قراءة في رواية “مسك الكفاية”
١٤ تموز (يوليو) ٢٠١٥
مسك الكفاية، أو “سيرة سيّدة الظلال الحرّة”، هي رواية للكاتب الفلسطيني النابلسي، باسم خندقجي، الأسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي البغيض، والمحكوم عليه منذ العام 2004 بالسجن المؤبّد ثلاث مرّات. تُسْرَد الرواية في مسارين متوازيين: رحلة السبي التي وقعت ضحيّتها “المقّاء بنت عطاء بن سبأ” التي سباها من اليمن، جنود الخليفة العباسي، المنصور. ورغم ظفرها بحريتها على يد “الأنهد”، وإمكانية عودتها إلى ذويها معزّزة مكرّمة، أصرّت “المقّاء” على أنّها سبية الخليفة، إن لم تكن سبيّة “الأنهد” الذي خلّصها من أيدي جنود الخليفة، فطلبت منه أن يأخذها إلى بغداد، حيث بدأ المسار الثاني للسرد، الذي تحوّلت فيه “المقّاء” إلى “الخيزران”، ودخلت كجارية إلى قصر المهدي، ابن الخليفة أبي جعفر المنصور، الذي تعلّق وبنى بها، لتصبح أمّا لموسى الهادي وهارون الرشيد اللذين أصبحا بعد خلافة المهدي، قادة الدولة وخلفاءها. ولتلعب هي في حياة زوجها المهدي وابنيها، دورا ترك أثره في تاريخ الدولة العباسية، فقد أثّرت على مجرى الخلافة بقتلها لبكرها، موسى الهادي، ودعمها لابنها الثاني، هارون الرشيد، أشهر الخلفاء العباسيين، الذي اعتُبِر عصره العصر الذهبي للدولة العباسية.
ولكن، ما الذي أراد باسم خندقجي الوصول إليه من خلال روايته، غير الأهداف العامّة لكتابة رواية؟ هل أراد فعلا أن يتغنّى بحقبة زاهرة من تاريخنا العربي، أم أنّه وظّف ذلك التاريخ لأهداف مغايرة، لها علاقة بالواقع الراهن: العربي والفلسطيني، الذي انكشف له على حقيقته، في مواجهته مع ذاته في السجن، فأتت الرواية، وتوظيفها لتاريخ مميّز منتصر، تحمل مساءلة مضمرة لواقع راهن مهزوم، أراد الكاتب نقضه وتفكيكه وإعادة بنائه بشكل مغاير؟
يقول الناقد فصل درّاج في كتابه “الرواية وتأويل التاريخ: “رافق المتخيّل الإنسان منذ أن أدرك أنّ وراء الواقع المعيش واقعا آخر، أكثر جمالا أو أقلّ قبحا. ففي الزمن الذي يُساوي مكانه في السجن، وفي المتخيّل ما يُحرّر الزمن من مكانه ويجعله أكثر اتّساعا. وما الرحلات وتحصيل المعارف والتجارب الروحيّة السامية إلّا سُبل متعدّدة، توسّع المكان وتمدّ الإنسان بأجنحة غير منظورة” (درّاج، 2004، ص 18). وفي الزمن الذي يُساوي مكانه في السجن، خاض الخندقجي تجربته الروحية السامية، وحصّل من المعارف ما أمدّه بتلك الأجنحة، التي ساعدته على اختراق جدران السجن، والقيام برحلاته عبر المتخيّل وفضائه الرحب. وعليه فإنّي أرى أنّه ككاتب فلسطيني أسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي، لو أنّه كان حرّا طليقا، لا يُمضي في سجون الاحتلال حكما بذلك العدد من المؤبّدات، يُمكن النظر إليها كحقبة تاريخية مضت بصدور الحكم، أو ما زالت راهنة بحكم وجود باسم في السجن زمن كتابة الرواية وزمن كتابة هذه السطور، أو حقبة تاريخية قادمة، التحقت بالتاريخ، كأنّها صارت جزءا منه رغم أنّها لم تحدث بعد، وصارت بذلك جزءا من الواقع الذي أراد الخندقجي نقضه وتفكيكه، فلو أنّه كان حرّا طليقا في هذه الحقبة من الزمن، لما كتب هذه الرواية، “مسك الكفاية”، أو على الأقلّ، لما كتبها بالشكل الذي كتبها فيه. ولذلك، فإنّ كتابتها تُؤكّد أثر ارتباط الكاتب ونصّه بالواقع والبيئة اللذين ينطلق منهما. وفي حالة باسم، أولا، الواقع والبيئة اللذان زجّا به في السجن، وثانيا، واقع السجن وبيئته اللذان قيّدا جسده في زنزانته، وأطلقا فكره إلى عوالم رحبة، فاخترق جدران الزنزانة وحلّق خارج أسوار السجن، بحثا عن خلاصه وخلاص شعبه، أو عن مدينته الفاضلة التي تنقض الواقع وتتسع للجميع.
انطلق الكاتب من واقعه وبيئته ليكتب فيهما وعنهما، محاولا أن يجد السرّ الذي يَنْقُض به الواقع، ويجمع بين تناقضات الحياة أو يُلغي تلك التناقضات. وما من شكّ أنّ تلك التناقضات، هي ما دفعه، أو بعضه على الأقلّ، إلى البحث عن ذاته في متاهاتها، متاهات الحياة ومتاهات الذات معا.
تسمو التجربة الروحية الفردية، عندما لا تتقوقع في الذات الفردية، وتسمو أكثر عندما تسعى في بحثها عن سعادة الذات الجمعية أيضا. إذ “لا يوتوبيا … بلا تصوّر شامل يُمزّق المجتمع القائم، وينقضه بآخر قوامه فكرة السعادة الجماعية والطمأنينة التي تغمر الجميع” (م. ن. ص 23). وهذا في رأيي ما يسعى إليه الخندقجي، في واقعه وفي روايته التي ينقض بها الواقع ويبني عالمه المتخيّل، أو يُعيد تشكيله كما يحلم به.
تتقاطع حياة الكاتب السجين بشكل غير منظور، مع حياة الشخصية المركزية، “المقّاء” أو “الخيزران”، وتقوم الرواية على عدد من المتوازيات والتناقضات التي تجمع بينهما، وتُؤكّد علاقة التاريخي في الرواية، بالراهن المعيش في حياة الكاتب وشعبه الفلسطيني الذي يُشكّل الذات الجمعية التي يُريد الكاتب أن ينقض واقعها بحثا عن سعادتها.
قد يكون التناقض الأول في حالة باسم، يكمن في خروجه من فضاء الحرية، فضاء الوطن والمدينة والبيت والأسرة، ودخوله في ضيق القيد، ضيق الزنزانة والسجن، نقيض فضاء الحرية الرحب، خاصة إذا نظرنا إليهما من خلال باسم المقيّد المحاصر في سجنه، ومن خلال انطلاق فكره وخياله، في فضاء لا يقلّ رحابة عن رحابة العالم، الخارجي أو الداخلي. فالسجن مهما كان ضيّقا، لا يحدّ من انطلاق الفكر والخيال. فالفكر والخيال كالكون، لا حدود لهما. والذات التي تُحاصر السجين وتنكشف له، انكشفت لباسم وحاصرته، فواجهها وغاص فيها، واعيا أو غير واعٍ. هذه الذات، ذات السجين، يُمكن كذلك أن تكون برحابة العالم الخارجي إن لم يكن أكثر، لأنّها بشكل ما، تتسع له وتحتويه، رغم أنّها بشكل ولحظة ما أيضا، قد تضيق بفعل بدهي أو غريزي بسيط، بشربة ماء مثلا، أو بما هو أقلّ من ذلك أيضا. فالأمر يتعلّق بالسجين وقدرته على الاحتمال والصمود، وفي الوقت ذاته بتأرجحه بين القوّة المستمدّة من ذاته وإيمانه بقضيته العادلة، وبين الضعف المشروع الذي قد يُثقل عليه في لحظة ما، في مواجهته لواقعه الجديد، وذاته التي تَضعُف فتُحاصره وتضعفه، أو تستعيد الأمل فتشدّ من أزره.
خروج الكاتب من فضاء الحرية ودخوله ضيق الزنزانة، هذا التناقض يقودنا إلى بعض الخطوط المتوازية في الرواية وخارجها. في الخارج يقوم الكاتب برحلة قسرية من الحرية إلى القيد. وفي الرواية تقوم “المقّاء” برحلة مماثلة، من الحرية إلى القيد كذلك. والرحلتان رغم توازيهما، تقومان على تناقض غريب مشترك بينهما، يكمن في كون كل منهما تنطلق من الحرية إلى القيد بحثا عن الحرية! وذلك يشي بإصرار الكاتب على الجمع بين المتناقضات، أو هدمها، ما يشي أيضا بأنّه يجدّ السير بخطى واثقة، في بحثه عن مدينته الفاضلة التي تنقُض الواقع المعيش وتحمله إلى عالمه المرغوب الذي هو “نقيض كليّ لعوالم الإنسان المثقلة … بألوان العسف والاضطهاد التي لا تنقضي” (درّاج، ص 22).
وأول ما يشي بسعي باسم لهدم التناقض، هو كونه، لو لم يقم برحلته هو في الواقع، من عالم الحرية إلى عالم القيد والسجن، لما كُتِب لـ “المقّاء” التي صارت “الخيزران”، أن تقوم برحلتها في الرواية، من الحرية إلى القيد، بمعنى أنّ رحلة “المقّاء”، سببها وشرط وجودها هو رحلة الكاتب. وتناقض آخر بين الرحلتين، رحلة الكاتب ورحلة “المقّاء”، لا يقلّ غرابة عن الأول، يكمن في أنّ “المقّاء” هي التي اختارت القيد طريقا للحرية، وتمسّكت بإصرارها عليه، بالذات في اللحظة التي ملكت فيها حريتها، اللحظة التي أبلغها فيها “الأنهد” أنّه سيعيدها لذويها حرة معزّزة مكرّمة، فصعقته برفضها، في المشهد التالي:
” – … كما أنّني عزمت على الأمر الذي لطالما فكّرت به منذ إتياني بكِ إلى هنا. – ما هو؟ – عزمت على إعادتك إلى ذويك! – ولكنّي سبيّتك؟! – كلا … أنت حرّة وكريمة منذ أن عثرت عليك في القافلة العباسية … – سبيّة الخليفة إذن! – ماذا تقصدين؟ – لن أعود إلى ذويّ … لن أعود … أنا ملك يمين الخليفة … أنا هديّته … خذني إلى هناك … إلى قصر الخليفة. (مسك الكفاية، ص 141).
هذا الإصرار، يعكس وعي “المقّاء” بأنّ شيئا ما قد انكسر داخلها لحظة سبيها، فصارت سبيّة السلطة وضحيّتها، وأنّ الموقف الأخلاقي والإنساني النبيل الذي وقفه “الأنهد” منها، لم يُصلح ما انكسر، بل أبرزه وزاد من حدّته ووجعه. فأيقنت “المقّاء” أنّه لا يمكن لأحد إصلاح ما انكسر داخلها، إلّا “المقّاء” نفسها. ما يعني أنّها قامت برحلتها تحت ضغط سياط ذاتها الكسيرة، التي كانت حرة نقيّة قبل السبي. بينما الكاتب، لم يكن يملك حريته، حتى وهو خارج السجن، فقد قام برحلته من سجن أكبر إلى سجن أصغر، من حرية موهومة، مرتبطة بواقع شعبه الرازح تحت الاحتلال، رحلة من قيد إلى قيد قام بها قسرا. فقد قام إلى السجن تحت سياط الاحتلال الذي يُصادر الحرية في السجن وخارجه، ويُحاصر واقع الكاتب وواقع شعبه؛ احتلال يُنقض الحرية بكافة إشكالها، ويعيش على دماء أهلها.
لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فهناك متوازيان متناقضان آخران، لا يقلّان أهميّة في دفع الكاتب إلى القيام بالرحلتين: القيد المتمثّل بسجنه، والحرية المتمثّلة بروايته. فالرواية عامة هي فعل حرية، وبشكل خاص في كونها هدمت جدران السجن في حالة الكاتب، أو غيره من سجناء الحرية الذين لا يجدون حريتهم إلّا في الكتابة. وهناك، في الرواية وخارجها، متوازيان آخران متناقضان أيضا: راهن مهزوم وتاريخ ماضٍ منتصر. يستحضره الراهن المهزوم التاريخ المنتصر ويمنحه شرعية تمحو أيّة علامة سؤال قد تشوب انتصاره أو تُشوّه، رغم أنّ ذلك الانتصار في بعض جوانبه، هو انتصار السلطة القامعة على البسطاء المقموعين. ولا غرابة، فالكاتب الذي أهمل هذا الجانب واحتفى بغيره، حاول في روايته، أن يتجاهل سجنه أيضا. وفي رأيي أخفق في الحالين، في الأول، لأنّ الرواية تعجّ بقمع السلطة، وفي الثاني، لأنّه مضمر بين سطورها. وبعض الأسئلة المهمّة التي أرى أنّ الرواية تطرحها، هي: لماذا انهزم الحاضر بينما انتصر الماضي؟ ألا يُمكن للحاضر أن يكون منتصرا كالماضي؟ وكيف يُمكن أن يتأتّي ذلك الانتصار؟ أو ما هو الطرق إلى تحويل الحاضر المهزوم إلى حاضر منتصر؟ وهذه الأسئلة تُثير تساؤلات أخرى: هل يبحث الكاتب عن قرار كقرار “المقّاء”، أو عن نصر كنصر “الخيزران”؟ وهل أجوبة هذه الأسئلة، تكمن فعلا في رحلة “المقّاء” ونصر “الخيزران”؟ ومن هو صاحب القرار الذي يجب عليه ان يقوم بمثل تلك الرحلة؟ هل هو الكاتب، أم فلسطين، أم كلاهما معا؟
لا تُعطي الرواية أجوبة، وليس هذا من شأنها، إلّا ما شاء القارئ أن يرى. ولكنّها تحمل همّا وتعرض قضيّة وتطرح أسئلة، وتطمح إلى أن تُحرّك القارئ، تستفزّه فتقلقه وتحفّزه، ليقوم بالبحث عن الأجوبة، وربما أكثر من ذلك. وهنا يكمن سرّ الكاتب وعظمة روايته، ليس في شكلها ومضمونها فقط، رغم أنّ “مسك الكفاية” في غاية الأهميّة والجمال والإتقان، وإنّما فيما تطرحه من أسئلة، وفي الجهد الذي تدفع القارئ إلى بذله، بحثا عن الأجوبة، بحثه عنها ليس في مضمون الرواية وشكلها الفنيّ ولغتها فقط، وإنّما في ذاته، ذات القارئ، بقدر ما استطاعت الرواية أن تتغلغل فيها. ولا يمنعنا ذلك من وقفة خاطفة مع مضمون الرواية وشكلها الفنيّ.
من حيث المضمون، يعرض الكاتب تاريخا ماضيا منتصرا، يستحضره ويُعيد إنتاجه روائيا، ليس حبّا بالتاريخ، ولا حبّا بانتصاراته التي غالبا ما تكون انتصارات السلطة القامعة على حساب المنتصر الحقيقي، الشعب المقموع. وليس عبثا كذلك، ولا بدون علاقة بالراهن. ولكن، لا تكفي قراءة سطحيّة عاجلة، لكشف تلك العلاقة، علاقة التاريخ المنتصر بالراهن المهزوم. لا بدّ من قراءة عميقة ومتأنّية، إذ لا أشكّ بوجود تلك العلاقة، وسعي الكاتب إليها، سواء بفعل واعٍ أو غير واعٍ، إذ ليس عبثا يستلهم كاتبٌ التاريخ في رواية تنطلق من واقع راهن مثقل بالقهر والاستبداد، إلّا ليُسائل ذلك الراهن، خاصة عندما يعيش الكاتب تاريخ المقموعين الذين يحلمون بتاريخ عادل ومنتصر ينصفهم. ورحلة “المقّاء” السبيّة، سبية السلطة، سلطة الخليفة العباسي، رحلتها إلى “الخيزان” السبيّة الأخرى الطامحة إلى الانعتاق، هي رحلة الذات السبية المصرّة على حريتها، والتي لم تهدأ إلى أن انتهت إلى كسر القيد، والانتصار عليه. هذه الرحلة تطرح بشكل قد لا يغيب عن ذهن القارئ الواعي بالتاريخين: الماضي المنتصر والحاضر المهزوم، تطرح رحلة فلسطين السبيّة، الموازية لرحلة “المقّاء”، وحلم الكاتب السجين بتحوّل لدى فلسطين، مماثل للتحوّل الذي خاضته “المقّاء”، والذي ضَمِن لها نجاح رحلتها إلى “الخيزران”. يحلم الكاتب بفلسطين منتصرة على نفسها، انتصارا مماثلا لانتصار “المقّاء” على نفسها، ذلك الانتصار الذي أتاح لـ “الخيزران” لاحقا، فرصة الانتصار على السلطة. فلا انتصار لفلسطين على الاحتلال ما لم تنتصر على نفسها أولا، انتصارا تكسر به قيدها الذاتي، وتَنْصُب قامتها كنخلة ممشوقة تمرّدت على رمل الصحراء. وبعد ذلك فقط، يمكن للنصر الثاني، نصر “الخيزران، على السلطة، أو نصر فلسطين على الاحتلال، أن يتحقّق. وبعد النصر الأول كذلك، تُصبح كل تضحية مهما عظمت، شرعية، حتى لو اضطرّت فلسطين، كما “الخيزران”، أن تّضحّى في سبيل حريتها، بالغالي والنفيس، أن تُضحّي بأولادها، وأن تتخلّص من أولئك الذين يقفون حجر عثرة في طريق حريتها واستعادة مجدها، كما تخلّصت “الخيزران” من ابنها موسى الهادي الذي حاول لجم انطلاقتها، فقتلته لتفتح الطريق أمام ابنها الآخر، هارون الرشيد، الذي آزر انطلاقتها وساهم في بلوغها النصر والمجد المأمولين، وأهمّ منهما الحرية. ما يُشير إلى وعي الكاتب وموقفه من العقبات الداخلية التي تقف أمام شعبه، ووعيه بضرورة الخلاص منها أولا.
أمّا من حيث الشكل، فقد سُرِدت الرواية بالتناوب في مسارين مختلفين متوازيين. في المسار الأول، ألقي الكاتب بمهمة السرد على “المقّاء”. وألقى بالمهمّة في الثاني، على عاتق راوِ عليم كليّ المعرفة. وكل شيء محسوب. في المسار الأول سردت “المقّاء” قصّتها، منذ سبيها في اليمن، إلى أن تركها “الأنهد” في مدينة “تيماء”، أمانة في عنق عمّه “أبي عمرو” ضامنا بذلك تحقيق وعده لها ببلوغ هدفها، قصر الخليفة. يُؤكّد الكاتب بذلك، إصرار “المقّاء” على ضرورة قيامها هي بإصلاح ما انكسر في ذاتها. أي لا بدّ لها أن تنتصر على ذاتها لتخوض حربها الأخرى مع السلطة في المسار الثاني، رحلة “الخيزران”، حيث يتولّى السرد راوٍ كليّ المعرفة، منذ تحوّلت “المقّاء” إلى “الخيزران” ودخلت قصر المهديّ، وإلى أن حقّقت كل أحلامها، في خاتمة الرواية، حيث تستكين “في عباءتها. ثمّ تتنهّد وتحلم وتتنهّد وتحلم حتى مطالع دهرها المديد ومجدها التليد ثم تغفو … ثم تنام … تنام كما كانت … كما هي … كما ستكون … مقّاء لا تنحني … خيزران لا تموت” (مسك الكفاية، ص 337). اللجوء إلى الراوي العليم يُشير إلى أنّ الصراع لم يعد صراعا داخليا، بل تحوّل إلى صراع خارجي مع الآخر، لم يكن خوضه ممكنا إلّا بعد ظهور نتيجة الصراع الداخلي، صراع “المقّاء” مع ذاتها التي كان لا بدّ لها أولا، من إصلاح ما انكسر داخلها. بعد انتصارها على نفسها وانتهاء صراعها الداخلي، ظهرت الحاجة إلى الراوي كليّ المعرفة، لقدرته على ضبط الأحداث الداخلية والخارجية، أي ضبط ما في نفس “الخيزران” مع ما يحدث خارجها، على الأرض أو في نفوس غيرها من أناس وقفوا في طريقها. استمالت الداعمين منهم وشجّعتهم، وتخلّصت من كل من يعيق انطلاقها.
“الخيزران”، شخصية تاريخية واقعية، تتقاطع مع شخصية الكاتب في كثير من سماتها. استحضرها من تاريخ بعيد، وأعاد إنتاجها روائيا، لتلعب دورا، يحلم هو، كذات فردية وجمعية، أن يلعبه في الزمن الراهن. بينما “المقّاء”، شخصية روائية تُمثّل ما يبحث عنه باسم الآن أيضا، في لحظة الكتابة، عن انتصاره على ذاته التي كشفها السجن، وعن انتصار فلسطين على واقعها الذي كشفه الاحتلال. ومن ثم، يُمكن لهما أن يتحوّلا إلى رحلة “الخيزران”. أي أنّ بداية الصراع الخارجي مرهونة بانتهاء الصراع الداخلي، والتحوّل مرهون بالانتصار على الذات.
كل صغيرة وكبيرة في الرواية تستحقّ التوقّف عندها. وكل عبارة من عبارات لغتها لها دلالاتها التي قد تحمل القارئ إلى آفاق الخيال الرحبة، لتلقي به ثانية في أحضان الواقع المهزوم. لأنّها تستحضر التاريخ المنتصر، لتُسائل به حاضرا راهنا وواقعا مهزوما، تستحثّهما به ليسير المقموعون، أولا على طريق “المقّاء”. وليس عبثا سمّاها “بنت عطاء بن سبأ”، فقد أعطت وضحّت وانتصرت على نفسها بعد سبيها. والمقموعون، الكاتب ومن يُمثّلهم، مثلها أيضا، بحاجة للعطاء والتضحية والانتصار على النفس، لينتقلوا إلى المرحلة التالية، رحلة “الخيزران”، رحلة الصراع مع الآخر والمواجهة المباشرة مع السلطة، سلطة الاحتلال، الطريق الذي لا طريق سواه لمسح عار السبي الداخلي والخارجي. ولإعادة الواقع إلى مساره الصحيح.
كثيرة هي الأشياء التي أراها في “مسك الكفاية”، ولكنّ أهمّ ما فيها، هو كونها سيرة لسيّدة الظلال الحرة. وبما أنّها سيّدة الظلال الحرة، فهي سيّدة الخيال، وسيّدة الأحلام، وسيّدة المستقبل الذي يستشرفه الكاتب ويحلم به، وسيّدة الطريق الذي لا بدّ من سلوكه، لبلوغ ذلك المستقبل، نزع القيد، وامتلاك الحرية التي لا قيد بعدها.
وعلى ما تقدّم، فأنا أكتفي الآن بأن أرى في سيّدة الظلال الحرة، رؤية واحدة تلقي بظلالها على الرواية وعليّ، رؤية يُحوّلها الكاتب إلى رؤيا، من خلال سجنه وروايته بمساريْها المتوازيين: “المقّاء” و”الخيزران”. وتلك الرؤية الرؤيا، هي فلسطين التي انتُزِعت من الكاتب، كصورة لأيّ فلسطيني ما زال يتعذّب بذلك الانتزاع، وفلسطين التي انتُزِع منها الكاتب بالسجن، فانكشف من خلاله على ذاته، ومنها على واقعه المهزوم، فرفضه. بالضبط كما انكشفت “المقّاء” على واقعها ورفضته. تلك هي فلسطين التي يريد لها الكاتب، ولكي تتمكّن من التخلّص من عار السبي، أن تتمرّد كـ “المقّاء” على واقعها الداخلي، في النفس والقبيلة، وألّا تلتفت إلى براءة الطهر مهما كانت صادقة، ومهما عشقتها، فالحياة التي تدنّست بعار السبي، لا يمكن أن تنعم بطهر الحياة حتى مع الطاهرين، إلّا إذا غسلت عارها واستعادت طهرها ونقاءها اللذين سبقا عار السبي والتدنيس. وبعد ذلك فقط، تستطيع فلسطين أن تسلك مسلك “الخيزران”، وتغامر مغامرتها، معتمدة على نفسها وقدراتها، وتؤمن أنّه بذلك فقط، يستجيب لها القدر ويُسخّر لها من يقفون عونا لها في مسيرتها. كما يجب أن تُميّز، طوعا أو قسرا، في اعتمادها على أولادها، بين الذين تهمّهم كرامتها وحريتها، وبين أولئك الذين يعبثون بها تحقيقا لغاياتهم. ومثل هؤلاء العابثين، لا مناص من تنحيتهم عن الطريق، بالسيف إن لم يكن بغيره.
قد تكون “الخيزران” قد بلغت مسك الكفاية، بقولها لصديقة عمرها “خلوب”: “حقّقتُ ما كنت أشتهيه وأحلم به دوما” (مسك الكفاية، ص 334). وهذا بعد أن “هتفت بالجواري اللواتي سجدن إجلالا لها: – انهضن واذهبن فأنتن حرائر” (م. ن.).
وهذا يُؤكّد أنّ “الخيزران” أصبحت، ليس سيّدة نفسها فحسب، بل حرة قادرة على تحرير بنات جنسها أيضا. أمّا الكاتب السجين، فقد بلغ “مسك الكفاية” المؤقّت، بتحريره لـ “مسك الكفاية” الرواية. وهي خطوة مهمّة على طريق حريته وحرية إبناء شعبه، المدينة الفاضلة، أو “مسك الكفاية” الدائم.
ومن كل ما تقدّم، ومن هذه الرؤية بشكل خاص، تتضح في الرواية، علاقة الراهن بالتاريخ الذي استلهمه واستحضره الكاتب، لا ليتغنّى بأمجاد الماضي، هربا من ذلّ الحاضر فقط، وإنّما ليسائل الحاضر ويهدم الواقع الذليل المليء بألوان الظلم والقهر، يهدمه ليعيد إنتاجه، أو بناءه بما يتلاءم مع أحلامه وطموحاته، التي تتماهى مع أحلام فلسطين وطموحات شعبها. يبنيه لتنصهر الذات الفردية في بوتقة واحدة مع الذات الجمعية، في مدينة فاضلة، يؤمن الكاتب بإمكانية بنائها وتحقيقها، إن لم يكن في الواقع، فعلى أجنحة الحلم، وفي فضاء الرواية، التي كسرت قيد السجين، وكسرت باب الزنزانة، واخترقت جدران السجن، ثم حلّقت عاليا، شطر فضاء نابلس وفضاءات فلسطين كلّها، وهي وتنظر بازدراء واحتقار إلى السجن وسجّانيه السجناء، جنود الاحتلال المحبوسين في السجن وخارجه. تُحلّق وتصرخ في وجوههم المعتمة: تبّا لكم ما أغباكم، اكسروا قيدكم كما كسرت “المقّاء” قيدها! واخترقوا جدران زنازينكم كما اخترق باسم جدران الخزّان! الحريّة لسجناء الحرية، فهل فيكم أيّها السجّانون السجناء من يطمح أن يكون منهم؟؟!!
مراجع
.باسم خندقجي. مسك الكفاية، سيرة سيّدة الظلال الحرّة، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014
.فيصل دراج. الرواية وتأويل التاريخ، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2004