(ورقة عمل قدّمت لـ “المؤتمر العالمي الأول للأكاديميين الفلسطينيين في المهجر والشتات”، المنعقد في “جامعة النجاح” في نابلس بتاريخ: 10-11 / 04 / 2013. ونشرت بعد ذلك في الموقعين المذكورين سابقا)
هذه الورقة ليست طرحا سياسيا، وإنما هي أقرب إلى الطرح الأكاديمي الذي يشكّل مقترحا يحاول خدمة أهداف هذا المؤتمر، وإن كان الأمر لا يخلو من سياسة، لا بل ومن عاطفة أيضا. فهذه فلسطين التي نعشقها جميعا، ونعمل جاهدين منذ أجيال على بنائها. وقد أخذت هذه الورقة بعين الاعتبار أنّ أحد أهداف المؤتمر هو العمل على التواصل، ليس مع المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية فقط، وإنما مع فلسطين الأرض والإنسان أيضا.
لقد سبق لي أن قُمعت أكثر من مرّة. صحيح أنّ القمع الذي واجهته على منبر فلسطيني لم يكن لدوافع سياسية، وإنما بسبب عامل الوقت، ولكنّ القمع يظلّ مقيتا أيّاً كان سببه، لذا فقد كانت فكرة القمع هي الشرارة التي أضاءت هذه الورقة، التي أضعها بين أيديكم حرصا على جوهر البناء الفلسطيني، وعلى شفافية التعامل والتعاون فيه، واستشرفا لمستقبل لا يُقمع فيه صوت على منبر فلسطيني. ومن هنا أيضا، جاء عنوانها: “معركة البناء بين الحرية والإبداع والقمع”، وبالتأكيد، موضوعها جاء من صلب البحث الأكاديمي والأدبي الذي أعمل عليه.
البحث الأدبي على أسس علمية، لا يختلف عن أيّ بحث علمي يهدف إلى البناء. وأهداف هذا اللقاء بين أكاديميي الشعب الواحد، وما يرمي إليه هذا المؤتمر من تنظيم وتواصل وتُبادل الخبرات والآراء بينهم، كل ذلك يحيل إلى البناء. وهذا المؤتمر إذ يتوجّه إلى الأكاديميين الفلسطينيين، حيثما تواجدوا، ويجمعهم للحوار تحت سقف واحد، إنما يهدف إلى إرساء أسس بناء مجتمع فلسطيني قادر على تحقيق ذاته بذاته، وعلى اللحاق بركب الحضارة الإنسانية، في دولة فلسطينية مستقلّة تقوم على أسس ثابتة. مثل هذا البناء يحتاج إلى كثير من الركائز، ولكنّ الركيزة الأولى والأساسية، التي يتحقّق بها هي الحرية، الحرية الفردية والحرية الجمعية. هذه الركيزة، هي ما سيجعل الإنسان الفلسطيني يحسّ أنه تخلّص من الاحتلال واستعاد حريته وكرامته. ويعمل هذا المؤتمر أيضا على تطوير التواصل والتعاون بين الأكاديميين الفلسطينيين من أجل بناء المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية وتطويرها، ذلك لأننا مقبلون على بناءٍ أكبر، هو الدولة الفلسطينية. وهذا البناء العظيم لا يقوم إلّا على أكتاف أبنائه الأحرار، حيث يجب أن تتضافر جهود الأفراد والمؤسسات.
في أيّ مجتمع إنساني، إذا لم تكن الحرية بشكل عام، وحرية التعبير عن الرأي بشكل خاص، مكفولة للجميع، فلن تتمّ مشاركة الأفراد في عملية البناء وهم مؤمنون بما يفعلون، لأنّ العمل يحتاج إلى الإيمان، والبناء يحتاج إلى الإبداع، والإبداع شرطه الأول الحرية. وأيّ شعب من الشعوب، أدباؤه من كتّاب وشعراء هم ضميره، وكتاباتهم تعبّر عن آلام شعبهم وآماله، وتساهم في صنع وعيه وثقافته وبناء مستقبله. وكلنا ندرك حجم المحن التي عاشها شعبنا منذ النكبة، وما زال يعيشها حتى اليوم، وندرك أيضا، ما مدى الآمال التي يحملها ويصبو إلى تحقيقها. ولذا، يجدر بنا كأكاديميين يشاركون شعبهم نشاطه في بناء دولته المستقلّة، أن نؤمن أولا أنّ هذه الدولة يجب أن تكون حرة مستقلة تقوم على أسس ديمقراطية حقيقية وثابتة، تحترم حقوق الإنسان وتدافع عن كرامة أفراده وجماعاته، وتدرك أنّ حرية الجماعة تبدأ من حرية الفرد، ولا حرية للجماعة إذا كان الفرد مقيّدا. ولذا أيضا، يجب أنّ يقوم بناء السلطة، السياسية بشكل خاص، على أسس ديمقراطية واضحة وثابتة. القيادة السياسية يجب أن تُشكّل تعبيرا ديمقراطيا حقيقيا عن إرادة الشعب ومصالحه الوطنية. وعليها أن تؤمن أنّ السلطة والقانون هما آليّتان فقط لضمان حقوق الإنسان وضبط حريته، وليس للحدّ منها بأي شكل من الأشكال. لأنّ الحرية والقانون يرتبطان كرديفين وكنقيضين في آنٍ معا. القانون يحدّ من الحرية، ولكنه يضبطها ويدعمها باعتبارها حقّا طبيعيا لكل إنسان، به تتحقّق إنسانيته. القيادة السياسية هي السلطة المخوّلة بتطبيق القانون من أجل ضمان حرية الإنسان وحقوقه المختلفة، ومن أجل تنظيم حياة الفرد، الفرد المنتمي لذاته والمنتمي في الوقت نفسه إلى مجتمعه ودولته وتاريخه وتراثه. ولذا، على السلطة أن تراعي نوعين من الحرية يكفل القانون ألّا يتضاربا أو يتناقضا، وهما: الحرية الفردية والحرية السياسية. الحرية الفردية هي التي تضمن الحقوق الأساسية للفرد، وانعدامها يُفرغ كل الأشكال الأخرى للحرية من مضمونها. والحرية السياسية هي حرية الفرد القابلة للتطبيق في المجتمع والدولة. وهنا تكمن أهمية القانون الذي يحمي الفرد من المجتمع والسلطة، ويحمي المجتمع من الفرد والسلطة أيضا، لأنّ هذه الأخيرة، وفي كثير من الأحيان، تميل إلى الهيمنة، خاصة إذا لم يكن الفرد والمجتمع يملكان آليات مواجهتها. وهنا، تبرز أهمية مشاركة الفرد السياسية والاجتماعية، التي يضمنها له القانون والحرية السياسية معا، وتبرز أيضا حاجة تلك المشاركة إلى مستوىً يلائمها من الوعي، وهنا يبرز دور الأكاديميين في توعية شعبهم. والأمر يقود أيضا إلى حرية التعبير، التي تعني حقّ الإنسان في التعبير عن أفكاره وآرائه، عن طريق الكلام أو الكتابة أو الإبداع بأشكاله، بدون رقابة أو قيود. هذا النوع من الحرية يعتبر المقياس الصحيح لباقي الحريات، والامتحان الحقيقي للسلطة القيّمة على تطبيق القانون في أيّ بلد. هل هي سلطة تحترم القانون وتؤمن بالديمقراطية وتسعى لإرساء أسسها في مجتمع واعٍ، تمثله وتذوّت فيه المفاهيم الديمقراطية، أو هي سلطة تتستّر بالقانون وتستخدمه لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الفرد والمجتمع، أو هي سلطة شمولية طاغية ومستبدّة تقوم على القمع. وفي الحالتين الأخيرتين، أبسط ما يكشف تلك السلطة، هو كمّها للأفواه، أفواه الفرد والجماعة، وحرمانهم من حقّهم بحرية الرأي والتعبير. الإبداع الأدبي بأشكاله المختلفة هو دعوة للحرية وتعبير عنها، والأديب الحقّ يلتزم بقضايا شعبه ويُعبّر عن آلامه وآماله. والحرية الحقّة تخلق الالتزام عند المبدع، وتُنمّي إيمانه ورقابته الذاتية النابعة من داخله، ومما يؤمن به، بينما انعدام الحرية أو ضيق مساحتها، يخلق عند المبدع نوعا آخر من الرقابة الذاتية، رقابة لا تنبع من داخله ولا من أيمانه بما يفعل، وإنما تنبع من خوفه من السلطة، وخاصة من رقابتها السياسية. وهذا النوع من الرقابة يهدم الإبداع، أو في أحسن الأحوال يحدّ منه. لأنّ المبدع الخائف سينشغل عن إبداعه، إما بنفاقه للسلطة المستبدّة، أو بكيفية الاحتيال عليها وعلى رقيبها للإفلات من مضايقاته وتضييقاته. وهنا ينكشّف جوهر السلطة وتطلّعاتها، هل هي سلطة ترعى الإبداع وتدعم النقد البنّاء وترى فيه وسيلة للبناء، أو سلطة تعادي الإبداع وتخشى النقد، لأنّ تطلّعاتها لا تتعدّى تحقيق مصالحها الضيقة بواسطة الهيمنة على الشعب. وفي هذه الحالة الأخيرة، يكون القمع هو نهج السلطة، وهو ليس نقيض الحرية التي يتطلّع إليها شعبنا فحسب، وإنما نقيض الحرية الأكاديمية التي يجب أن نتوخّاها في مؤسساتنا الأكاديمية، إذا أردنا أن تكون هذه المؤسسات قادرة على منافسة مثيلاتها العالمية.
في اعتقادي، إنّه من أهمّ أسباب المماطلة والتأخير في عملية السلام، وعرقلة نشاط شعبنا في بناء دولته المستقلة، هو خوف سلطات الاحتلال وكل أعداء شعبنا الفلسطيني، من قيام دولة فلسطينية متميّزة، دولة حرة تقوم على أسس ديمقراطية ثابتة، تحترم شعبها وترعى حريّاته وحقوقه ومصالحه الوطنية. دولة يمارس فيها شعبنا حياته اليومية والفكرية والسياسية، بشكل يختلف عن كثير من الدول المجاورة، الشقيقة وغير الشقيقة. وهذا التميّز الذي نطمح إليه هو التحدّي الأكبر الذي يواجه السلطة السياسية، ويواجه كذلك الأكاديميين الفلسطينيين في مساهمتهم في عملية بناء الدولة ومؤسساتها، أكاديمية وغير أكاديمية.
الدولة، بمؤسساتها المختلفة، يجب أن تفتح قلبها وعقلها للأكاديميين، وكذلك للمبدعين عامة، وللأدباء بشكل خاص، يجب أن تحتضنهم وتكرّمهم وتدعم نشر إنتاجهم بدون تأثير أو توجيه سياسي. هذا ما سيجعلهم يجنّدون قدراتهم الإبداعية في خدمة شعبهم وبناء مستقبله، مستندين على رقابتهم النابعة من ضمائرهم ومبادئهم وحرصهم على مصالح شعبهم، وليس على رقابتهم النابعة من الخوف والقيد.
وختاما، الأكاديميون الفلسطينيون في المهجر والشتات، لا ينتشرون في بقاع الأرض حبّا في الغربة، وإنما يعيشون خارج وطنهم إمّا نتيجة لشكل ما من أشكال القمع، وأهمّها النكبة والاحتلال، وإمّا نتيجة لعدم قدرة وطنهم على استيعابهم. لذلك، ولكي يساهم هؤلاء الأكاديميون في بناء مؤسساته الأكاديمية، لا بدّ أن تتوفّر لهم في وطنهم، الحرية أولا، وأن يتوفّر لهم الأمن الشخصي، والأمن الاقتصادي، وذلك بتوفير فرص العمل الملائمة التي تضمن لهم العيش الكريم، وتضمن لهم تحقيق ذاتهم في مجال تخصّصاتهم. هذا الأمر بكل تأكيد، سيُزيل جزءا كبيرا من العقبات أمام الأكاديميين المغتربين، ولا شكّ أنّه سيشجّعهم على العودة إلى وطنهم، وأخذ دورهم الصحيح في معركة البناء كلها.