*قراءة في رواية نجمة النمر الأبيض للكاتب محمد هيبي*
رواية “نجمة النمر الأبيض”، وهي الرواية الأولى للكاتب الدكتور محمد هيبي، الصادرة عن مطبوعات الطيرة – حيفا، والتي تقع في 368 صفحة من القطع المتوسط، العنوان لا يحتاج الى تحليل فالكاتب أشار في صفحة الهوامش على مدلول عنوان قصته والتي تعني (المرأة التي لا يقاوم سحرها). تتناول الرواية قصة رجل على مشارف الستين من عمره، أستاذ متقاعد لم يستطع أن يتمرّد على ذاكرته فكبلته بالحنين، ليتنفّس الحكاية تلو الحكاية عن قرية غارت في سويداء قلبه، دمّرها الاحتلال ولكن شعاع منارتها بقي قبلة يصبو بكامل حواسّه نحوها لكي يقيه من التيه والحرمان.
المنارة هي رمز للوطن المحتل الضائع، وهي المحور الرئيس للأحداث، والبوصلة التي كان قلم الكاتب يوجهنا نحوها داخل النص دون انقطاع، ليعبّر عن الانتماء الحقيقي في ظل التشرذم والانقسام الذي فتّت جسد القضية على موائد النزاعات الفئوية والحزبية، بالرغم من أن الرواية وضعت في قالب سردي استذكاري طغى على وجود حدث كان يتطور ببطء شديد، فالقصة تتناول قضية كهل عصف به حب متأخر لم يفصله عن منارة شغفه بأن كان جزءا منها، فالشخصية المحورية داخل النص والتي تمثلت في محمد الأعفم جعلتنا محاصرين في ذاكرتها، التي كانت تُسقط وتربط كل ما تراه في حاضرها على حكايات وقعت في الماضي، فذروة الحبكة تمثلت في لقاء محمد بسلوى هذا اللقاء الذي تطور ببطء شديد على حساب ذاكرة البطل السارد للحدث، فالنص كان أقرب لمذكرات شخصية، ربما تكون ملكا شخصيا للكاتب نفسه حيث أسقطها على شخصيته بكل ما تحمله من أفكار تتعلق بالقضية الفلسطينية والموقف من ما يسمى بالصحوة الدينية المتأخرة والتي تتجلّى اليوم بأقصى تطوّرها فيما يسمى بـ “داعش”، وأفكار مسبقة طرحها عن العولمة وتأثيراتها والتي فرضها الكاتب في نصّه على القارئ بوعي كامل لا يخلو من الانحياز لفكره.
فالكاتب لم يطرح قضايا بأبعاد مختلفة جعلت القارئ يتفاعل معها بحيادية، بل وضع أفكارا مبنية على قناعة شخصية وموقف شخصي مسبق التكوين عنده ليُدخل القارئ في حيّز ما يفكر به، فهذا الاسلوب جعلنا نتخيل أنّ الكاتب نفسه هو بطل الرواية لأنّ أسلوب السرد ساهم في تكوين هذه الفكرة لدى القارئ حيث لم يكتف الكاتب باتباع أسلوب واحد بل تنوّع من حيث استخدامه للتبئير الداخلي والخارجي فتنوعت صيغة السرد وصوت السارد كما ورد في القصة وعلى سبيل المثال، “يسبح محمد الأفعم في ذكرياته” و “موعد اللقاء يقترب وشوقه اليها يستعر”، وهنا دلالة على التبئير الخارجي. وتجلّى الأسلوب الثاني في جعل صوت السارد متماهيا مع صوت الشخصية مثل: “عن قصد استعملت كلمة مجرم” و “كنت كل مرّة اختلق لهم عذرا” و “أقول في نفسي”، وهنا يظهر التبئير الداخلي. ولكن ما يميّز السرد هنا هو قوة توظيف الكاتب لمونولوج الشخصية الرئيسية حيث استطاع أن ينقلها للقارئ بكل صدق بجميع تفاعلاتها، ولكنّ المأخذ الوحيد هو استرسال الكاتب والاسهاب في طرح أفكار متشابهة طغت على الحدث بما قد يتسبّب بحالة من الملل لدى القارئ وخاصة في أول 100 صفحة من الرواية، حيث خلت من أحداث واعتمدت على مونولوج الشخصية بأفكار متشابهة، معتمدا كما ذكرت سابقا… على الاستذكار.
وهذا السرد الاستذكاري للوقائع أدّى الى وجود تنوّع في القصص المرتبطة بتجارب الشخصية في الماضي وهذه القصص الثانوية لم تكتب عبثا فهي رمزت لمجموعة متنوّعة من القضايا أراد الكاتب أن يضع القارئ بشكل متعمّد في حيّزها اللغوي، وهذه القصص الثانوية تمثّلت في قصة حمدة التي حملت الكاتب منذ طفولته الى حب المنارة، القرية المهجرة التي زارها معها ذات قدر، ومن هنا بدأت حكاية المنارة التي برع الكاتب حينما ربطها بالمرأة وهذه النظرة لم تختلف بل امتدّت الى ربطها بقصة سلوى البطلة المحورية المرتبطة بالحدث الرئيسي للرواية.
ومن القصص الأخرى التي ظهرت داخل النص، ما ارتبط بالتراث الاجتماعي للشخصية، وتمثلت في قصة “بائع البيض” وقصة تقديس المقامات والمزارات وقصص أخرى مرتبطة بحياة والده ووالدته وما عانياه من لجوء وتشريد. وهنا ينقل الكاتب قضية الوطن المحتلّ. وأخذ الكاتب منحنى آخر في سرد قصة “أبو فرحان” التي تمثّلت في النضال الفلسطيني وويلات النكبة والنكسة وتجذّر الفلسطيني في أرضه، وقصص أخرى لها أهمية خاصة فيما يتعلّق في القضايا القومية والوطنية مثل تطرّق الكاتب كل حين الى قصة جمال عبد الناصر والقومية العربية حيث يبدو أنّه على قناعة شخصية تامّة بهذه الحركة القومية السياسية رغم انهيارها بعد موت عبد الناصر ومن هنا أوجّه سؤالا للكاتب عن وجهة نظره حول حركة القوميين العرب وهل لها وجود في وقتنا الحالي في ظل الطائفية والحزبية وحروبها التي قسمت الوطن العربي؟
كما أنّ هناك قضايا كثيرة وصورا من الواقع الفلسطيني حركت قلم الكاتب، مثل ما نقله إلينا عن قضية حجّ والدته وما حملته من رمزية عن الوطن والإنسان الفلسطيني وما سببته له النكبة من ويلات التشتت، كما تناول قضايا غياب الهوية الوطنية والانسانية في ظل العولمة وانحصار تطلّعات الأجيال الجديدة نحو تحقيق أهداف ساذجة يُحرّكها ما يوجّه إلينا من ثورة في الاتصالات والتكنولوجيا، وهذا برز في طرح الكاتب عن غياب الانتماء للقضايا المحورية الوطنية والانسانية وكيف انشغل الناس عنها لمصالح ذاتية وهذا ظهر في تناوله لكيفية إحياء أبناء الوطن لمناسباتهم الوطنية والقومية لتصبح تقليدا فارغا بلا معنى المراد منه التسويق للحزبية والعنصرية والمرأة وما يتبع هذه الصور من شقاق ونزاع بين افراد الوطن الواحد، وانشغال الآخرين ممن لا يهتمون بالقضايا الوطنية بالرتابة والروتين ليكشف لنا حالة الانهزامية التي يعاني منها ابناء الوطن المحتل، كما تطرق الى موضوع التعليم تحت ظل الاحتلال وما يعاني منه من سياسة التجهيل والتطبيع والذي يحمل الفلسطيني بجهله جزءا كبيرا من ما ينتج عن هذا الوضع من تداعيات تنعكس على المستوى الثقافي والانتمائي للفرد.
ظهر الحوار (الديالوج) داخل النص بمنحنى وطابع هام جدا رغم انحساره في عدة مواضع ولكنّه جاء مطولا ليفي بالغرض من الاسهاب فيه وهو تناوله لقضايا أيديولوجية نقل الكاتب فيها وجهتي نظر مختلفتين ومتصارعتين حول القضية المطروحة. وأول هذه الحوارات كان بين محمد الأفعم ( البطل) والشيخ وهنا يطرح الكاتب قضية مهمة وهي قضية ما يسميه البعض بالصحوة الدينية وما تطرحه من تعصّب فكري لا يخلو من مصالح وأهداف شخصية تتّخذ من الدين غطاء لجشعها، وحوار البطل مع المحاضرة حيث ينقل وجهتي نظر اسرائيلية وفلسطينية متخاصمة على الأرض والانتماء والوجود وحوار البطل مع القاضي والتي اخذت رمزية عالية فيما يقوم به المحتلّ من عمليات قتل وترهيب وطمس وتزوير للهوية الفلسطينية، وحوار البطل مع البطلة سلوى برمزيّة عاطفية جمع فيها الكاتب المرأة بالأرض ليضعنا في زخم فكرة سامية تزجنا في رحم الانتماء وكينونته وهويته.
بالنسبة للشخصيات فكانت شخصية البطل هي الشخصية المحورية وباقي الشخصيات هي شخصيات ثانوية تدور في فلك البطل وتظهر في جزء من النص ثم تختفي بشكل كامل في حين ظهور شخصية ثانوية أخرى.
جاءت اللغة بشكل سرديّ سليم، يتخلّلها الطباق والتضاد وبعض الصور الفنية التي ظهرت بشكل مبسّط لم ترهق النص ولا القارئ، واستخدم الكاتب الرمزية في طرحه لبعض القضايا والأسماء مثل (حكومة الحليب والعسل، البلد الشقيق، عربوتانا، البيت المهدد، عملاء الداخل، السيد الجديد وغيرها، وهذه الرمزية لم يخفَ مضمونها وكان من السهل على القارئ كشف مراد الكاتب منها، كما ظهر تكرار كبير لبعض الكلمات داخل النص مثل: “قدس أقداسه”، “الزمن” و”المسافات”. كما أنّه تمّ تكرار نفس الكلمة أكثر من مرّة في نفس الفقرة مثل ما وردت كلمة “المنارة” في فقرة لا تتعدى عشرة أسطر بمعدل تسع مرات في ص 93.
وفي النهاية، سيظلّ السؤال الأكبر الذي تطرحه الرواية بالنهاية المفتوحة التي تركها الكاتب للقارئ: هل سيعود البطل الى المنارة ليجدها تعمّرت من رجمة أحجارها كما كان يتصورها في ذاكرته؟ ربما نحن بانتمائنا وبجهدنا نستطيع بعد زمن أن ننهي القصة ونعمّر في منارة الزيتون بيتًا يضم محمد وسلوى لينغلق بهدوء باب الحكاية المفتوح على مصراعيه والذي يشهق بألف سؤال عن الآتي.
أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.