قراءة في روايته: “عودة ستّي مدلّلة”.
اعتذار
في النسخة الأصلية لهذا المقال، والتي صدرت في مجلة شذا الكرمل، العدد الأول 2016، وقع خطأ غير مقصود في اسم الكاتب، حيث ذُكر عبد الرحمن بدل عبد الفتاح، وعليه فأنا أعتذر للكاتب والقراء المحترمين، راجيا ألّا يُؤدّي ذلك إلى أي سوء فهم.
شهدت الساحة الأدبية المحلية في الآونة الأخيرة، إصدارات كثيرة، من بينها عدد من الروايات، ينطلق معظمها من الهمّ الفلسطيني، ويخاطب الذاكرة، فردية وجمعية، ليرسّخ فيها مشاهد ذلك الهمّ بجوانبه المتعدّدة، ليظلّ حاضرا في وعي الإنسان الفلسطيني وفي ذاكرته، بدءا من النكبة 1948، ومرورا بكل ما تبعها من هموم ونكبات عاناها الشعب الفلسطيني وما زال يعاني منها حتى اليوم.
ومن الهمّ ذاته، ينطلق الكاتب مصطفى عبد الفتاح، في روايته، “عودة ستّي مدلّلة”، التي أصدرها مؤخرا، ليعيد إلى الذاكرة مرحلة من أهمّ المراحل وأقساها، يرصد فيها ويُوثّق أحداث النكبة، قبيل هجوم القوات الصهيونية وحتى استيلائها على الأرض وقتلها للإنسان الفلسطيني وتشريدها له من وطنه، لتبدأ رحلته الصعبة في الهجيج والتهجيج إلى منفاه القسري. وبعدها ببضع سنوات، بدأ المؤقّت يُصبح ثابتا على أرض الواقع. ولكنّ الوعي الفلسطيني يرفض ذلك الواقع ولا يعترف بثباته. وكذلك رواية مصطفى عبد الفتاح، جاءت لتُؤكّد ذلك الرفض، وأنّ الفلسطيني رفض وما زال يرفض وسيظلّ يرفض ثبات المؤقّت حتى يستعيد حقّه الثابت الذي سُلِب منه قسرا وغدرا.
يطرح مصطفى عبد الفتاح، في روايته، “عودة ستّي مدللة”، المعاناة والحلم: معاناة الشعب الفلسطيني في النكبة وبضع سنين تلتها، وحلمه المستمرّ بالعودة إلى الوطن.
يطرح أولا، معاناة الإنسان الفلسطيني عام 1948 وما تلاها، ممثلة في الرواية بشخصية “ستّي مدلّلة” وأهل بلدها، صفورية، وتهجيرهم قسرا من قريتهم، في حين تُقدّم صفورية و”ستّي مدلّلة” معا، صورة مصغّرة لجيل النكبة، ولكل ما حدث في فلسطين، إذ أنّ ما حدث في غير صفورية من القرى الفلسطينية، ولغير “ستّي مدلّلة” من الفلسطينيين، لا يختلف في واقعه وجوهره بشيء.
تبرز شخصية “ستّي مدللة” في الرواية، كنموذج للمرأة الفلسطينية البسيطة التي عانت وتحمّلت وقاومت ولم تهن. ويبرز من خلالها أيضا، اهتمام الكاتب بالمرأة ودورها كشريك كامل في الضراء، وكأنّي بالكاتب يتساءل: لماذا لا تكون المرأة في مجتمعنا شريكا كاملا في السراء أيضا؟ ووراء ذلك التساؤل يكمن نقد الكاتب لمجتمعنا الذكوري المتخلّف.
وثانيا، يطرح الحلم الفلسطيني بالعودة، وبأنّ ما حدث مهما طال الزمن، لن يكون إلّا مؤقّتا. يظهر ذلك في حضّ “ستّي مدللة” للناس المستضعفين الذين أخرجوا من بيوتهم، على ألّا يتنازلوا عن حقّهم بالعودة إلى أرضهم ووطنهم مهما طال الزمن. ويظهر أيضا، فيما فعله ابنها “أمين” بعد موتها وهي تحلم بالعودة إلى صفورية، فقد غامر بزيارة صفورية وأحضر حفنة من ترابها وبعضا من ماء عينها، وجبلهما بتراب قبرها، لا لإيهامها وإيهامنا بتحقيق الحلم بالعودة والدفن في صفورية، وإنّما ليعبّر عمّا يُعبّر عنه اسمه الذي لم يختره الكاتب عبثا، ليظلّ “أمين” وجيله، أمينا على الحلم حتى يتحقّق.
وإذا كان مصطفى عبد الفتاح، يطرح هذا الموضوع ويُثبّته في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، فإنّ طرحه اليوم بالذات، له أهمية كبيرة، فهو امتداد لحلم “ستّي مدلّلة” ولفعل “أمين”، أي امتداد للمؤقت الذي لن ينتهي إلّا بتحقيق الحلم وثبات الحقّ.
لم يكتفِ الكاتب بسرد الأحداث على أرض الواقع، وإنّما حاول أن يستبطن دواخل شخصياته. وقد نجح في تصوير الحالة النفسية التي رافقت تلك الشخصيات، والألم الذي حطّم النفوس بعد أن سُلبت منها حياتها الوادعة التي لم يكن يُعكّر صفوها شيء. فقد مزّقت النكبة الهوية الفلسطينية، الفردية والجمعية، إذ انتزعت الفلسطيني بمخالب وحشية، من حياته الهادئة الوادعة، وقذفت به في جحيم المنافي والتشرّد، داخل الوطن وخارجه. وقد نجح بتصويره لتلك النقلة، من خلال تصوير اليوم الفارق بين عهدين نقيضين، اليوم الذي فصل ما بعد النكبة عمّا قبلها. في ذلك اليوم لم يصح الديك، ولم يعلو صوت أذان الفجر من المسجد، ولا صوت الأجراس من الكنيسة، ولم تخرج الماشية كعادتها للمرعى. في ذلك اليوم الرمضاني، أسكتت مدافع الجيش الغاصب مدفع الإفطار، وبدل أن يجتمع الصائمون حول مائدة الإفطار، انكسرت قلوبهم وتشرّدوا في الجبال والكهوف، ولم يكسروا صيامهم.
نجح الكاتب أيضا في نقل صورة واضحة المعالم عن الذلّ وعدم الاستقرار الذي عاشه الإنسان الفلسطيني في السنوات الأولى التي تلت النكبة، وذلك في تشرّده خارج الوطن وداخله، حيث ذاق ذلّ الهجيج والمنفى القسري في المخيّمات، وكذلك ذلّ السؤال وقهر السلطة في الوطن حيث أصبح لاجئا لا مواطنا.
والكاتب الذي نجح في نقل فزع الفلسطيني المنكوب من حاضره المرعب، ونقل تخوّفه من المستقبل الغامض، نجح أيضا في تصوير الفلسطيني، رغم تخوّفه، لا يكفّ عن أيمانه بأنّ الحاضر مؤقّت، وبأنّ جذوة الحنين للوطن في قلبه لن تخبو، والحلم بالعودة لا يزال يراوده وينير طريقه.
في ظنّي، أنّ مصطفى عبد الفتاح انطلق في كتابة روايته، تحت ضغط الواقع الفلسطيني المرّ بشكل خاص في السنوات الأخيرة، ذلك الواقع الثقيل الذي يُحاول بكل مركباته الفلسطينية والعربية والصهيونية والعالمية، أن يُجهض القضية الفلسطينية وأن يطمس معالمها ويمحوها من الذاكرة. فجاءت “عودة ستّي مدلّلة” لتذكّر الفلسطيني وأعداءه على السواء، أن ذلك ضرب من المستحيل، مهما طال الزمن ومهما تكالب الأعداء. وهم كثر في الداخل والخارج، وأنّ هذا الشعب الذي قاوم الاستعمار قبل النكبة، سيستمر في المقاومة بعدها، إلى أن ينتزع حقّه من مخالب الغاصب الذي اقتلعه من أرضه.
على المستوى الفلسطيني العام، هناك عملاء ومتعاونون خدموا وما زالوا يخدمون مصالح الجلّاد ويرقصون على دماء شعبهم. وفي الرواية يُمثلهم “ميلاد”، ذلك العميل الذي وشى بـ “أمين” وأمثاله. وأمثال ذلك العميل ما زالوا يعيشون بيننا حتى اليوم، ويشون بإخوتهم.
وعلى المستوى العربي، ما تقوم به أنظمة العار العربية، لا يختلف عمّا قام به جيش الإنقاذ عام 1948، في الرواية وفي الواقع. ما زالت تلك الأنظمة تلعب الدور نفسه، تُطمئِن الفلسطينيين، كما فعل جيش الإنقاذ حين طمأن “أمين” ومن معه من رجال المقاومة، ومنعهم من نسف الجسر لقطع الطريق على القوات الصهيونية الغازية (ص 30-31)، في حين كان يُمهّد الطريق لتلك القوّات؛ وهذا ما فعلته وما زالت تفعله الأنظمة العربية، تتظاهر بالوقوف إلى جانب الفلسطينيين وحقّهم بالعودة وبتقرير مصيرهم، ولكنّها في الحقيقة لا تغضّ الطرف عمّا تقترفه الصهيونية وسلطات الاحتلال بحقّ الشعب الفلسطيني فحسب، بل تُساندها فيما ترتكبه من جرائم، وبدعم إمبريالي أمريكي غير محدود، مسنود بصمت عربيّ غير مشروط.
رواية “عودة ستّي مدلّلة”، من حيث الشكل، تطمح إلى أن تكون رواية فنيّة، ولكنّها تظلّ أقرب إلى الرواية الوثيقة. فمن جهة، حاول مصطفى عبد الفتاح أن يستفيد من بعض عناصر التجريب، ولكنّ تجربته ظلّت محدودة ومتواضعة جدا، فأحداث الرواية وشخصياتها لم تبتعد عن النمطية المألوفة في سرد أحداث النكبة وما تلاها، في حين ركّز الكاتب كثيرا على ذكر الأسماء: أسماء الأشخاص والمواقع والأحداث، كما سجلها الواقع والتاريخ. على سبيل المثال، صفورية، وهي قرية قريبة من الناصرة، هدمتها القوات الصهيونية الغازية، ذكْر اسمها أضعف الرمز عامة، وبشكل خاص الرمز الذي في اسم “ستّي مدللة” وحياتها، فهي ترمز إلى فلسطين كلّها، فلسطين التي كانت تعيش حياتها رغدا، حياة عزّ ودلال قبل الاغتصاب والاحتلال، وترمز إلى مأساتها في النكبة وما تلاها. وكثيرة هي الأسماء التي لعبت الدور نفسه إلى جانب صفورية، وخدمت التوثيق أكثر من خدمتها لفنيّة الرواية. مثلا: أسماء المغاور (ص 36)، فرقة “ديكل” (ص 51)، بئر بدوية (ص 63)، قرية كوكب، الصنيبعة الواقعة بين طمرة وكوكب، معركة الصنيبعة، سخنين، وادي سلامة، الرامة، (ص 64)، الجليل الأعلى، (ص 65)، الحدود اللبنانية، الدرك اللبناني (ص 66)، كل هذه الأسماء، باستثناء فرقة “ديكل” ومعركة الصنيبعة والدرك اللبناني، هي أسماء مواقع فلسطينية ما زالت شاهدة على المأساة. ولذلك ساهمت أكثر في التوثيق، وصرفت نظر الكاتب والقارئ، الفلسطيني خاصة، عن فنيّة الرواية.
ورغم أهميّة ما تقوم به الرواية من توثيق، وفي زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى تثبيت الذاكرة الجمعية وترسيخها في وعي أجيالنا، إلّا أنّ مصطفى عبد الفتاح، كتبها بكثير من العفوية وغامر بفنيّتها، ما يعكس محدودية اطلاعه على أسرار كتابة الرواية الفنية الحديثة واهتمامه بالمضمون على حساب المبنى، وذلك بما ارتكبه من أخطاء ووقع فيه من هفوات كثيرة، صغيرة وكبيرة، أثقلت على الرواية والقارئ. ومن المؤسف حقّا، أنّ الكاتب لم ينتبه لتلك الأخطاء، في حين كان قادرا على تلافي بعضها على الأقلّ، لو أنّه تأنّى بعض الوقت ولم يتعجّل النشر قبل مراجعة أخرى، كانت الرواية بحاجة ماسّة إليها.
نصيب الأسد من تلك الأخطاء والهفوات كان من حظّ اللغة. فعلى المستوى العام للغة، هناك أخطاء لافتة جدّا وليس لها ما يُبرّرها. وإذا أردنا حصر بعضها سنجد الإهمال الشديد في كتابة الشدّة والهمزة والفاصلة وغيرها من علامات الترقيم، وكذلك انتهاء اسم الجلالة، الله، دائما بالتاء المربوطة بدل الهاء، ناهيك عن الأخطاء اللغوية الأخرى التي لا تُخطئها عين القارئ البصير، والتي كان بإمكان الكاتب أن يتفاداها لو ترّيث قليلا.
وعلى المستوى الخاص بالنسبة للرواية، فقد وقعت لغة السرد والحوار غالبا، في مطبّ التبسيط والمباشرة، ربما ظنّا من الكاتب أنّ هذا ما يخدم المضمون، وقد يكون ذلك صحيحا في بعض الأحيان. ولكن، إذا كان الكاتب يكتب بتلك العفوية والبساطة، وكثيرا ما يستعين بتبسيط بعض العبارات الفصحى، أو بتفصيح بعض العبارات العامية في السرد، مثل “لم تعد تفرق كثيرا” (ص 116)، وغيرها الكثير، فما الداعي إذن لتفصيح الحوار واستخدام لغة مقعّرة، لا تلائم شخوص الرواية ولا مستواها الاجتماعي والثقافي في معظم المشاهد. وعلى سبيل المثال فقط، الحوار في مستواه الفصيح (ص 24-25)، بين “أم صلاح” و”ستّي مدللة”، وهما فلاّحتان قرويّتان بسيطتان وأميّتان، لا يمكن أن يلائم أيّا من الشخصيتين، وغيرهما الكثير من شخصيات الرواية، لا من حيث اللغة ولا من حيث الحالة النفسية والاجتماعية والثقافية التي رُسمت بها تلك الشخصيات. وعلى سبيل التمثيل فقط، هل هناك جدّة فلسطينية قروية غير مثقّفة، وحتى لو كانت قروية مثقّفة، تقول لحفيدتها، كما جاء في (ص 184): “تعالي يا صغيرتي”، (ألا يُوافقني الكاتب أن عبارة مثل: “تعالي يا تقبريني أو يا مقصوفة الرقبة” أكثر رقّة وتحبّبا وتعبيرا). وأكثر من ذلك، ففي بعض الأحيان حمّل الكاتبُ شخصياته أكثر من طاقتها. في (ص 26) مثلا، تظهر “ستّي مدللة”، العجوز الفلسطينية البسيطة، كما لو أنّها أصبحت قائدا عامّا، وقد تحوّل بيتها لمقر قيادة عامة، ترسم الخطط وتُصدر التعليمات والأوامر. وفي إطار اللغة نفسه، يندرج إطلاق صفة “السيد” على “أبي صلاح”، على لسان “ستّي مدللة” (ص 72 و80)، كما أنّ إدخال مصطلحات مثل (سيناريو، ص 74 و 133، واستراتيجية ص 75)، لوصف “ستّي مدللة”، أو ما تقوله أو ما تفعله، لا يتلاءم مع مستوى تفكيرها أو ثقافتها، في ذلك الوقت على الأقلّ.
ولم يقتصر الكاتب على الأخطاء في اللغة، إذ أنّ هناك بعض الأخطاء بفهم التحوّلات الاجتماعية والجغرافية والتاريخية، قد تكون أخطاء عفوية أكثر منها معرفية. مثلا، يقول الراوي (ص س 165): “وتركت قطعة أرض صغيرة وزرعت فيها جميع أنواع الخضار التي عرفتها (ستّي مدللة) في قريتها”، وذكر تلك الأنواع ومن بينها “العلت”. كل تلك الأنواع صحيحة ومقبولة، باستثناء “العلت”، كان على الكاتب أن ينتبه إلى أن الناس في ذلك الوقت، كانوا يجمعون “العلت” من الطبيعة، ولم يتحوّلوا إلى زراعته إلّا بعد سنين طويلة.
وفي مجال الجغرافية مثلا، يقول الراوي (ص 19): “قرية يعبد القريبة من صفورية”. ربما أراد القول القريبة من جنين وخانه القلم. وفي مجال التاريخ كذلك، أخطأ الكاتب في ذكره للجيش الفرنسي وجنوده ومعسكراته في لبنان. لأنّ أحداث النكبة والتشرّد حدثت عام 1948، بينما استقلّ لبنان عام 1943، وأعلن استقلاله رسميا عام 1946، وانسحبت القوات الفرنسية منه نهائيا حتى نهاية العام نفسه على أبعد تقدير، إن لم يكن فيما يُعرف بـ “عيد الجلاء” في 17 نيسان 1946.
كما أنّ الأمر التبس عليّ في (ص 156 و163). هل كان الكاتب أو الراوي، يقصد فعلا الهوية الزرقاء، أم أنّه قصد الحمراء التي سبقت الزرقاء، والتي، كما أعلم، كان معمولا بها في تلك الأيام؟
وفي مجال مبنى الرواية وشكلها الفني أيضا، كانت البداية موفقة، وقد نجح الكاتب مثلا في الانتقال (ص 12)، وبشكل موفق، من الحاضر إلى الماضي، ليمتح من الذاكرة. ولكن في اعتقادي، كان من المفيد أكثر لو أنّه اعتمد المتح من الذاكرة مباشرة وليس عن طريق الحلم، خاصة وأنّه يُوظّف الحلم في الرواية لغاية أخرى يستشرف به المستقبل. وفي (ص 90 و118-119)، يُرتّب الكاتب المونولوج، الحوار الداخلي، كما لو كان ديالوج، حوارا بين شخصيتين أو أكثر، وهذا يضرّ بمبنى الرواية وجماليتها، فضلا عن أنّه سوف يُشوّش تركيز القارئ.
أمّا من حيث المضمون، فلا تخلو الرواية كذلك من بعض الأخطاء التي كان باستطاعة الكاتب أن يتخلّص منها، ولم يكن ذلك مهمّة مستحيلة، لو حظيت الرواية بمراجعة أخرى، واعية ومتأنّية.
المشهد الذي تخلّل الصفحات (53-63)، بين “ستي مدلّلة” والجندي، حتى وإن كان في بعضه يمثّل الغاصب بعين نفسه، فإنّه يحيل إلى إنسانية لم يتمتّع بها الغاصب الذي لم يترك موبقة إلّا وفعلها. أمّا كون الجندي تذكر ما حدث لأهله في أوروبا، ما ردعه عن إطلاق النار على “ستّي مدللة”، فتلك حالات إنسانية هامشية جدا، لم يكن لها أيّ تأثير على سير الأحداث في الواقع أو في الرواية، لذلك لا يُمكن اعتبارها نموذجا. ولذلك، أعتقد أنّ إدراج المشهد قد أربك “ستّي مدللة” وأضرّ بموقفها وتكامل شخصيتها، فقد وضعها في مأزق هي في غنى عنه، وكذلك الكاتب والرواية، خاصة وأنّ موقفها ليس موقفا شخصيا بقدر ما هو موقف جمعي له دلالاته التي لا تحتمل التراجع. ناهيك عن إضراره بجمالية المشهد والرواية، وتشويشه على القارئ.
أمّا في (ص 84)، فهل يسمح وضع الفلسطيني في عام النكبة والشتات، ولأناس حياتهم “على كفّ عفريت”، مشرّدين قسرا ويسكنون المخيّمات، هل يسمح لهم وضعهم الاجتماعي والاقتصادي بتلك الرفاهية، السفر إلى بيروت والتجوّل في أسواقها، لشراء جهاز للعروس، ومن سوق الحمرا تحديدا؟
وأخيرا، وأملي أن يتفهّمني صديقي مصطفى، لماذا تركت الحديث عن نواحٍ إيجابية أخرى في الرواية، واسترسلت في ذكر كلّ تلك الأخطاء، وليس في نيّتي تثبيط عزيمته ولا الانتقاص من أهميّة روايته التي بذل في إخراجها جهدا مباركا، وإن كان بكثير من العفوية والتواضع، ربما أملتهما النوايا الحسنة، وهي لا تكفي؟
يدفعني إلى ذلك عدّة أسباب أهمّها ثلاثة: أولها الأمانة في الجهد النقدي الذي أحاول ما استطعت أن يكون صادقا، وبنّاءا هادفا. وثانيها، تلك الأخطاء لا تضرّ بشخصية الكاتب فقط، ولا تحدّ من جمالية الرواية فحسب، وإنّما تُشتّت نظر القارئ وتُشوّش توحّده وانسجامه مع اللغة، علما بأنّ اللغة هي طريق القارئ إلى مبنى الرواية ومضمونها ومركّبات جماليتها. وثالثا، وربما يكون هذا هو الأهمّ، فأيّ مبدع ينشر باكورة إبداعه، وكذلك هو الروائي الذي يُصدر باكورة أعماله الروائية، يطمح أن تكون فاتحة لسلسلة قادمة من الأعمال. وعليه أن يعرف أنّ القارئ لن يغفر له، ولا حتى هو سيغفر لنفسه، وقوعه مرّة أخرى في أخطاء تضرّ به هو نفسه، وكذلك بعمله الإبداعي وبالقارئ أيضا. وعليه، كان لا بدّ أن ألفت نظر صديقي الكاتب، إلى أنّ كلّ عمل يقدّمه أيّ مبدع، هو تجربة تحتمل الخطأ والصواب، وفي كل الأحوال عليها أن تُثري خبرته، وعليه أن يستفيد منها في أعماله اللاحقة.
بقي أن أذكر أنّ “عودة ستّي مدللة” لمصطفى عبد الفتاح، هي رواية، رغم ما فيها من أخطاء، تظلّ جديرة بالقراءة، سيجد فيها القارئ فيها متعة ومعرفة، وتعاطفا مع أشخاصها وأحداثها وما تقدّمه من وثائق، يظلّ القارئ، الفلسطيني على الأقلّ، بحاجة إلى حفظها وتذويتها في وعيه وذاكرته.