من باب التقديم
قيل الكثير عن هذه الرواية وكتب الكثير كذلك، وما زلنا نقول ونكتب، وهذا ما يثلج الصدر حقيقة. يثلج الصدر لأنه دليل كاف وواف وشاف بأنّنا ما زلنا نقرأ أولا ونناقش ثانيا ونجمع بين القراءة والكتابة فننتقد ثالثا. وهذه الممارسات دليل صارخ بأنّنا ما زلنا نتنفّس وأحياءً نرزق أدبيا وثقافيا، وهي ممارسة حيوية ضرورية لهويتنا ووجودنا وبقائنا. ما تقدّم لا يعني بأي حال من الأحوال أن الراوية المحتفى بها الليلة فوق النقد، أبدا، فنحن على العموم نسعى ونطمح لقراءة موضوعية تنصف النصّ قبل الكاتب إذا كان النص يستحقّ ذلك فعلا! وهذا ما يؤمن به كتاب النص، بتقديري، إيمانا قاطعا. أتعبتني هذه الرواية! لأنني مطالب بموضوعية القراءة والنقد بصفة عامة، وبصفة خاصة حين يكون الكاتب أقربَ إليك من حبال كثيرة (وهو كذلك فعلا!).
بين الذاكرة والحكاية
يسعى محمد هيبي في هذه الرواية بكل ما أوتي من قوة وصبر ولغة إلى ترسيخ المنارة – ميعار – في وعيه وذاكرته أولا، وفي وعينا وذاكرتنا ثانيا، والحقيقة أن الرواية من هذا الجانب تقوم بفعل مطلوب وضروري وحتمي في ظلّ ما يسود الواقع من تحدّيات غرائبية سوداوية إلى أبعد حدّ، دون أن ننسى أن الكاتب في مسعاه هذا وصل أحيانا حدّ الغلو. وعلى العموم حاجتنا إلى الحكاية من جانب، وتحصين الذاكرة من جانب آخر تبقى حاجة ملحّة ليكون المستقبل أقلّ ضبابية وتماسكا وتمسّكا بالمنارة والوطن والأرض. ولا عجب إذا والحالة كذلك أن يدعم الكاتب شخصياته ويمهّد لها الطرق مهما كانت وعرة كثيرة المزالق، فالمنارة وحبّ المنارة عنده في حكم المقدّس. وهو بذلك لا يختلف كثيرا عن مسار الرواية الفلسطينية حتى نهاية الانتفاضة الأولى، التي حرصت على البطولة والانتصار، غالبا، تأكيدا للموقف الأيديولوجي المتمثّل في حقّ الشعب في الأرض والوطن والدولة. فالعهد الذي قطعه الأعفم على نفسه، “عهده مع المنارة بألّا يموت إلاّ فيها أو في الطريق إليها أو وهو يحلم بها، وذلك أضعف الإيمان” (ص:156). يدعم هذا الموقف بشكل واضح، فلقد ظلّ محمد الأعفم مخلصا وفيّا لهذا العهد حتى النهاية. وفي ظلّ هذا المشهد من الالتزام والوفاء، لا شكّ أنّ الرواية تجد لها مكانا كرواية أخرى تضاف لروايات النكبة وحكايتها وذاكرتها.
الواقع والتاريخ والفكاهة
لا ينسى الكاتب أنّ سعيه من أجل المنارة يلزمه كذلك “القفز” والتنقل بين الماضي والحاضر، لتثبيت العهد وصونه. وهو بذلك لا يجعل من هذا المستوى مقطوعا عن محور الرواية – المنارة – بل يشكّل دعامة حقيقية لها. وهكذا نرى أنّ النص يعجّ بأحداث من التاريخ الفلسطيني، بطبيعة الحال، والعربي (مصر وجمال عبد الناصر بصفة خاصة). ومن الطبيعي بتقديرنا أن يحظى الريّس ومصر جمال عبد الناصر بهذا الاهتمام من قبل الكاتب، والذي امتدّ على مساحة بارزة من الصفحات في الرواية. هذا الاهتمام مردّه لأمرين:
– التوافق والتلاؤم الأيديولوجي عند الكاتب وطروحات الريّس السياسية والاشتراكية المعروفة.
– وهي محاولة من الكاتب للهرب من الواقع المأزوم والبحث عن بصيص أمل وإن كان تاريخيا انقضى وولى منذ عهد.
والدين الذي أفرد له الكاتب مساحة لا يستهان بها في النص والأحداث، محاولا قدر المستطاع التمييز بين الحقيقي والمزيف والأصيل والدخيل في هذا المجال، من خلال ربطه بالمحور الأهم وهو السياسة، كتدليل على صدق طر وحاته وضرورة حماية الدين من هذا التداخل. إلى حدّ قد يتهم فيه الكاتب بالتجاوز (كما هو الحال مع جاره الشيخ صلاح الدين في الرواية) نظرا لحساسية الموضوع وإشكاليته. ولا يغفل عن تأكيد وحدة الصف الدينية، الرافضة للطائفية والطائفيين أيا كان نوعهم، كركيزة أساسية في مسيرة النضال.
إلى جانب الواقع السياسي والديني يحرص الكاتب على تسليط الضوء على مستوى آخر لا يقلّ أهمية عن المستويين السابقين، وهو المستوى الاجتماعي، حيث يتداخل القديم والحديث. البدائي البسيط المريح الهادئ مقابل التكنولوجي والتقني المتطور بوتيرة جنونية والضاغط في الوقت نفسه. يعجّ هذا المستوى بحنين الكاتب إلى القديم رغم قلته وبساطته، وربما تكمن أهميّة هذا الاسترجاع المتواصل في الرواية للماضي والقديم في هذه البساطة تحديدا دون غيرها. وهو الحريص هنا على تفاصيل هذا القديم – الأصل من مأكل ومشرب وملبس، وهي ممارسة تحسب له لا عليه في هذه الحالة لضرورتها في تحصين الذكرة والحكاية التي تقدّم ذكرها. وطبعا لا يغفل الأعفم وهو الميعاري حتى النخاع، في هذا النصّ على الأقل (والواقع بتقديري كذلك)، عن نوادر الميعارية وطرائفهم، التي ذاع صيتها وانتشرت في محيطها وربما تجاوزته كذلك. وعلى سبيل المثال حكاية عمّه (وهي واحدة من نوادره الكثيرة) مع المرأة التي أكرمته بالغداء وأثقلت عليه باستجداء المديح والثناء على مهارتها في الطبخ، ولئن يقول لها بأنّها “معدّلة” تساوي عندها الدنيا وما فيها. ولكن المرأة تناست للحظات أن الرجل ميعاري سرعان ما يحتدّ طبعه ويتعكّر مزاجه لأبسط الأمور، فكم بالحري بامرأة تلحّ في الطلب والسؤال. وهكذا كان فانقلب مدحه شتما وتقريعا. لكن الأهم في هذه النوادر والطرائف هو حضورها في النص الأدبي بصفة عامة وفي هذا النص بصفة خاصة. هي ملح الكتابة القادرة على التحصين والدفاع في أن معا. تعزيز المناعة النفسية وردّ كلّ ما يهدّد الأعفم وحبيبته المنارة.
ثنائية المنارة والمرأة
لا أخفي عليكم أنّني تردّدت كثيرا في الحديث عن هذه الثنائية في الرواية رغم أهميتها ومركزيّتها. ومردّ ذلك إلى تعامل الكاتب الإشكالي بتقديري مع هذه المسألة، أو مع المرأة في هذا النصّ. ولست هنا بصدد الحديث عن المرأة بمفهوم الأدبي النسوي، أبدا، ولكن المرأة التي يبحث عنها الأعفم. ولكن بعد عملية تمحيص وتنقيب وفرز نقول ما للكاتب وما عليه في هذه الثنائية. أولا أصاب الكاتب لمّا أوجد المرأة في النص، وهذه ضرورة حتمية ما كان للنصّ أن يستقيم بدونها. حاجته إلى منارة بلحم ودمّ يفجرّ فيها ومعها كلّ الكبت الذي يعانيه، هي حاجة النصّ أولا، لأنّ الحديث عن المنارة – “الرجّمة” (كومة الحجارة) بهذا الفيض الذي لا يعرف حدودا سيبقى جافا مثاليا يصل حدّ الملل. وهكذا كانت المرأة (سلوى الأعفم) هي التجسيد العملي والأنثوي للمنارة، والكاتب يقرّ، حدّ الفضح في النص، بهذه الثنائية. فكانت العلاقة مع سلوى الأعفم ملحّة وسلسلة إلى حدّ كبير، رغم محاولات الكاتب بإظهارها في مظهر العلاقة المعقّدة أو الغريبة أحيانا. وما كان لهذه العلاقة أن تفشل أبدا، تماشيا مع المعادلة السابقة: المنارة – المرأة من ناحية، ولأنّها نتيجة طبيعية لعلاقة الأعفم مع المنارة التي فاقت كلّ شيء وألغت كلّ شيء إذا لم يكن موصولا بها بشكل من الأشكال، من ناحية أخرى. هذا ما له، أمّا ما عليه فهو طبيعة العلاقة مع المرأة (سلوى الأعفم) في المراحل الأولى منها تحديدا. فقد كانت سلوى الأعفم المبادرة لكلّ رسالة أو اتصال أو اقتراح، ولنا أن نسأل، لماذا؟ ويلحّ السؤال أكثر في ضوء المعادلة السابقة: المنارة – المرأة. فإذا كانت المنارة بالنسبة للأعفم عالمه كلّه، يقبل ويرفض من أجل عيون (المنارة) ويحبّ إرضاء لخاطرها كذلك، ويُقبِل على كل مواجهة، مهما بلغت خطورتها، إذا كانت تقرّبه منها، ولا يتردّد في التنازل عن كل ثمين في سبيلها بنفس القدر بالضبط. فلماذا، والحالة متطرفة إلى هذا الحدّ، لا يكون هو المبادر لا سلوى الأعفم. وبتقديري إذا كان الأعفم يقدّر كلّ الأمور بميزان المنارة، فلن يتردّد بتقدير هذه اِلإشكالية وتفسيرها بالميزان نفسه. نهاية النص التي تجسدّت بالتلاحم بينه وبين المرأة، بينه وبين سلوى الأعفم، أو امرأة المنارة على حدّ قوله، فيها كذلك متابعة لنهج الرواية الفلسطينية حتى مرحلة الانتفاضة الأولى على وجه التقريب، من ترسيخ البطولة وصورة الشخصية – البطل أو ما يعرف “بالنهاية السعيدة” ليتم التوافق والتعالق بينها (النهاية) وبين المستوى الأيديولوجي عند الكاتب نفسه، كما أسلفنا. ولنا أن نسأل: إذا كان النصّ يبدأ مع المنارة – المكان (أو الرجّمة، كتعريف محدد لها يستخدمه الكاتب وأهل المنارة من قبله كإشارة لما بقي منها بعد الهدم والتشرد)، وينتهي النصّ بالتلاحم مع سلوى الأعفم – امرأة المنارة، فلماذا تنازل كاتبنا عن المنارة كعنوان محتمل أو بديهي لهذه الرواية، فمن خلاله يجمع المنارة – “الرجّمة” والمنارة المرأة، أولم تكن المنارة بوجهيها سعيه المنسحب على جميع أحداث النص. فلا شكّ أن طاقتي التأنيث والتلخيص الكامنتين في هذا العنوان المقترح، تجعلانه طبيعيا أكثر وقريبا أكثر من النصّ. وبهذا يستغل الكاتب كلّ فضاء متاح من فضاءات النصّ ليرسّخ فيه المنارة وحضورها. ومن نافل القول إنّ العنوان، كعتبة من عتبات النص، يشكّل أهم هذه الفضاءات على الاطلاق.
في النهاية
على العموم تمثّل هذه الرواية لَبِنَة إضافية في المشروع الرامي إلى توثيق التراث والتاريخ وحفظ الذاكرة والحكاية من التشوية والضياع، وما أقربنا من التشويه والضياع! فهي بذلك تشكّل مصدرا هاما لهذا التراث والحكاية التي نجدّد العهد معها دوما، كما هو حال محمد الأعفم وعهده مع المنارة. كما يصوّر الكاتب فيها، بحدس المشرّد والمهجّر واللاجئ وقلقه، مفهوم السعي وطرفه الآخر الطبيعي وهو الفقد، لتأكيد حكاية المشرّد والمهجر وترسيخ حجار ة المنارة وغيرها عميقا في تراب الوطن لئلا تضيع البوصلة ويُنكث العهد.