(هذا المقال، كتبته مطلع عام 2003، قبيل الغزو الأمريكي للعراق)
الهيمنة الإمريكية
الردّ الشعبي العراقي
يُجمع المحلّلون السياسيون أن الولايات المتحدة وراء الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة التي تعصف بفنزويلا الآن. ولا شكّ أنهم لا يختلفون أنّها وراء ما يحدث وسيحدث للعراق. وقد لا يختلفون أنّ محور الشر الحقيقي في العالم هو الإدارة الأمريكية التي لا يتورع جشعها عن إشعال النار في مختلف أرجاء المعمورة بغية الهيمنة على الموارد السياسية والاقتصادية في آنٍ. وليس من الضرورة أن يكون المرء محلّلا سياسيا ليدرك ذلك. وها هو كولن باول لم يقنع أحدا بخطابه أمام مجلس الأمن. لا بل أثار بخطابه هذا وأدلّته التي قدّمها، اشمئزاز الكثيرين، ممن أدركوا أن الأمر يتعدى حقيقة تقديم أدلّة تدمغ العراق إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. ومن جانب آخر فإن أي شخص يتابع الأحداث، يدرك أن العراق، وبعد حربين طاحنتين: الأولى مع إيران لم يُكتب له فيها النصر، وأغلب الظن أنها جاءت خدمة من صدام للغرب وللولايات المتحدة تحديداً. صدام هذا الذي إما أنه لم يُعد، فعلا، ينفع لخدمة المصالح الأمريكية، طبعا من وجهة النظر الأمريكية، وإمّا أن الولايات المتحدة تروّج لذلك لأن لها أهدافاً أخرى تبغي تحقيقها من خلال العراق، وهي في الحقيقة أكبر من العراق، وأخطر بكثير من سيطرة أمريكا على العراق، أو سيطرة الجيش الامريكي على النفط العراقي، لصالح الشعب العراقي، كما يدّعون. والحرب الثانية، هُزِم فيها العراق هزيمة نكراء، أمام التحالف الدولي، الذي ترأسته الولايات المتحدة، وشارك فيه، وبأشكال عسكرية وسياسية مختلفة، ثلاثون دولة وعلى رأسها الدول العربية والأوروبية، ولم يكتفِ هؤلاء باستسلام العراق وتوقيعه على شروط مذلّة، وإنما عاقبوا شعب العراق، الضحية في كل الأحوال، بهذا الحصار التجويعي الذي ما زال مستمرا حتى الآن. إذاً، أيّ شخص، حتى لو كان محدود الفهم فعلا، يدرك أن العراق خرج من هاتين الحربين منهك القوى غير قادر على الوقوف على رجليه وبناء نفسه خلال عشرات السنين، حتى بدون هذا الحصار المميت؛ ولا شك أن هذا الحصار جعله لا يفكر إلا بمواجهة الجوع فقط. فهل صحيح أن الولايات المتحدة ومخابراتها، التي لا يأمن أحد عدم وجودها (بين الرجل وثوب النوم وزوجته) كما قال الشاعر، لا تدركان ذلك؟ وهل صحيح أن العراق الذي يموت أطفاله جوعا، لعجزه عن تأمين الحليب لهم، ما زال يفكر بامتلاك اسلحة الدمار الشامل؟
قطعاً، إن العراق أعجز من أن يمتلك مثل هذه الأسلحة، حتى وإن كان يريد ذلك. وها هي جهود المفتشين الدوليين المكثّفة منذ أشهر تؤكد يوميا أن لا شيء في العراق. فتَّشوا المصانع العسكرية وغير العسكرية، مواقع الجيش وقصور الرئاسة، الجامعات والبيوت السكنية الخاصة، وحتى بيوت العبادة لم تفلت من مداهمتهم، وحتى الآن لا شيء. وكلما أكّد المفتشون عدم وجود ما يُدين العراق ازداد تهديد الولايات المتحدة وحليفتها، بريطانيا، حدّة وعنفا وشراسة وتأكيدا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن هذا المخادع، صدام، لا بدّ أن يترك عرش العراق. والسؤال: لمن يتركه؟ لشعب العراق يقرّر مصيره بنفسه، أم للكاوبوي الذي ينفطر قلبه ألماً وشفقةً على شعب العراق “المتعطش” الى هيمنة الدمقراطية الأمريكية أو إلى دمقراطية الهيمنة الأمريكية؟! ومن جهة أخرى، كلما ازدادت التهديدات حدّة وكلما ازداد الحديث عن اقتراب موعد الحرب، وكلما تعاظم نفاذ صبر كاوبوي أمريكا، افتعلت أمريكا نفسها ذريعة للتأجيل، وطبعا بشكل يظهر أمريكا كأنها حريصة، هي أيضا، على عدم وقوع الحرب. ولهذا التأجيل دلالاته أيضا.
وما دمنا نسلّم أنّ العراق لا حول له ولا قوة، وأنّه خالٍ من أيّ سلاح لمواجهة أمريكا وحدها، أللهمّ إلا من إيمان شعبه وقدرته، ليس على المواجهة والصمود فيها، وإنّما على الصبر والتحمّل، فما الذي يجعل هذا الحيوان الكاسر يهاجم هذا الحَمَل، حتى وإن لم يكن وديعا؟! وقبل الإجابة على هذا التساؤل، لا بدّ من طرح تساؤلات أخرى عديدة.
لماذا انفرط عقد التحالف الدولي بشكل يستعصي على أمريكا، اليوم، لمّه وتجميعه ثانيةً؟! لماذا لم يبقَ في هذا التحالف سوى أمريكا وبريطانيا وإسرائيل؟! لماذا كل هذا الحماس الإسرائيلي رغم أنّ إسرائيل غير مدعوة للمشاركة؟! هل هي سادية الحكام في رؤية الصواريخ تسقط على البلاد؟ أم أن هذه السادية هي غيض من فيض؟ لماذا هذا الفتور والتردّد البريطاني الذي يجعلك تشعر أن بريطانيا العظمى تُساق الى الحرب كالمرتزقة على غير إرادتها؟! ولماذا وفي كل ظهور لبلير، رئيس الوزراء البريطاني، أمام وسائل الإعلام، يجعلك تشعر أنّه ضُبط متلبسا وسرواله الى أسفل، حيث أن الموقف البريطاني، رغم توجّه البوارج البريطانية الى الخليج، ورغم أنّ رئيس الوزراء البريطاني يسعى دائما لشدّ عضلة وجه هذا الموقف المترهّل لتجميله يصبح أبشع وأحقر؟! لماذا يبدو هذا الموقف مختلفا عن الموقف الأمريكي!؟ وهل تشعر بريطانيا أنّها بلعت الطُعم وتورّطت من حيث لا تدري؟! وفي الجانب الآخر، لماذا يقف حلفاء الأمس كلّهم – طبعا ما عدا إسرائيل وبريطانيا – هذا الموقف المعارض، بحذر شديد، للحرب على العراق؟! وفي نفس الوقت، لماذا تبدو هذه المعارضة مشبوهة وخاصة لاشتراطها موافقة مجلس الأمن؟! لماذا لم يحذُ الثلاثة الكبار، فرنسا وروسيا والصين، حذوَ المانيا التي أعلنت أنّها لن تشارك في الحرب على العراق في كل الحالات، أي حتى في حال موافقة مجلس الأمن على الحرب؟! هل المانيا وحدها هي التي تدرك أنّ هذه الحرب عدوانية وغير عادلة ولا تخدم إلّا مصالح الولايات المتحدة فقط، وأن مجلس الأمن من الممكن ألّا يصمد أمام ضغوط الولايات المتحدة، كما حدث من قبل؟! أم أنّ المانيا لديها من الحسّ والتجربة والتاريخ ما يمكنها من قراءة الأفكار الأمريكية ومعرفة أبعادها الحقيقية وخطورة هذه الأفكار؟! وأخيرا، ما هي المصالح الحقيقية للولايات المتحدة من شنّ هذه الحرب التي تفتقر كليا لأيّ تكافؤ؟!!
ربما تكون الإجابة على هذا السؤال الأخير هي المفتاح لفهم كل ما سبقه من تساؤلات! ولكن لنتوقف قليلا عند الأزمة الكورية الأمريكية. لماذا تنسحب دولة صغيرة مثل كوريا الشمالية من معاهداتها النووية مع الولايات المتحدة وفي هذا الظرف العالمي الحرج بالذات؟! أمر مهم وغريب!! ولكنّ الأهم والأغرب، لماذا تطمح الولايات المتحدة إلى إنهاء المشكلة مع كوريا الشمالية بالطرق السلمية في وقت تشحذ فيه أسنانها ضدّ العراق؟ وهل ستهاجم كوريا أو حتى ستفكر بالتهديد بذلك إن لم تفلح هذه الطرق السلمية؟ أم أنّ الولايات المتحدة تدرك جيدا أن كوريا الشمالية ليست العراق، وأنّ زعماء كوريا الشمالية ليسوا زعماء العراق، وأنّهم، أي زعماء كوريا الشمالية، لم يكونوا ولن يكونوا يوما في خدمة المصالح الامبريالية الامريكية، وأنّ جنود الامبريالية الأمريكية خرجوا من كوريا الشمالية كما خرجوا من فيتنام تحت هدير المدافع وحِمَم الإصرار الكوري والفيتنامي على التحرر الحقيقي من نير الإمبريالية الامريكية وأنّه من الواضح أنّ استمرار تواجد هذه الإمبريالية في كوريا الجنوبية لا يسعفها، رغم تمكّنها، مؤقتا، من عرقلة الوحدة بين الكوريتين؟
ربما تكون الإجابة على هذا السؤال الأخير هي المفتاح لفهم كل ما سبقه من تساؤلات! ولكن لنتوقف قليلا عند الأزمة الكورية الأمريكية. لماذا تنسحب دولة صغيرة مثل كوريا الشمالية من معاهداتها النووية مع الولايات المتحدة وفي هذا الظرف العالمي الحرج بالذات؟! أمر مهم وغريب!! ولكنّ الأهم والأغرب، لماذا تطمح الولايات المتحدة إلى إنهاء المشكلة مع كوريا الشمالية بالطرق السلمية في وقت تشحذ فيه أسنانها ضدّ العراق؟ وهل ستهاجم كوريا أو حتى ستفكر بالتهديد بذلك إن لم تفلح هذه الطرق السلمية؟ أم أنّ الولايات المتحدة تدرك جيدا أن كوريا الشمالية ليست العراق، وأنّ زعماء كوريا الشمالية ليسوا زعماء العراق، وأنّهم، أي زعماء كوريا الشمالية، لم يكونوا ولن يكونوا يوما في خدمة المصالح الامبريالية الامريكية، وأنّ جنود الامبريالية الأمريكية خرجوا من كوريا الشمالية كما خرجوا من فيتنام تحت هدير المدافع وحِمَم الإصرار الكوري والفيتنامي على التحرر الحقيقي من نير الإمبريالية الامريكية وأنّه من الواضح أنّ استمرار تواجد هذه الإمبريالية في كوريا الجنوبية لا يسعفها، رغم تمكّنها، مؤقتا، من عرقلة الوحدة بين الكوريتين؟
الفرق بين بيونغ يانغ وبغداد واضح، وكذلك الفرق بين سياسة الولايات المتحدة تجاه كلّ منهما واضح أيضا، وليس صدفة! فالحرب على كوريا، إن قامت، فهي الحرب على كوريا فقط، والنتيجة ليست مضمونة. والهجوم على بيونغ يانغ هو، بالتأكيد، ليس نزهة الهجوم على بغداد! والأمريكي الداخل الى هناك لا يخرج إلّا راكعا ذليلاً إن لم يكن في تابوت، أي كما خرج من قبل. والهجوم من الجو لا ينفع لأنّ الصواريخ الكورية جاهزة، والهجوم النووي كذلك لا ينفع، حيث أن فيه من الخطر على واشنطن كما فيه على بيونغ يانغ وربما أكثر. وما دام الهدف واضحا ومحدودا، ضمان استمرار الهدوء الكوري الشمالي وربما الكوري الجنوبي (الشعبي) أيضا، المهمّ هو الحفاظ على التواجد الأمريكي والمصالح الأمريكية هناك. إذاً فلا بدّ من القنوات الدبلوماسية والسلمية، وواضح أنّه لا سبيل آخر الى ذلك.
الأمر مع العراق مختلف تماما! أولا، لأن الحرب على العراق لا تزيد على أن تكون نزهة، ربما تكون محفوفة ببعض المخاطر. ثانيا، والأهمّ، الحرب على العراق هي في الحقيقة ليست على العراق! الحرب على العراق هي حرب هيمنة القطب الواحد على المواقع الاستراتيجية سياسيا وعسكريا واقتصاديا، في العالم كله، ومن أجل تحجيم دور الآخرين في هذه المواقع، ليكتفوا بالحصص التي تخصّصها لهم الهيمنة الأمريكية، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، أي ما يشبه العودة إلى نظام إقطاع القرون الوسطى، أي كل شيء في يد الملك، مع مراعاة التحديث الشكلي المناسب. كل ذلك يعني أنّ كل شيء يجب أن يدور في الفلك الأمريكي وتحت مظلة الـ Big Boss، وليبقى الآخرون إمّا وكلاء أو عملاء للهيمنة الأمريكية. والوكلاء هم الهدف الرئيسي لهذه الحرب. وهذا ربما يبدو واضحا في فكرة تقسيم العراق الى ثلاث مناطق تسيطر عليها دول مختلفة (الوكلاء) ولكن تحت الهيمنة الأمريكية العليا. إذاً، الحرب على العراق هي أولاً على الوكلاء والمنتظَر أن يتهافتوا لترشيح أنفسهم لهذا الدور، ربما قد بدأوا فعلا بالتهافت، (الدول الثماني). أمّا العملاء، فغالبا، لا حول لهم ولا قوة، وهم يدورون في الفلك الأمريكي منذ زمن بعيد، ولا يُطلَب منهم الكثير، فقط لجم شعوبهم وتربية هذه الشعوب على “حبّ” أمريكا وكل ما هو أمريكي، والاستهلاك ثمّ الاستهلاك ثمّ الاستهلاك. والزعماء العرب هم خير مثل يُضرب!
الوكلاء، هم هؤلاء الذين ما زالوا يعتبرون أنفسهم من الكبار، سواء كانوا من دائمي العضوية في مجلس الأمن، فرنسا وروسيا والصين وبريطانيا، إلّا أّن هذه الأخيرة، وكما أسلفنا، قد أعلنت ولاءها لأمريكا وكل تصرفاتها تؤكد ذلك وإن كنّا نشعر أحيانا أنّ لديها بعض الندم والتردّد والشعور بالتسرع؛ أو من غير الدائمين في مجلس الأمن مثل المانيا واليابان وغيرهما من الدول الصناعية الغنية. هؤلاء هم المرشحون، غالبا، لدور الوكلاء، ولكن في نهاية المطاف تحت مظلة الهيمنة الأمريكية، وإلّا فسوف يتحوّلون الى أعداء لأمريكا، وهذا، طبعا، لا يرضي الكاوبوي الذي يقول عنه أطفال بلدنا أنّه يبدو كالأبله خاصة عندما يتنزه مع كلبه على مسطحات البيت “الأبيض” الخضراء.
أغلب الظن أن هؤلاء، المرشحين لدور وكلاء الهيمنة الأمريكية على العالم، يدركون هذه المصيدة الأمريكية، ولكنّ بعضهم ما زال يتخبّط في كيفية الرد والمواجهة، ربما لأنّ التهديدات الأمريكية، ورغم تزايدها، لم يُحسم أمرها بعد، ، وما زالت هناك إشارات بأنّ العدول عن فكرة الحرب ما زال ممكناً. ربما هي الحرب النفسية بين الطرفين. فأمريكا تهدّد من جهة وتماطل من جهة أخرى، ربما لتستنفذ صبر حلفائها المعارضين لتقف على حقيقة أمرهم. وهم بدورهم يسيرون على خيط رفيع جداً، وبشكل حذر جداً، لئلا يسقطوا في إحدى الهاويتين: المعارضة المطلقة أو الموافقة غير المشروطة. ومن الواضح أنّهم وجدوا ضالّتهم، في حذرهم، ولو مؤقتا، في إقحام مجلس الأمن في المسألة، وأن تلعب الأمم المتحدة الدور الرئيسي في اتخاذ القرار. هذا الأمر، على الأغلب سيوفر لهم مساحة من التفكير إلى أن تحسم الهيمنة الأمريكية أمرها نهائياً. وحتى ذلك الحين سوف ينعم العراق بالهدوء الحذر المرهون بعمل المفتشين، الذين يتأرجحون هم أيضا، بين الضغوط الأمريكية من جهة، والأوروبية من جهة أخرى، وبين ما يحقّقونه، على أرض الواقع، من جهة ثالثة.
وألى حينه أيضا، سوف يضيق أكثر وأكثر خيال المثقّفين العرب عن إيجاد حلّ للأزمة سوى تنحي صدام، أو انقلاب على صدام، أو ضربة خارجية تطيح بصدام. أي كما حدث عشية الحرب السابقة على العراق، عند دعوة الأنظمة العربية لصدام للخروج من الكويت حقنا للدماء (أخي الصدام، يا هداك الله، أُو خْروج من الكويت …) وكأنّه لا يوجد هناك أي دور لهم أو للأنظمة العربية إلّا البحث عن ملجأ يقضي فيه صدام بقية عمره ينعم فيه بالأمان تقديرا له على إنجازاته. ولكن، ولكيلا نظلم أحدا، ربما يكون المثقّفون العرب، ومن ورائهم أنظمتهم، “محقّين” في ذلك، لأنّه، وما دام هذا هو حال الكبار، المرشّحين لدور الوكلاء، في تخبّط مواقفهم، فمن سيلوم الصغار المغلوبين على أمرهم وقد ثبتت عمالتهم منذ أمد بعيد؟! ومنذ متي يدافع العملاء عن عميل خرج عن طوع أسياده؟ وليذهب الى الجحيم واحد أو أكثر فتقلّ المنافسة ويزيد الربح! أمّا الآن فالمعركة الحقيقية هي معركة الكبار، هل سيظلّون جزءًا من الهيمنة؟ أم سيتظلّلون بمظلّة الهيمنة؟! في كل الأحوال، شعب العراق هو الضحية، والأيام القليلة القادمة كفيلة بتقديم كل الأجوبة!