صحيفة “الاتّحاد الحيفاويّة”، 2024/9/27.

أ. د. إبراهيم طه

المقالة في التجنيس الأدبيّ. وهي من شقّين اثنين: توصيف ورأي. والتوصيف نصّيّ قياسيّ يقيس النصّ على النوع (الجانر) ويعرّفه به. ولأنه كذلك فهو في المجمل موضوعيّ محايد. أمّا الرأي فيشمل موقفًا من النوع بصفة عامّة. وهو، على عكس التوصيف، مسألة تتّصل بالذائقة الخاصّة. ولأنه كذلك فهو ليس موضوعيًّا ولا محايدًا.

هذه الرواية أعمق من سابقتها “نجمة النمر الأبيض”، أعمق في ثقافتها وانتقاء شخوصها وإعدادها وتفعيلها الفكريّ. لكنّها مثلها تنهض على رؤية مسيّسة مركّبة تُفضي إلى رؤيا تفاؤليّة متوثّبة صاحية على أمل ووعد. محمّد هيبي مسكون بفكرة المؤامرة إلى حدّ الوسواس القهريّ في بعض المواقف وتجريم من لا يؤمن بها. الحياد عنده وهمٌ أخطر من الجهل. فكرة المؤامرة تستحوذ بقوّة على تفكيره. عليها يؤسّس رؤياه ووجهته المستقبليّة. ولتأكيد صحّتها ومصداقيّتها يحشد الكاتب كلّ مداركه ومعارفه النظاميّة والاحتياطيّة منها. يدعّمها بتفاصيل التاريخ ويحصّنها بالتوثيق الدقيق والمنطق العميق ويقارع لأجلها بالحجّة والبرهان.  

بهذا الفهم تصير الرواية مشروع رفض لكلّ أنماط الهيمنة التي تخلّفها نظريّة المؤامرة. يرى محمّد هيبي أنّ أنجع جماليّات الرفض، التي يبحث عنها، لا تجتمع إلا في جانر الرواية السياسيّة، هذه التي أسمّيها الرواية المسيّسة. والفرق بين المصطلحين كبير. الهيكليّة العامّة للرواية المسيّسة تقوم على ثلاثة مفاصل مركزيّة يعتمدها محمّد هيبي كلّها: كشف المؤامرة، إقناع القارئ بها ثم ترسيم المخرج. الخطوة القبليّة الأولى للرواية إذًا هي الكشف عن أسرار المؤامرات السياسيّة التي تُحاك باستمرار في السرّ والعلن. وبفضحها وتفكيكها يقلّص الكاتب المسافة الفاصلة بينه وبين القارئ الذي كان في حالة إنصات وترقّب. والكشف يعقبه تنوير بالضرورة. بالكشف والتفكيك ينوّر الكاتب الطريق إلى الحقيقة. وفي معرفة الحقيقة انفراجٌ واعد يصرّح به الكاتب في خاتمة الرواية بوضوح تامّ. هكذا تبدو الرواية المسيّسة سلطة تنفيذيّة تسعى في مهمّة محدّدة وفق خطّة إجرائيّة مفصّلة.

قد تختلف معه في الفكرة نفسها لكن من الصعب أن تنقض التفكير الذي يحتجّ به والجهد الكبير الذي بذله فيه. محمّد هيبي بروايتيه الاثنتين يجعل من نفسه راعيًا لهذا النمط والنوع. وإن أصرّ عليه أصررنا على تنصيبه رائدًا لرواية المؤامرة السياسيّة في الأدب الفلسطينيّ كلّه.

الدكتور محمّد هيبي قارئ نهم. كتابته مثقّفة مدعومة بقراءات تراكميّة كثيرة في مجالات معرفيّة عديدة. يعلم قبلًا أنه يكتب رواية مسيّسة. وقد خطّط لها بوعي وإصرار. والحقيقة أنه أحكم الوصل بين الترسيم والتنفيذ إلى حدّ بعيد. وهكذا تشكّلت في المحصّلة الأخيرة رواية نموذجيّة مسيّسة على الأصول. أدعو كلّ السياسيّين والمسيّسين والمثقّفين والباحثين عن الحقيقة بيننا إلى قراءتها بتأنٍّ وصبر.  

توصيف وتعريف

وماهي الأصول التي كرّستها رواية محمّد هيبي ونشأت عليها؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تكون، بطبيعة الحال، إلا باتّجاه واحد من النصّ إلى النوع لأنّ النصّ هو الحالة المادّيّة الوحيدة التي تخضع للدرس العينيّ. أمّا النوع فهو حالة ذهنيّة إجماليّة تتحصّل بالتراكم النصّيّ. ونصّ الرواية يتشكّل من عشر آليّات مركزيّة على النحو التالي يعيها محمّد هيبي ويعنيها بعينها:

 (1) العنونة الإجماليّة. وهي من أنماط التذييل الاستباقيّ الذي يُجمل المعنى ودلالاته قبل البدء بقراءة المتن الروائيّ نفسه. والعنونة الإجماليّة التي نعنيها توجّه فعل القراءة منذ البدء وتضبطه في مسار محدّد. “النهار بعد ألف ليل” عنوان سهل تقليديّ يتّكئ على سبع تقنيّات أسلوبيّة ومعجميّة ونحويّة وبلاغيّة وبنيويّة: الابتداء والإخبار، الضدّيّة (الجمع بين الشيء وضدّه)، التعريف والتنكير، الترتيب والتعاقب (القبْليّة والبعديّة)، الإفراد والتكثير (نهار واحد وألف ليل)، الاستعارة التصريحيّة (من المعنى إلى الدلالة)، وأخيرًا التقاطع الحواريّ مع ألف ليلة وليلة… كلّ هذه السبع تعني أنّ هناك نهارًا قد ابتدأ الكاتب به الكلام فصدّره وعظّمه ثمّ عرّفه ليؤكّده وأفرده ليبرزه وجعله لاحقًا ليشطب سابقًا، ثمّ جعله استعارة للنور يمحو به ظلامًا قد طال، ثمّ سوّاه حقًّا على هيئة شهرزاد جديدة ليمحق به باطلًا أو يقوّم اعوجاجًا في شهريار العصر.. هكذا تصير العنونة الإجماليّة أوّل أدوات التنصّت على المعنى العامّ للنصّ.

(2) برمجة الشخوص. أعني بها التشخيص الانتقائيّ الذي يصبغ الشخصيّات بالوظيفيّة الفكريّة السياسيّة ويُقصيها أحيانًا عن طبيعتها التلقائيّة وفطرتها الحياتيّة اليوميّة، حتى تبدو مبرمجة لا تتحرّك إلا وفق برنامج تحكّم عن بعد. بهذا التشخيص يخاطر الكاتب، في بعض المواضع، باقترابه من حدود الأدلجة الإشكاليّة مثلما فعل مصطفى حين آثر لقاءه السياسيّ مع جدّه على لقاء رومانسيّ يجمعه بصفاء التي طال شوقه للقائها على انفراد.. معقول؟! الأجندة السياسيّة هي التي حرّكت مصطفى وألزمته بفعل يناقض الفطرة البشريّة في ظنّي وتقديري. وإذا نظرنا إلى العلاقة التي تجمع مصطفى بجدّه خالد وجدناها مدرسيّة تعليميّة تثقيفيّة كما لو كنا نتحدّث عن مدرسة من صفّ واحد مع معلّم واحد وطالب واحد. عمليّة إحصائيّة سريعة تُظهر أنّ مساحة الوقت “التدريسيّ” الذي يجمع بينهما تفوق، بأضعاف مضاعفة، ما يجمع بينهما من علاقات بيولوجيّة أسريّة. لكن هذا هو الجانر بطبعه. هذه هي الرواية المسيّسة بتوصيفها وتعريفها في الأصل. وتظلّ المسألة بالتالي مسألة تحصيص وتقنين.       

(3) التقابل والتنوّع في الأجيال والطوائف والأقوام والأجناس. وهو يخدم بالضرورة النقاش السياسيّ بصفة مباشرة لأنّ النقاش يحتاج إلى اختلاف. والاختلاف أصله التنوّع. والتنوّع، الذي يتبعه خلاف، هو مهد الإطالة والتشعّب في الحكي. هكذا كان التقابل تفاعليًّا بين الجدّ خالد، الذي عاش الرواية وحفظها بتفاصيلها، وبين الحفيد مصطفى الذي ينقلها عنه بصيغة عقلانيّة مسوّغة. ومثله التنوّع بين المسلمين والمسيحيّين، وبين العربيّ مصطفى الجوهريّ واليهوديّ عوفاديا شموئيلي، وبين الرجل مصطفى وبين المرأة صفاء القمحاويّ. كلّ هذه التنويعات والتقابلات تثري الحكي وتغذّي النقاش وتمدّه بمزيد من مادّته وأسبابه.

(4) التسمية الوظيفيّة والتوصيف الدلاليّ. الأسماء خالد ومصطفى وصفاء كلّها منتقاة بعناية تتناغم تمامًا مع التوجّه الفكريّ السياسيّ العامّ. وصفة “الأعرج”، التي جعلها من نصيب المختار، تندرج في السياق نفسه بالضبط. أمّا خالد فهو خلود الرواية التاريخيّة الدقيقة التي خبرها الجدّ على جلده ولحمه ودمه. أمّا مصطفى فهو النبيّ الذي اصطفاه ليحمل رسالة واعدة تواصل الطريق. هو المصطفى بعلمه العميق المكتسب ليكرّس الرواية التاريخيّة ويحمل على هديها وعدًا بمستقبل زاهر محسوبًا بعناية فائقة. بهذه العلاقة الامتداديّة التعاقبيّة بينهما يتبدّى جوهر الرواية كلّها. ولمّا كان جوهر الفكرة لا يتحصّل إلا بهما فكيف لا يكونان من عائلة الجوهريّ؟ 

(5) التجاور الضدّيّ الحادّ بين المقسط والقاسط في حيّز واحد. هو في الحقيقة تلازم الخير والشرّ في أعمق مفارقات الحياة. هذا التجاور من أبرز دعامات هذا الجانر. لا تبرز الأفكار إلا بمقارنتها بأضدادها. كيف تبرز أفكار خالد الجوهريّ إن لم تُمتحن في مواجهة مع المختار الأعرج مثلًا؟! وكيف يوضّح مصطفى لنفسه وللآخرين قناعاته السياسيّة إن لم يكن بمواجهة علميّة موضوعيّة صريحة مع عوفاديا شموئيلي؟! وقائمة المواجهات تطول وتمتدّ. التجاور الضدّيّ يوفّر أسباب الصراع. والصراع بين الضدّين محسوم سلفًا في رواية المؤامرة السياسيّة.

(6) الحوار والمونولوج والحلم هي آليّات سرديّة مضادّة للحركة. تنهض على الحكي وتبتعد عن الفعل. والحكي الكثير والمفصّل والعميق لا يستوي إلا في حدث خارجيّ ثابت وحالة من الاستقرار والسكينة. وهكذا تجلس الشخصيّات في مكان مغلق ثابت لتثرثر لساعات طويلة. ويطول الكلام ويمتدّ حتى يتجاوز عشرات الصفحات وربمّا المئات في بعض المواضع! وهي كلّها تسهم في تثبيت الحركة الخارجيّة الحسّيّة والحدّ منها وتقييدها وضبطها في إطار محدّد.

(7) التوثيق والتأريخ. الزجّ بالسياقات التاريخيّة يعجّل في حصر الحكاية بين جدران الحدث التاريخيّ السياسيّ. هكذا يتحرّك السرد في الرواية بين مفاصل التاريخ الحقيقيّ، مثل قرار تقسيم فلسطين 181 في 11/1947، والنكبة الفلسطينيّة عام 1948 والعدوان الثلاثيّ على مصر عام 1956 وأثره على قرارات جمال عبد الناصر… بهذا التوثيق والتأريخ يختلط التخييليّ والواقعيّ، الجوّاني والبرّاني، على نحو يهيّئ القارئ لقراءة مزدوجة تحكمها الحقيقة التاريخيّة وتضبط إيقاعها.  

(8) الميتا أدب غطاء ذكيّ يزكّي النقاشات المطوّلة. أو هو يحاول عقلنتها وتبريرها سرديًّا. اختيار التاريخ والرواية ليكون تخصّص مصطفى في الدرس الأكاديميّ يسوّغ الحديث عن وظيفيّة الأدب ودوره الفكريّ والسياسيّ الذي يلتزم به على امتداد الرواية كلّها. ومن الطريف أن يدافع محمّد هيبي عن “الرواية التاريخيّة”، التي يجعلها من ملحقات السياسة، في متن الرواية نفسها، وكأنه يؤكّد بهذا وعيه المسبق وعلمه المحسوب بالشكل الأدبي الذي يحتاجه ويعتمده. بهذا الوعي المحسوب يحاول الكاتب أن يخفّف عن نفسه عبء المساءلة وتبعاتها الفظّة. الاستعانة بتقنيّات الميتا أدب، في رواية محمّد هيبي، هي جزء من آليّات ترسيم الشخوص وإعدادها على نحو يخدم وظيفتها الفكريّة. وقد نجح الكاتب في هذا على المستوى البنيويّ.

(9) أسطرة الواقع هي في ظاهرها من أشكال الاحتيال والالتفاف على حدّة الواقع النصّيّ المباشر. غير أنها هنا لأغراض أخرى أهمّها تسريع الفهم وإتاحته. استضافة الإطار الحكائيّ المعروف لقصص ألف ليلة وليلة هي لتحصيل ثلاث غايات متعالقة: تبرير الحوارات الممتدّة والمطوّلة بين الجدّ خالد والحفيد مصطفى، على نحو ما فعلته شهرزاد في قصصها التي امتدّت على ألف ليلة وليلة. تأكيد الخاتمة التفاؤليّة على نحو ما حقّقته شهرزاد في النهاية من “انتصار” نوعيّ على شهريار. ثمّ توفير أسباب المقارنة بين الواقعّ النصّيّ والواقع الافتراضيّ الذي يقدّمه النصّ المُعاوِن. حين يتنقّل القارئ بين هذين الواقعين، المستضيف والضيف المعاون، يستطيع القارئ أن يستعين بالواحد على الآخر ليفهم عمق الواقع السياسيّ المركّب.

(10) التذييل المتفائل المُرتضَى صفة لاصقة بكلّ جانر أدبيّ أيديولوجيّ بصرف النظر عن وجهته العقائديّة. والأدب الأيديولوجيّ لا يسمح لنفسه أن يتيه أو يتحيّر أو يتردّد أو يتأتئ أو يتساءل. الأدب الأيديولوجيّ بصفة عامّة يعتمد ثقافة الجواب. هذا النوع ملتزم مسبقًا بالفكرة التي تأتي الرواية كي تقدّمها وتطرحها. والتذييل التفاؤليّ هو ما وعدنا به الكاتب في العنوان. بهذا تتدوّر الأحداث وتنغلق. وحين يتدوّر النصّ، حين تحيل نهايته إلى بدايته، تنغلق احتمالات التأويل وتنحصر. يقول مصطفى وهو يخاطب جدّه في غيابه يعده بغدٍ مشرق مزهر: “أنت الباقي والمؤامرة وأصحابها إلى زوال، وحلكة الليل قريبًا ستنجلي، وسنصحو أنا وأنت وصفاء، ومعنا أحفادك وكلّ الجوهريّين وكلّ المظلومين، سنصحو مع إشراقة جديدة في صباح يوم جديد، نستعيد فيه نشاطنا ونستمرّ في طريقنا”. وهل هناك ما هو أبلغ من هذه القفلة في صراحتها؟!

كانت لي محادثة طريفة مع الصديق سهيل كيوان حول تدوير الأدب قبل فترة قصيرة. اتّفقنا يومها على أنّ النصّ الأدبيّ غالبًا ما يكون نتاج فعل التدوير (Recycling). وهو مفهوم فرعيّ مسحوب من مفهوم أكبر هو الحواريّة (Dialogism) بين النصوص المتعاقبة والمتراكمة وبين الفروع والأصول. لم أقرأ أيّ دراسة عن التدوير بوصفه نمطًا حواريًّا تناصّيًّا. لكنّي أجزم أنه من التناصّ (Intertextuality). هذا موضوع مركّب يحتاج إلى مزيد من المعاينة النظريّة المتأنّية. على العموم، العلاقة بين النصّ والنوع (بين الفرع والأصل)، في الفعل الأدبي، هي بطبعها متوتّرة تنزع إلى الصدام أكثر من الوفق. بهذه المرونة والسيولة، التي يفرزها هذا التوتّر الصداميّ، تحيا الأنواع الأدبيّة وتتناسل وتتطوّر وتتجدّد. غير أنّ محمّد هيبي في روايته هذه سعى إلى التأصيل قاصدًا عامدًا. والتأصيل الذي نعنيه هو تأصيل النصّ على النوع. وهو ما يجعل روايته أصوليّة في بنيتها وهيكلتها العامّة.

 هذه الرواية حالة تمثيليّة نموذجيّة للنوع (للأصل). وهي مفصّلة حسب أصول النوع المعتمدة. ولا شكّ في أنّ محمّد هيبي قد بذل في تأصيلها جهدًا كبيرًا غير منكر. مشكلتها البنيويّة المركزيّة في جنوحها إلى الثرثرة والإطالة التي لا تخلو من ملالة. وما منح هذه الثرثرة والإطالة مساحة إضافيّة هو اعتمادها على مبدأ تعاقب الأجيال، وما يصاحبه من تغييرات في الشخصيّة المركزيّة. هذا الذي سمّاه الألمان (Bildungsroman). الرواية بحثٌ مستفيض في دهاليز التاريخ ورجال الدين والثقافة والسياسة ومؤامراتها. وقد جعله الكاتب في سلسلة موصولة من المحاضرات الأكاديميّة الرصينة والمناظرات الجادّة. بهذه المحاضرات والمناظرات والمرافعات بدت الرواية نخبويّة في مادّتها، وليست رعويّة، تتّجه إلى النخب المختصّة بالتفاصيل الدقيقة. وبقدر ما تتّجه إلى النخب تبتعد عن الرعيّة وأدبها. هذه هي الرواية، وهذا هو الجانر الذي تتّكئ عليه، إمّا أن تُقبل عليها وتحبّها كما هي على أصولها وإمّا أن تعزف عنها وتتركها كلّها. أعلمُ أنّ لهذا الجانر جمهوره العريض من المحبّين والمُريدين.

رأي وموقف

الرواية الفلسفيّة والتاريخيّة والسياسيّة، بصفة عامّة، هي فروع معروفة منذ عقود وقرون في آداب العالم كلّها. حين قرأت رواية الدكتور محمّد هيبي قفزت إلى ذهني مباشرة روايتان اثنتان، واحدة فلسطينيّة هي “روح في البوتقة” للمرحوم سليم خوري (أبو جبران) والثانية يمنيّة “عَرَق الآلهة” للدكتور حبيب عبد الربّ سروري. قرأت الأولى وكتبت عنها قبل أربعين عامًا تقريبًا وقرأت الثانية قبل أربعين يومًا. ما أشبه رواية محمّد هيبي بهاتين الروايتين! مثلهما بالضبط رغم المسافة الزمنيّة الفاصلة بينها.

يبدو هذا النوع من الروايات أحرص الأنواع الأدبيّة على الأصول وأشدّه غيرة على الأعراف. “عَرَق الآلهة” أثارتني في قدرتها على النقاش الدينيّ والعلميّ والفلسفيّ والفكريّ. “روح في البوتقة” هي أقدم مثال على هذا النوع الأدبيّ في الأدب الفلسطينيّ في الداخل. أدهشتني أيضًا في قدرتها على ربط النقاش التاريخيّ بالسياسيّ. غير أني لم أجد فيهما كلّ حاجتي، أو حاجتهما هما، من الدراما. مثلما لم أجد في “النهار بعد ألف ليل” العمق الدراميّ الذي أرتضيه. “الوهن” الدراميّ في هذه الروايات كلّها مردود إلى احتقان فكريّ ضاغط دفع الكتّاب دفعًا إلى تلخيص الحياة بأدوات تقريريّة معروفة. حين يتعاقد الكاتب مع المعنى ومع أجندته السياسيّة يفقد ضمنيّته. وحين ينكشف تتراجع قدرته ومرونته على التفاوض مع القارئ.. وهذه معادلة قديمة معروفة.

الدراما أقدر وسيلة على نقل الحياة إلى العمل الروائيّ. الرواية قطعة من الحياة بكلّ ما تعنيه الحياة من حياة وحركة وصخب نقيض السكينة والموت. وهي ليست منبرًا سياسيًّا ولا منصّة فكريّة. الفكر فيها لا بدّ أن ينسل من ضجيج الحياة نفسها. الفرق بين الرواية الدراميّة والمسيّسة هو كالفرق بين استنطاق الحدث واستنطاق الشخصيّة. في الرواية المسيّسة الفكرة محمول والرواية حامل. الفكرة غايةٌ ونهاية والرواية وسيلة أو أداة أو آليّة توصيل. الفكرة جوهر والرواية إطار. من يقرأ أدب يوسف إدريس يجد السياسة تتسلّل إلى كلّ عطفات النصّ وثناياه وخباياه. قد يراها في حوار “بريء” ساذج بين شحّاذ مقطوع الساقين وسائق تاكسي ملظلظ. أو يراها في قرار الشحّاذ أن يشتري زجاجة كوكاكولا وليس بيبسي كولا كما هو متوقّع في مصر. حتى هنا في هذه الزوايا الضيّقة تندسّ السياسة بخبث ذكيّ. لا أرى السياسة في الخطب المنبريّة. أراها في الأعراس التي يقيمها الناس. لا تبهرني ولا تفتنّي المرافعات الدفاعيّة عن المرأة وحقوقها. أبحث عن صدقهم في دعوات أعراسهم ونعيهم. لا أبحث عن الدين في الحناجر والمنابر. أبحث عنه في أعمالهم في الحلّ والمرتحل.

ما زالت الرواية الفلسطينيّة مسكونة بهاجس السياسة السافرة المتعرّية. المشكلة الكبرى أنّ تعريتها في الأدب تأتي على حساب العمق الدراميّ التفصيليّ. أرجو أن تكون مشكلة ظرفيّة لا بنيويّة. ينبغي في هذا السياق التفريق بين السياسة بعمقها الانتروبولوجيّ والاجتماعيّ الفطريّ المعيش وبين العمل السياسيّ بمفهومه المستقلّ المحسوب. عزل السياسة عن مرجعيّاتها الوجوديّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وإفرادها في الأدب هو فعلٌ إشكاليّ لا ينجو من مزالق كثيرة. وأنا في الحقيقة ما زلت أبحث في الأدب الفلسطينيّ عن صيغة توافقيّة تعرف كيف تنثر السياسة وتبعثرها في كلّ مفاصل النصّ الروائيّ الدراميّ.  

يبدو لي أنّ الدكتور محمّد هيبي مسيّس إلى حدّ يدفعه إلى “استغلال” كلّ إطار متاح لتفريغ بعض حمولته السياسيّة الثقيلة. هذا هو الرجل. هذا هو أسلوبه. وهذا حقّه الفطريّ. وما دام هناك نوع أدبيّ معتمد لهذا الغرض فهذا حقّه الأدبيّ أيضًا.

كتب دارسون ومنظّرون كبار عن سيميائيّات الطبيخ والطعام. أبرزهم رولان بارث ومارسيل دانيسي. وما أشبه الطعام بالنصّ الأدبيّ في المفاصل الثلاثة التي يمرّ بها كلٌّ منهما: المادّة والصناعة والاستهلاك. قد يتلذّذ أحدهم بمقلى بامية بلديّة بالبصل البلديّ وزيت الزيتون السوريّ أكثر من أيّ وجبة باريسيّة مدجّجة بسبع نجمات ميشلين. وقد ينتشي بعضهم بصفّ سحجة عربيّة أصليّة على بيدر من بيادرنا أكثر من عزف السيمفونيّة السابعة في أوبرا فيينّا.. قد تكون رواية محمّد هيبي وجبة نخبويّة تحرسها نجوم ميشلين فعلًا أو سيمفونيّة سياسيّة أصليّة حقًّا، غير أني أمْيَلُ إلى ذائقتي الدراميّة المنضبطة بإيقاع الحياة نفسها بصخبها وعمقها في عفويّتها وبساطتها.. مشكلتي مع النوع الأدبيّ أصلًا. من هنا يدلف موقفي ورأيي في هذه الرواية.

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *