(هذه المداخلة قدّمت في أمسية تكريم الكاتبة في نادي حيفا الثقافي يوم الخميس، 1/12/2016)
هذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها شيئا للكاتبة شوقية عروق. ولذلك، حين طُلب منّي الحديث في هذه الأمسية، رحبّت بالفكرة، إذ وجدتها فرصة أتعرّف فيها على الكاتبة وكتاباتها. بالطبع، لا أستطيع الحكم على مسيرتها الأدبية، إلّا من خلال مجموعتها الأخيرة، رغم أنّ لها الكثير من الإصدارات في مجال القصة والشعر والمقالة السياسية.
أعرف أنّ تجربة الكاتبة غنيّة، فاسمها حاضر في المشهد الثقافي والأدبي، بغض النظر عن موقعها الفكري والسياسي. أقول هذا لأنّني أعتقد، أنّ تحوّلا فكريا سياسيا، قد حدث لديها مؤخرا. فقد كانت تنتمي لإطار مختلف، وما كانت لتتركه لولا ذلك التحوّل الفكري والسياسي الذي حدث لديها. وأنا، رغم انتمائي السياسي الواضح والثابت للحزب والجبهة، لم أكن منتميا لأيّ اتحاد أدبي. ما أريد قوله هو أنّنا اليوم، أنا وشوقية عروق، ننتمي إلى اتحاد أدبي ثقافي واحد، هو اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين. هذا التحوّل الأدبي والتنظيمي لديها، قد سبقه بلا شكّ، تحوّل فكري وسياسي معيّن، قد يكون أثّر على كتاباتها.
سأقصر الحديث على بعض جوانب مجموعتها القصصية، “سرير يوسف هيكل”، التي تضمّ ثلاثا وثلاثين قصة، وجدت فيها أنّ الكاتبة قطعت شوطا ملموسا في كتابة القصة القصيرة.
تعكس المجموعة، أنّ الكاتبة أصبح لديها خبرة ليست قليلة في كتابة القصة. فهي تتقن طرق السرد والتعامل مع الضمائر على اختلافها، ولكنّ عملية التنويع والتنقّل بين الأصوات المختلفة، تواجه ضعفا يكاد يكون ملاحظا في معظم قصصها. هذه العملية ليست سهلة، لأنّها لا تتلاءم كثيرا مع القصة القصيرة التي لا تتسع للكثير من الأصوات، وتعتمد غالبا على الصوت الواحد. وهذا الأمر، إلى جانب التنقّل بين الأحداث، يُؤثر على سلامة الحبكة، التي يرى القارئ أنّ الكاتبة تجتهد لتخرجها قوية متماسكة، إلّا أنّها تفلت منها في بعض قصصها فتترهل وتفقد بعضا من تماسكها. ومع ضرورة تفادي هذه العيوب، إلّا أنّنا نجد أنّه حتى كتّاب القصة القصيرة الكبار، يقعون في مثل هذا المطبّ أحيانا.
الأمر ذاته، قد نلاحظه في لغة الكاتبة، لغتها غالبا قوية كثيفة تتنقّل بين مستوياتها المختلفة وتساعدها على انسيابية السرد، بينما نجدها تخونها أحيانا، فتقطع تلك الانسيابية. في لغة الحوار مثلا، تدمج أحيانا بين الفصحى والعامية بدون داعٍ.
ويُلاحظ في لغة الكاتبة أنّها مولعة بالوصف، وخاصة في بحثها عن عبارات وأوصاف خارجة عن المألوف، وكثيرا ما تنجح، إلّا أنّها أحيانا ترهق القارئ بعبارات تقطع غرابتها انسيابية القراءة ومتعتها. أضف إلى ذلك بعض الأخطاء اللغوية أو المطبعية التي تشوّش فكر القارئ وتنزعه من اندماجه أو انسجامه مع النص.
ولكن، جدير بالذكر أنّ الكاتبة في كثير من نصوصها تعتمد في لغتها على السخرية. والسخرية في الأدب، هي من أقوى التقنيّات، من جهة للتعبير عن ألم الكاتب وألم أبطاله، ومن جهة أخرى للتعرية والفضح. والكاتبة في نصوصها، تحرص على تعرية المجتمع والسلطة السياسية وفضحهما.
في معظم قصصها، رغم أنّها تفسح للحلم حيّزا ملموسا، تعتمد شوقية عروق الاتجاه الواقعي، بأبعاده الاجتماعية والسياسية بشكل خاص.
وهي تُعطي للمرأة بشكل خاص أيضا، حيّزا ملموسا تحاول فيه أن تنتصر لها، خاصة تلك المرأة التي تعاني الظلم والاغتراب في مجتمعنا، ولكنّها وبشكل لاواعٍ، لا تخفي ظلم المرأة للمرأة أو استغلالها لها، كما يبدو ذلك في قصتي “سوار تحمل حزاما ناسفا” و”سيدات يوم الجمعة” وبشكل خاص (ص 172)، في قصة “هزيمة رجل أمام كمّامة الصمت”. في هذه القصة أيضا، يجدر التوقف عند كيفية تعامل المرأة مع الرجل! لا شكّ عندي أنّ مجتمعنا مجتمع ذكوري يقمع المرأة ويُهمّش دورها، وهذا ما أرفضه بالطبع. ولكن أرفض أيضا أن تتوجّه المرأة إلى الحلول الخاطئة. مثل القتل مثلا أو التفكير فيه لحلّ مشاكلها. فما معنى أن تشدّ الزوجة الكمامة على وجه زوجها وتضع السكين جانبا بعد أن شعر بالعجز؟ إذا كانت المرأة لا تستطيع العيش، أو تحقيق ذاتها إلّا مع رجل مهزوم أو عاجز، فذلك يعني أنّها تستحقّ ما يفعله بها. الرجل يجب أن يتعامل مع المرأة كشريك ورفيقة درب، والمرأة كذلك يجب أن تنظر إلى الرجل من المنظور نفسه، لكي يستطيعا معا خلق مجتمع يكون فيه الاحترام متبادلا بين الأنا والآخر عامة. وبين الرجل والمرأة بشكل خاص.
ولكن، كل هذا لا يعني أن شوقية عروق تكتب أدبا نِسْويا، بل أدبا إنسانيا يتسع لكل أبناء مجتمعها وشعبها الفلسطيني، في الداخل بشكل خاص. ولذلك نجدها في فضاءات قصصها تمنح الناصرة حضورا بارزا، ولكنّها قد تخرج إلى مدن وقرى أخرى في الداخل، ولا تخشى أن تدخل المطار وتل أبيب وحتى “بني براك”. بمعنى أنّها تُدرك في قصصها أنّ هناك الآخر غير العربي، وتُدرك خصوصية العلاقة به سلبا أو أيجابا.
شوقية عروق في قصصها، تعاني من التشظّي النفسي والشعور بالضياع والاغتراب، وهو شعور يُلازم معظم شخصياتها، خاصة النسائية. وهذا يعني أنّ الكاتبة تعيش بصدق، معاناة الإنسان الفلسطيني عامة وفي الداخل بشكل خاص. فهو حيثما وجد لا يُفارقه هذا الشعور. وإذا كانت تمنح نهايات قصصها بعض الأمل، فذلك لا يخفي تشاؤمها وشعورها بالإحباط في كثير من قصصها. هذا واضح في قصة “سرير يوسف هيكل” وغيرها.
في هذه العجالة، سأتحدّث بإيجاز حول عتبات النص في المجموعة، وحول نموذجين من قصصها.
عتبات النص، هي كل ما يسبق النص من غلاف، عناوين، إهداءات، فهارس، مقدمات، نصوص ممهّدة وغيرها. هذه العتبات هي مداخل تحمل مفاتيح أساسية لدراسة النص وفهمه ونقده. وقراءة هذه العتبات قراءة سيميائية، تعني أن نتعامل مع هذه العتبات كإشارات أو علامات لها وظائف دلالية هامّة، منها التعيين والإيحاء والإغراء، وكلّها قد تُؤثّر على القارئ، فتشدّه إلى النص أو تُنفّره منه.
في المجموعة التي بين أيدينا، لفت نظري بشكل خاص عتبتان للنصّ، عنوان المجموعة، “سرير يوسف هيكل”، وصورة الغلاف التي يتصدّرها السرير وخلفه مبنى أثريّ قديم جار عليه الزمن، بينما يُشكّل البحر خلفية واضحة لهذه المعالم. وبما أنّني لم يسبق لي أن سمعت عن يوسف هيكل وعلاقته بيافا، وبالسرير والمبنى الأثري، رُحت أبحث عن القصة التي تحمل المجموعة عنوانها. معنى ذلك أن الكاتبة كانت موفقة في اختيارها لهذه العتبات، لما فيها من إيحاء وإغراء، يشدّان القارئ إلى ولوج النص. ولذلك بدأت قراءة المجموعة بقصة، “سرير يوسف هيكل” (ص 148).
بعد قراءة المجموعة كلها، اخترت الحديث عن قصتين: “أحلام بائع فلافل” و”سرير يوسف هيكل”. هاتان القصتان، تمثل الأولى منهما الاتجاه الاجتماعي وتأثيره على الاتجاه السياسي، بينما الثانية تمثّل الاتجاه السياسي وتأثيره على الاتجاه الاجتماعي. وكلاهما تمثلان واقعا اجتماعيا وسياسيا يعيشه الإنسان الفلسطيني، على المستويين: الفردي والجمعي.
في قصة “أحلام بائع فلافل”، ومن خلال أحلام اليافع، بطل القصة، الذي يحلم بحياة يستمدّها من أفلام رعاة البقر (الكاوبوي)، لما فيها من حركة درامية يرى فيها البطل تحقيقا لذاته وأحلامه، الأب يدوس أحلام ابنه، باعتبارها وهماً يدلّ على فشل الابن. ويتابع الأب دوس أحلام ابنه حتى حين يتّخذ من صور أخيه الذي اختفى، نموذجا يُحتذى، حين علمت العائلة أنّه “التحق بإحدى المنظمات الفلسطينية وأصبح فدائيا، وقد وصلت إليهم صوره مرتديا اللباس العسكري المرقط وفي يده رشاش. وبدأ جسده (أي الأخ) يدخل في حلمه” (ص 12). هذا الحلم أيضا لم يرق للأب بحجّة ما جاء في (ص 13): “الفسّادين بفسدوا علينا يابا، … بخاف يعملوا من الصور قصة طويلة عريضة … خليك في الكاوبوي أحسنلك …”. وبعدما يُوفر الأب لابنه “كشك فلافل” ليعمل فيه، نزولا عند رغبة الأم التي رأت بابنها ولدا ذكيا، أحلامه تُعبّر عن رغبته بالابتعاد عن المدرسة، انتبه هو، أي الابن، أثناء عمله، أن كل شيء يسخر منه وأنّ شيئا ضاع منه، فبدأ يشعر أنّه مجرّد قرص فلافل منتفخ بالعجز والترهّل …!” (ص 14). في هذه القصة نرى كيف أنّ المجتمع الجاهل والعاجز، المتمثّل بالأب والأم، لا يُحسن توجيه أبنائه، يقتل أحلامهم ويصنع منهم نماذج للجهل والعجز. وهذا يمنع تطورّهم الاجتماعي والسياسي كأصحاب قضية يجب أن يُدافعوا عنها.
في القصة، توجد إشارة واضحة إلى التخلّف الاجتماعي المتوارث في المجتمع العربي، وإلى العجز السياسي الناتج عن هذا التخلّف الذي ساعد في ضياع الإنسان وضياع الوطن. وهناك إشارة إلى أنّ التخلّف والعجز، ولّدا الفساد الاجتماعي والخوف منه، متمثّلا بالوشاة، الفسّادين عملاء السلطة، وخوف الأب من شرّهم. وبما أنّه “شرّ أهون من شرّ”، رضخ الأب لحلم ابنه الأول، حياة فتيان الكابوي، التي لا طائل منها. ما يعني ترسيخ الفشل.
أما في قصة، “سرير يوسف هيكل”، فقد استطاعت الكاتبة أن تحملني من الميكرو إلى الماكرو، من الصغير إلى الكبير، أو من الخاص إلى العام، أو من الجزء إلى الكل. فلم تعد المأساة مأساة السرير من إهمال وتقطيع ثم اهتمام تجاري، أو ما أسمته الكاتبة، “سوق الأثاث المستعمل المزروع بالدكاكين التي تعرض الأثاث بطريقة الخبث التجاري” (ص 149)، وإنّما صارت مأساة أكبر بكثير، هي مأساة فلسطين التي قُطّعت وبيعت في أسواق الخبث السياسي، وصار سرير يوسف هيكل معادلا موضوعيا لفلسطين ويوسف هيكل صار هو كل فلسطيني له نكبته الخاصة والعامة. ولا أدري إذا كانت الكاتبة، أو منسّق الكتاب، قد انتبها لتثبيت هذه القصة في الصفحة 148، وسواء كان ذلك عن قصد أو بدون قصد، فإنّ الرقم 48 الماثل هناك، له دلالاته في نفس كل إنسان فلسطيني، ويُؤكّد أنّ المأساة ما زالت حاضرة، كما أن الاقتلاع والنهب والبيع والتقطيع والخراب، كلّها ما زالت ماثلة تنهش في نفس الكاتبة وفي نفوسنا جميعا. وتقطيع السرير وبيعه في سوق البضائع القديمة، لم يعد تقطيعا للحديد، والبيع ليس مجرد حركة تجارية، وإنّما التقطيع هو تقطيع في اللحم الحي، يُعبر عن تشظّي النفس الفلسطينية، والبيع يُعبّر عن منفاها واغترابها.
تقوم القصة على حدث مركزي واحد، هو تقطيع السرير علي يد ابن الرجل الذي اشتراه، وهذا الرجل، ينظر إلى عملية التقطيع، بحزن وحسرة وعجز، والشعور بالعجز، يتمثّل بـ (دفن البارودة وعجز الأب عن منع عملية التقطيع، وبالدموع التي يذرفها وهو يرى ابنه يُمارس عملية التقطيع). ولهذه العملية دلالات كثيرة. فقد تكون بالنسبة للابن، محاولة للتخلص من عبء الماضي، أي النكبة، الذي أرهقه وكشف عجزه السياسي أو الاقتصادي. ولكنّ الدلالة الأهمّ والأكثر حزنا في نظري، هي أنّ عملية التقطيع الجارية في فلسطين حتى اليوم، لا تمارسها عناصر خارجية فقط، وإنّما داخلية أيضا. ومن هذا الحدث، تقطيع السرير، تتداعى الذكريات ويغوص الراوي في الماضي بما يحمله من مأساة السرير التي تسقطها الكاتبة على نكبة فلسطين واستمرارها، حيث نرى التاجر اليهودي يُنكر معرفته بأصل السرير وكونه منهوبا من بيوت المهجّرين من يافا. وإنكار هُوية السرير، هو رمز لمحاولة إخفاء الهُوية الفلسطينية ومحوها. واستعادة السرير تُمثل فرح التمسّك بالهُوية، لأنّ بطل القصة يشتريه ليوم فرحه وزواجه، ولكنّ الاستعادة، تمرّ بعملية بيع وشراء يكتنفها الكثير من الخبث والمساومة السياسية المستمرة حتى يومنا، ما يجعل الخراب والضياع، ماثلين أمام عيني الكاتبة، ويكشف ألمها وقلقها من استمرارهما.
ورغم أنّ لدى الكاتبة، في هذه القصة وغيرها، الكثير من التشاؤم والإحباط، إلّا أنّها لا تفقد بصيصا من الأمل. فإن كان الشاب قد قطّع السرير كبداية للتفريط به، نتيجة للظروف الراهنة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، إلّا أنّه لم يُفرّط بالكرات الذهبية الأربع التي كانت تُزين أطراف السرير. يقول الشاب لأبيه:
– طيب يابا، علشان صاحبك “أبو هيكل” راح أخليلك هدول …!!
وناوله أربع كرات ذهبية اللون، حيث ما زال الدهان (الطلاء) الذهبي متوهّجا …!!!
هذه النهاية المتفائلة، لا نجدها في قصة “أحلام بائع فلافل”، ما يعني أنّ النهايات لدى الكاتبة، ليست دائما متفائلة. ما يعني أيضا أنّ خراب الواقع الذي يدفع للكتابة، ما زال مُسيطرا يُفقد الكاتبة قدرتها على التفاؤل.
وقد يُؤكّد ما أدّعيه، لجوء الكاتبة أحيانا إلى السخرية السوداء اللاذعة التي أعتبرها أقوي وأصدق أسلوب للتعبير عن القهر وضرورة فضح أسبابه واستفزاز الذين يُعانون منه. لضيق الوقت، سأكتفي بنموذج واحد.
السخرية كتقنيّة فنيّة، تقوم على 4 تقنيّات أخرى هي: المفارقة والتناقض والمسخ واليوتوبيا، أو المثالية. في قصة “أحلام بائع فلافل” نموذج جيد للسخرية المبنية على المفارقة والتناقض والمثالية، كتعبير عن الألم والقهر والعجز. فالأب الذي نعت ابنه بالفاشل لأحلامه بأبطال الكاوبوي، تراجع عن موقفه وناقض نفسه حين قال لابنه “خليك في الكاوبوي أحسنلك”. وهذا الموقف لم يكن متوقّعا من الأب، لولا أن جاءه اللامتوقّع، حلم ابنه بشخصية أخيه الفدائي، فقهره وأرغمه على التراجع. والعبارة نفسها، “خليك في الكاوبوي أحسنلك”، أصبحت وضعا مثاليا بالنسبة للأب إذا ما قورن بالوضع الآخر المرفوض، أي التشبّه بالأخ الفدائي.
وختاما، شوقية عروق كاتبة مستفَزَّة ومستفِزَّة، في لغتها ومضامينها، استطاعت في معظم قصصها، أن تُذكّرنا وتحذّرنا وتحرّضنا.