المباحة”. في هذه العبارات تحريك للريح المنحسرة، ودفع للعاصفة التي لا يُثوّرها إلّا الريح العاتية، ولا يتأتّى ذلك إلّا بتحريك الشعب الذي يغضّ الطرف عن موبقات القصور التي ستبقى جاثمة على صدره ما لم يتحرّك. وسكوت الشعب عن موبقات أهل القصور، هو ما يجعلهم يتمادون، ولذلك يرسم الشاعر للوطن صورة قلقة تقوم على ما فيه من تناقض، إذ يراه كما في قصيدة “وطني” (الرساؤلات، ص 8)، خنجرا صدئا مغروسا في الخاصرة. ولكن، رغم كونه كذلك، فهو، رغم ما فعل به أصحاب القصور، يراه الشاعر خنجرا مثلوم الحدّ من جهة، ومن جهة أخرى يراه قويّا يردّ الموج فيضمحل زبده. وفي صورة أخرى، يراه من جهة بلا قيمة ككسرة خبز يابسة رماها أصحاب القصور على رصيف مهمل، ومن جهة أخرى يُقدّسه كما يقدّس الفقير كسرة الخبز اليابسة فيرفعها، يُقبّلها ثمّ يضعها على رأسه، ثم يخفيها في مكان آمن لكيلا تُداس. وهكذا تتتابع الصور في هذه القصيدة وغيرها من قصائد الديوانين، لتعكس مدى بؤس الشاعر، ومدى قلقه وخوفه على وطنه، ومدى حرصه على حمايته من كل ما يُهدّده.
الصورة: جمال البناء وعبثية التدمير
في ديواني أسامة ملحم، الكثير من الصور المركّبة الجميلة، التي تنطوي على كثير من الإيحاء. وهي تقوم على التوافق أحيانا، وعلى التناقض أحيانا أخرى، وتزداد جمالا حين يوظّف فيها الشاعر قدرته على خلق التشبيه الذي يُكثر من استعماله بأشكاله المختلفة.
ولكن، نجد الشاعر أحيانا، يبني صورة ثم يُتبعها بعبارة أو صورة أخرى، أحيانا تزيدها جمالا وأحيانا تُدمّرها بشكل عبثي ينمّ عن عدم اكتفاء الشاعر أو اقتناعه بالصورة وقدرتها على التعبير عن الفكرة التي أرادها، رغم أنّها جميلة ومقنعة. وقد يتأتّى ذلك نتيجة ضعف في تذوّق جمالية تلك الصورة بالذات، فيُتبعها بصورة أخرى تُدمّرها. وهنا يكون التدمير انعكاسا للتدمير الذي حدث للوطن ولذات الشاعر، الفردية والجمعية.
كنموذج للحالة الأولى، نأخذ ومضة “الشهيد” (كطاوي ثمان، ص 9): “على جمر صغير / كانت جدتي تُقطِّر (الماورد) / “في الطريق إلى السماء / يرتفع الشهيد / مثل روح الورد / تعلو لفضاء العَقْد” / قالت!!”. في هذه الومضة، يسرد لنا الشاعر قصة كاملة، قد يكون الراوي فيها هو الشاعر نفسه، يُحدثنا عن إحدى عادات جدّته التي كانت تُقطّر (الماورد) على جمر صغير، وأتبع حديثه بقول جميل لكن محير ومثير، فهو ليس له، بدليل أنّه وضعه بين مزدوجين. ونكاد ننسى لمن القول بسبب توقفنا عنده لجمال الصورة التي يتضمنها. فهو يقوم على التشبيه التمثيلي بين ارفاع الشهيد إلى السماء وارتفاع روح الورد في فضاء العَقْد (البيت العربي القديم ذي القناطر). توقف الشاعر هنا قليلا، (فهمنا ذلك من الفراغ الذي تركه)، ثم أتبع الصورة بعبارة “قالت”. هذه العبارة، ضرب بها الشاعر عصفورين شكلا ومضمونا. على مستوى الشكل، عرّفنا براوي القول الذي ورد بين مزدوجين، وهو الجدّة التي كدنا ننساها بسبب جمال قولها. ومعنى ذلك أنّه نقل السرد إلى راوٍ آخر، فأصبح السرد متعدّد الأصوات أو وجهات النظر. وهذا ضاعف من جمالية النص على مستوى الشكل. وعلى مستوى المضمون، العبارة “قالت” جعلتنا نرجع إلى ماضي الجدّة حيث كان للشهيد هيبة ومكانة فقدهما الآن. فكأنّ الشاعر أراد أن يقول: “كان هذا في زمن جدتي ولم يعد قائما في زمني/ زمننا”. ولو لم يذكر الشاعر عبارة “قالت”، لظلّ الراوي الثاني غامضا، وتداخل الأمر على القارئ بين جمال القول وما هي علاقته بالراوي الأول أو بجدّته.
وفي هذا النص، كما في غيره الكثير، نجد أنّ الشاعر يحتفي بالزمن الماضي الجميل، ويأنس به أكثر من الزمن الحاضر المشوّه والمدمّر.
أمّا في قصيدة “اللص والكلاب” (الرساؤلات، ص 63)، فالأمر مختلف تماما. ففي سرد جميل، التناص واضح فيه وفي عنوان القصيدة، مع رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ، وبلغة كثيفة، أشاد الشاعر/الراوي في المقطع الأول من القصيدة، بالكلاب التي تفضح صاحبها رغم أنّه يُشبعها. وبدا ذلك في منتهى الجمال في عبارة شديدة الكثافة، “عاشت براقش”، وما فيها من تناص مع قصة الكلبة المعروفة، “براقش”، التي فضحت “قومها”. وهنا يُطرح السؤال: هل كان الشاعر بحاجة للمقطع الثاني من القصيدة وما فيه من تقريرية رغم ما فيه من حكمة؟ ألم يهدم متعة القارئ التي جناها من المقطع الأول؟ برأيي، وهو قابل للنقاش، كان المقطع الثاني زائد عن الحاجة، شكلا ومضمونا، أذ لم يترك للقارئ مساحته المشروعة في الفهم ومتعة التأويل. ولذلك لم يزد المقطع الثاني عن كونه تدميرا لما جاء في المقطع الأول، شكلا ومضمونا، جمالا ومتعة.
وخلاصة القول، بعد هذه الجولة السريعة، قدّم لنا أسامة ملحم، بلغة جميلة شديدة الكثافة رغم قلقها، وجبات شعرية سريعة، كثيرة الدسم، يُقبل عليها القارئ بنهم حذر، لأنّ طعهما اللذيذ لا يشي بما فيها من تآلف وتناقض، ومن عمق وغموض، ومن مرارة وقلق وبؤس وألم، ومن ضعف وضياع وتشتّت، ومن أمل وصمود ومقاومة.
قبل قراءتي نصوص أسامة كنت خائفا بسبب اعتدنا عليه في الآونة الأخيرة من نصوص شعرية تقتل روح الشعر، إن وجدت، وكثيرا ما لا نجدها. لذلك بدأت بقراءة سريعة وسطحية بعض الشيء، لأقنع نفسي أنّني حاولت ولم أستطع المتابعة. ولكنّي فوجئت بنصوص شدّتني رويدا رويدا، وأرغمتني على الغوص إلى أعماقها. ولم تكن الأعماق قريبة، ولا كان الغوص سهلا.