بقلم: عبد الله عصفور – كفر قاسم.

سررت عندما أهداني د. محمد هيبي إصداره الجديد، رواية “النهار بعد ألف ليل”. الرواية طويله وتقع في كتاب عدد صفحاته ٥٢٦، لكنّها شيّقة وجذابة وخاصّة أنّها تحاكي هموم شعبنا الكبيرة والصغيرة، التي مضت والباقية.

بعد قراءتي لرواية د. هيبي، وجدت انسجامها مع رسالة هامّة قصد الكاتب تمريرها في روايته، وهي طَرْق أبواب التعليم كأفضل خيار لمواجهة المؤامرة التي تحدّث عنها في الرواية على لسان بطلها المركزي خالد الجوهري … بل هي حقيقة الكاتب المحبّ لشعبه والحريص على أبنائه.

الكاتب الملم بالتاريخ واللغة العربيّة والأدب، اختار الأدب عبر الرواية، ليخوض غمار تاريخ منطقته وإقليمه، وهو المتنّبِه لما يجري حوله وفي منطقته وفي كلّ العالم، وعلاقة ذلك بالمؤامرة التي حيكت ولا تزال تُحاك ضدّ منطقته لترسيخ أهدافها وتذويتها في نفوس وأذهان الأجيال اللاحقة من قومه وتدجينها وبرمجتها وفق مشيئة صُناع المؤامرة الذين سماهم “الأيدي الخفيّة”، ويرى أنّ المؤامرة بدأت منذ زمن بعيد، حيث يكتب في الصفحة (32) على لسان مصطفى، حفيد خالد الجوهري بطل القصة، ويقول: “كعادته لا يأوي مصطفى  الى فراشه بدو ن كتاب. لفت نظره كتاب يتحدّث عن روما القديمة. أخذه خياله إلى روما القديمة وإلى ساحات المصارعة وأقفاص الوحوش فيها. حين رفعت أول مرّة القضبان الحديديّة التي تفصل بين الوحوش والضحايا في ساحة المصارعة التي تحولت في روما الأباطرة من أسطورة الى واقع وانطلقت منها الوحوش الكاسرة لتنقضّ على أجساد المؤمنين الخائرة، تنهشها أمام حشد تغصّ به المدرّجات، متحجّر الحواسّ، متعطش لا يرتوي من دماء البشر، ولا يحسن إلّا الهرج والتصفيق لأنهار الدم المسفوك أمامه، في تلك اللحظة بدأت المؤامرة، وما زالت مستمرّة إلى اليوم ولكن بفارق قد يراه البعض بسيطاً. كان المؤمنون بالكتاب المقدّس هم وقود المذبحة وضحاياها واليوم صاروا هم أنفسهم الوحوش الكاسرة لكنّها راضخة، لا تملك من أمرها شيئا، فهي وحوش مدجّنة، تدرّبها وتطلقها أيادٍ ظاهرة، وأخرى خفيّة … فتسيل الدماء.

وقد اختار الرمزيّة بأسماء مستعارة إلى الدول والشخصيّات والأحداث التي وقعت منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم، وفي بعض الصفحات سماها بأسمائها الحقيقيّة، وتحدّث عنها بشكل واضح وواقعي … وكانت أبرزها التسميات المحوريّة وذات الأهميّة مثل: مملكة الضباب (بريطانيا)، جوهرة الشرق (فلسطين)، القزوينيّون والحركة القزوينيّة (الصهاينة وحركتهم الصهيونيّة ومملكتهم، مملكة الرّبّ)، وولايات الهلال الثلاث (الدول العربيّة المتآمرة).

وقد سمّى البلد الذي تحرّك فيه بطل الرواية الأول، خالد الجوهريّ، بـ “نور الجليل” للدلالة على تاريخ ذلك الجزء الشماليّ من البلاد المقدّسة، بلاد الجوهريّين، كنموذج لكلّ البلدات والقرى التي واجهت ذات الأحوال والأهوال في خضم المؤامرة التي يتحدث عنها.

أبدع الكاتب في سرد روايته باختياره نوعاً من التراث الأدبيّ العربيّ، حكاية “ألف ليله وليله” على لسان شهرزاد وشهريار، ليرويا للقارئ الرواية التي تمحورت حول الشخصيّة المركزيّة، خالد الجوهريّ، والتي افتتح بها الرواية وغاص في أعماق التاريخ والقرن الماضي، مستخدما شخصيّات أخرى مختلفة، وفق مبنى الرواية الذي صمّمه بإتقان وإحكام.

وقد عبّر الكاتب عن انتمائه لشعبه الذي سماه “الجوهريّين” وبلاده التي سماها “جوهرة الشرق”، ليساهم في سرد الرواية الفلسطينيّة وفي معركتها في مواجهة تزويرها وتزوير حقيقتها، لنقل تلك الحقيقة إلى الأجيال اللاحقة من أبناء منطقته وشعبه لتتمسّك بها، لأنّ من يتمسّك بروايته يتمسّك بحقّه ووطنه.

وقد بيَّن على لسان خالد الجوهري، خفايا اغتصاب منطقته وبلاده بالقوّة والخداع والظلم، لحرمانها من تقرير مصيرها وبناء كيانها الوطنيّ، رغم كفاح أبنائها البررة والأحرار وتضحياتهم الجليلة، لكنّه اكتشف ضعف قومه وقلّة حيلته وأن المؤامرة أكبر منه بكثير، بل هي عالميّة يشارك فيها زعماء العالم المنافق، والأنكى من ذلك مشاركة قسم من أبناء جلدته،  فاهتدى الى العقلانيّة والواقعيّة ورفض المغامرات غير المحسوبة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتمسّك بالعلم والتعلم والوعي كسبيل للحفاظ على قومه واستمرار سيرورة حياتهم في وطنهم، وبدا له أنّ المؤامرة تسلّلت إلى كلّ ميادين الحياة وخاصة التعليم من خلال الحوار الذي دار بين مصطفى، حفيد خالد الجوهريّ، وبين عوفاديا شموئيلي، المحاضرين الجامعيّين، والصراع بينهما حول الرواية الحقيقيّة واهتمام الأيدي الخفيّة بتسلّل المؤامرة إلى تلك المؤسّسات والصروح التعليميّة لتضليل النُخب الطلائعيّة من أبناء قومه وإلباسهم اللباس الذي أعدّه لهم صُناع المؤامرة … ليقحمهم فيها بإدراكهم أو عدمه لها.

برزت الرومانسيّة في الرواية في مواضع مختلفة، لتضيف جماليّة لها ولحلّتها الجذّابة، تماما كما هي الحياة لا تخلو من أي شكل من أشكال الفطرة الإنسانيّة التي أوجدها الله في خلقه من بني البشر.

وعبّرَ الكاتب على لسان بعض شخصيات الرواية، عن ألمه من التغيّرات السلبيّة التي طرأت على قومه بانشغالهم بالمناكفات والفرقة في طور الامتهان غير الصحيح للتعدديّة الحزبيّة والسياسيّة وتأثير ذلك على وحدتها أمام التحدّيات المحيطة والمحيقة بها، والتي غذّتها الأيدي الخفيّة لتأجيج المؤامرة واستمرارها. لكن رغم ذلك كلّه فإنّ الكاتب لم يفقد البوصلة، وقد حدّد قبلتها التي تنُمّ عن وعيه الجليّ وإدراكه العميق لما يجري حوله وحول قومه وأمته، وجعل بطل روايته، خالد الجوهري، ينعشُ نفسه بفسحة الأمل رافضاً ضيق العيش، مؤمناً بحلول “النهار ولو بعد ألف ليل”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *