لا تُبكى الرجال. بلغني الخبر الفاجع بوفاة رفيقنا أبي هشام، وأنا بعيد عن الوطن. كنت في زيارة لابني الذي يعمل في شمال إيطاليا، أجوب معه البلاد وأنعم بكلّ لحظة بين خضرة سهولها وشموخ جبالها، وبين وفرة مائها وجمال بحيراتها التي يؤمّها عشّاق الجمال من كلّ فجّ عميق. بين تلك الجبال والبحيرات، في “فيرونا”، مدينة العشق الخالد في الواقع وفي أدب شكسبير، اجتمعت قسوة التاريخ يشهد عليها المدرّج الروماني، إلى روعة الحبّ تشهد عليها “بلكونة” جولييت وفناء دارها الذي يعجّ بالزائرين والعاشقين. جولييت تلك الحسناء العاشقة التي تمثّلتها واقفة في تلك الشُرفة تنتظر روميو، حبيبها العاشق الذي تمثّلته يتسلّل إلى الفناء ويقف تحت الشرفة وعيناه تشرئبّان إلى حيث يقفز قلبه، ليتّفق القلبان العاشقان على موعد للزواج. هناك بلغني الخبر الفاجع عبر التكنولوجيا التي تُلاحقنا.
ولماذا الحديث عن الحبّ والجمال في حضرة الموت والحزن؟ سألت نفسي! وأجبتها: لأنّ الحزن إذا أشرق لا بدّ أن تتولّد منه أنوار الحبّ وأضواء الجمال. وهكذا هو الحزن على فراق إنسان بقامة محمد نفّاع، لا بدّ له أن يشرق حبّا وجمالا. ولكن، ما كاد يُبكيني حقّا، وقد ترك الغصّة تعلق في حلقي، هو صديقي الحيّ، الكاتب توفيق فياض أطال الله عمره. هاتفني مساء من منفاه في تونس، وقال لي: “موت محمد كسر ظهري يا محمد، كلّهم فارقوني، لم يبق غيرك لتبكيني، فهل تفعل؟!”. ولم تعد السهول والجبال ولا البحيرات كلّها تتسع لحزني على صديق خطفه الموت، وعلى صديق كسر ظهره الموت.
حزنت، ولكنّي بلعت الغصّة ولم أبكِ! وعدت بفكري إلى “فيرونا”. وهناك أخذتني قسوة التاريخ إلى قسوة الحياة، وحملتني لحظة الحبّ والجمال من “فيرونا” إلى أرض “بيت جنّ”، إلى جرمقها وزابودها، وذكّرتني بحلاوة عنبها وكرزها. كان أبو هشام يأتينا كلّ عام، أنا وبعض الأصدقاء في كابول، في موسم الكرز، يحمل إلينا كرزا لا شيء يفوق لذّة التهامه إلّا لقاء أبي هشام والحديث معه. وأخذتني لحظة الحبّ والجمال أيضا، من “فيرونا” ولحظة إشراق الحزن فيها، إلى “فاطمة”، تلك الحسناء باذخة الجمال الواقفة على شُرفات الزابود، تنشر الحبّ والجمال بين ربوعه، وفي كلّ صفحة من صفحات أدب محمد نفّاع.
بعد مكالمة صديقي، “راحت السكرة وأجت الفكرة”، فأرسلت إلى الزوجة المصون، حرم المرحوم أبي هشام، وإلى ابنه البارّ، هشام، رسالة جاء في بعضها: “الرفيقة الفاضلة المناضلة أم هشام، والرفيق العزيز هشام نفاع، بلغني الخبر الفاجع وأنا بعيد عن الوطن، فأرجوكم أن تقبلوا اعتذاري لعدم تمكّني من مشاركتكم وداع رفيقنا الغالي. أحبتي، لا تُبكى الرجال، أعزّي نفسي قبل أن أعزيكم، فبرحيل أبي هشام فقدنا أبا فاضلا وأخا عزيزا ورفيقا وفيّا صادقا عزّ في هذا الزمن أمثاله. مصابكم بفقده ليس مصابكم وحدكم، إنّه مصاب كلّ الشّرفاء في هذا الوطن. ستفتقد أبا هشام ميادين النضال في السياسة والأدب، وأهمّ من ذلك، سيفتقده كل من آمن بحرية الإنسان وكرامته. لا شيء يعزينا بفقده إلا وجودكم بيننا وسيرته الطيبة وتراثه الإنساني الخالد، الأدبي والسياسي والثقافي عامة، هذا التّراث الذي نرجو أن يُعمّم فتتربّى عليه أجيالنا القادمة. وإنّا على دربه لسائرون”.
والآن، بعد أن عدت إلى الوطن لأقف أمام الحقيقة المرّة، ترجّل الفارس، رحل أبو هشام، ولأنّ كثرة هموم الحياة في هذا الوطن السعيد منعتني من تقديم واجب العزاء المتأخّر أصلا، وجدت عزائي وخلاصي في الكتابة، وفي حقيقة أنّ محمد نفّاع رحل عنّا جسدا فقط، وهذه سُنّة الحياة التي لا يُقاومها أحد، ولكنّه باقٍ بيننا، وفينا، روحا وفكرا وأدبا ونهج حياة، وطنيّا، اجتماعيّا وسياسيّا، خاصة وأنّه قبل أن يكون قامة شامخة في السياسة والأدب، كان إنسانا، إنسانا خلوقا، صادقا، وفيّا، وفلّاحا بسيطا يعشق الأرض وأهلها. هذا كان المبدأ عند محمد نفّاع، وعلى المبدأ ترعرعت شخصيّته الفذّة، وعليه نما موقفه الإنساني والوطني، الاجتماعي والسياسي الذي استمدّه من الأرض وناسها، وبه أنار طريقنا وطريق أجيالنا.
أبو هشام، من الرجال الذين يحقّ لفلسطين أن تفخر وتفاخر بهم، وبرحيله صار من واجبها أيضا أن تُخلّده كما خلّدت أمثاله من أبنائها الشرفاء الذين ضحّوا بحياتهم في خدمة قضيّتها العادلة. وربّما أكثر من غيرها، من قرى فلسطين ومدنها، يحقّ لـ “بيت جنّ” أن تفخر وتُفاخر هي أيضا بابنها البارّ، محمد نفّاع، وبرحيله صار من واجبها أيضا أن تُخلّد سيرته وأدبه ومواقفه، كما خلّدها هو في أدبه.
نعم، خلّد محمد نفّاع “بيت جنّ” في أدبه، خلّد أرضها وناسها، رجالها ونساءها، شيوخها وأطفالها. واسألوا القرية إن كنتم لا تعلمون، اسألوا القرية … إنّا لصادقون، اسألوا جرمقها، اسألوا زابودها، اسألوا السنديان وخفقه، والقلوب التي ترعرعت على الحبّ والعشق في ظلاله، اسألوا فاطمة، فاطمة المرأة، وفاطمة الأرض، واسألوا الرجال الذين وقعوا في عشقها، اسألوا ذلك الشلفوح الذي تعلّق قلبه بها، شلعت قلبه وشلع قلبها. اسألوا أدب محمد نفّاع كلّه، اسألوا لغته، لغتنا التي خلّدها وخلّدنا بها: كيف سالت في أدبه حيّة حييّة بكل مستوياتها، تنبض بحياتنا وموتنا، بخيرنا وشرّنا، بحلونا ومرّنا، بفرحنا ووجع قلوبنا الذي زاده رحيل أبي هشام وجعا على وجع.
هذا هو رفيقي أبو هشام كما عرفته، إنسانا بكل ما للإنسانية من معنى، وسياسيّا مرموقا لا ترمي به السياسة الماكرة في مهاوي النفاق والكذب، وأديبا صال وجال في حلبة الأدب، فترك أدبا إنسانيا صادقا يليق بقامة أدبية إبداعية شامخة كقامته.
وُجِدت السياسة لخدمة الإنسان، وكذلك الأدب والثقافة عامة. ولكن، عندما نتذكّر محمد نفّاع، يجب علينا أولا وقبل كل شيء، أن نتذكّر محمد نفاّع الإنسان، ذلك الإنسان الفلّاح النشيط، والعامل الكادح، الإنسان البسيط المتواضع، دمث الأخلاق، حلو المعشر الذي عاش منذ ولادته في قرية “بيت جنّ” الجليلية الشامخة، بلد الزابود ومعركة الدفاع عن الأرض وتخليصها من مخالب السلطة. وحتى لحظاته الأخيرة، عاش هموم مجتمعه وشعبه، وهموم الإنسانية كلّها، على جميع مستوياتها، الشخصية والجمعية، مع الناس، بالناس وللناس، ومع الشعوب وقداسة حقّها بتقرير مصيرها، إلى أن يتحرّر الإنسان ويُرفع عنه الظلم في كلّ مكان. كان محمد نفّاع وسيبقى، ابن بلده ومجتمعه وشعبه وأمّته وإنسانيته، ولم يكن يرَ أيّ تناقض في ذلك.
وقف محمد نفّاع مع شعبه، ومنذ النكبة الأمّ، عام 1948، ومرورا بكلّ ما تلاها من نكبات. عاش هموم شعبنا الفلسطيني، وشارك في كل محاولات التخفيف منها، كإنسان أولا، وكسياسي وأديب ثانيا. شارك الناس أفراحهم وأتراحهم، فرح لفرحهم وحزن لحزنهم. وعاش بإنسانيّته وثقافته وفكره التقدميّ والأمميّ النيّر، يدعو لحرية الإنسان وإخوة الشعوب ورفع الظلم عن الإنسان كائنا من كان، في كلّ زمان ومكان.
في حلبة السياسة، في هذا العالم الموبوء بسياسة الظلم والقهر والتمييز العنصري، وقف محمد نفّاع صلبا، حين وجد سياسة الظلم والقهر تنهش لحم شعبه كما تنهش لحم الكثير من الشعوب. هذا ما دفعه إلى خوض غمار السياسية لعلّه يُساهم في خلع مخالب الوحوش المفترسة: وحش الظلم والقهر والاستبداد، ووحش التمييز العنصري، ووحوش أخرى كثيرة ولا تُحصى، لعلّه يُساهم في أعادة السياسة إلى ما خُلقت له، خدمة الإنسان. من هذا المنطلق التحق محمد نفّاع بصفوف الحزب الشيوعي الذي يدعو لاتحاد العمال والكادحين المقهورين في العالم كلّه، يدعوهم للتوحّد والتصدّي للاستبداد الإمبريالي الذي يمتصّ دماء الناس: أفرادا وشعوبا، في كلّ مكان، لأنّ وحدة العمال الكادحين، وإخوة الشعوب المقهورة، في عقيدته، هما السلاح الأساس في نضالهم العادل ضدّ جشع الإمبريالية وقسوة استبدادها.
تميّز محمد نفّاع بنشاطه منذ صغره، وخاض نضاله الاجتماعي والسياسي بلا كلل ولا ملل، ما جعله يحظى بثقة حزبه وجمهوره. بدأ طريقه في صفوف الشبيبة الشيوعية، وراح يرقى سلّم المناصب بدءا بسكرتير الشبيبة الشيوعية إلى أن أصبح أحد قادة الحزب الشيوعي البارزين. وقد تتوّجت ثقة الحزب به، حين ولّاه منصب أمينه العام، وانتدبه لتمثيله كنائب في البرلمان. ولم يسلخه كلّ ذلك عن نقائه وصدقه وتواضعه.
الفصل بين السياسة والأدب، في هذه البلاد التي يحترف حُكّامها سياسة الاحتلال والقهر والتمييز العنصري ومصادرة الأرض، عملية صعبة بل تكاد تكون مستحيلة. ومحمد نفّاع، كاتب احترف السياسة والأدب وأبدع في كليهما، ولكنّه أبدع أيضا في الفصل بينهما، بحيث تظلّ السياسة سياسة والأدب أدبا. وترك للقارئ حريّة الغوص واستكشاف الدلالات السياسيّة وغيرها في أدبه الجميل. لأنّ السياسة، وكما يعرفها الجميع في هذه البلاد وفي المنطقة وفي العالم كلّه تقريبا، عاهرة تُخفي تحت قناعها الجميل، وجوها متعدّدة، كلّها بشعة، بينما أدب محمد نفّاع هو فنّ وإبداع جميل وراقٍ، له أيضا وجوه عديدة، ولكن كلّها جميلة، سواء كانت بأقنعة أو بلا أقنعة، لأنّ استخدام الرمز أو القناع في الأدب، يُثريه ويُبرز جماليّاته المختلفة. الرمز لا يأتي للتستّر بل للكشف والفضح، كشف ظلم السلطة، تعريتها وفضح ممارساتها. ولهذا، حرص محمد نفّاع، العالِم بأسرار اللغة والحاذق بصناعة الأدب، وبلغته التي يتميّز بها، أن يفصل بين الأدب الجميل والسياسة القبيحة.
في أدبه الجميل أيضا، عرف نفّاع كيف يستفزّ القارئ ويجعل الغصّة تتنامى في حلقه، ثم كيف يجعلها تتراجع ليُدخِل مكانها البهجة والفرح. ففي ما قدّمه نفّاع من أدب، في قصصه ورواياته، تجد الحزن والقهر، ولكن تجد أيضا البهجة والفرح. وهذه هي الحياة.
القارئ عندما يُطالع أدب نفّاع، يعيش معاناة شعبه ومجتمعه في ظلّ سياسة القهر ومعاناة الإنسان الذي سُلبت حريّته، والعامل الذي سُلبت لقمة عيشه، والفلاح الذي سُلبت أرضه، ولكنّه يعيش أيضا بهجة الإنسان الذي بقي مع أهله، وتمسّك بأرضه وصمد في الدفاع عنها، ولم يقف مكتوف اليدين أمام سلطة النهب والقهر. ويعيش القارئ كذلك بهجة الإنسان الذي تمسّك بلغته وتراثه وحافظ على انتمائه، حيث نجد أدب نفّاع، حاضنا للغة، حافظا لدفئها وحيويّتها، وحافظا لتراثنا الفلسطيني والعربي عامة من الضياع والتشويه.
من تسنح له فرصة قراءة “فاطمة”، رواية نفّاع ورائعته، تلك الوجبة العامرة بكل أطايب الأدب، سيعيش فيها بهجة الراوي، ذلك الفتى الذي أحبّ فاطمة (الشخصيّة، بطلة الرواية). سيعيش أيضا حزنه وقهره بموتها. ومثل هذه البهجة وذلك الحزن، نجدهما أيضا، ليس في رواية “فاطمة” فقط، بل في أدب نفّاع كلّه، في قصصه القصيرة ورواياته التي كتبها وأصدرها فيما يزيد عن خمسة عقود من العطاء المتواصل في السياسة والأدب، وفي الحياة عامة. كان محمد نفّاع منذ نعومة أظفاره، إنسانا معطاء وكاتبا غزيرا يغرف من معين لا ينضب. وكان قلمه سيّالا لم يتوقّف نبضه إلّا بتوقّف نبض محمد نفّاع نفسه.
كان محمد نفّاع وسيظلّ بيننا كما كان، إنسانا متميّزا بكل ما للتميّز من معنى. لم يُغادره الصدق لحظة، في حياته وطريقة عيشه، وفي السياسة وطريقة تعامله معها، وفي الأدب بأجناسه المختلفة. وتميّز أكثر ما تميّز، في الأدب، في قصصه ورواياته، حيث اجتهد ليحفظ لنا لغتنا وتراثنا، وحرص أن يسرد لنا الماضي والحاضر، من أجل أن يبني لنا مستقبلا أفضل، مستقبلا يحفظ إنسانية الإنسان وحريته وكرامته.
لا أظنّ أنّ كاتبا آخر يستطيع أن يفعل ما فعله أبو هشام، أن يجمع ما جمعه في أدبه، ويُوثّق ما وثّقه، وبلغة حيّة تفرّد بها، فجاء أدبه عملا موسوعيّا يضمّ الكثير من معالم التاريخ والجغرافيا والتراث التي تحتاجها أجيالنا لتتعلّم كيف تُحافظ على لغتنا وتراثنا وتاريخنا، وبالتالي، لتُحافظ على كرامتنا وهويتنا الفلسطينية والعربية الأصيلة، وعلى انتمائنا الفلسطيني والعربي والإنساني.
يجد القارئ في أدب نفّاع، الكثير من الأسماء التي توثّق الزمان والمكان وساكنيهما، من إنسان ونبات وحيوان. تلك الأسماء وثّقها نفّاع في أدبه، ليطبعها في ذاكرتنا الفردية والجمعية، ليُنقذها من الضياع والنسيان.
محمد نفّاع كاتب له لغته المميّزة، فلا هي فصيحة ولا هي عاميّة، هي لغة فريدة تسيل من فكره وقلمه مستندة إلى مخزون ذاكرته وثقافته، والأهمّ من ذلك، ممتوحة من لغة الناس كلّ الناس، على اختلاف مستوياتهم الثقافيّة وسلوكياتهم الأخلاقيّة، ومعتقداتهم الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة.
وسرد نفّاع أيضا، يتميّز في قصصه ورواياته، ليس بلغته فقط، وإنما بتقنياته أيضا. وللتمثيل فقط، يوظّف نفّاع السخرية بشكل جميل جدّا، وهادف جدّا، كأداة للتعويض وأداة للكشف والفضح. ويجوب أيضا “تيّار الوعي” بكل تقنيّاته، بشكل حاذق جدّا. ومثل ذلك الكثير.
حمل نفّاع فكرا تقدّميّا انعكس بشكل واضح في أدبه الذي تميّز بثلاثة أجناس أدبية عرفتُه بها، وعلى رأسها تتربع رائعته “فاطمة”، تلك الرواية التي تداخلت فيها كلّ الأجناس الأدبية بشكل موفّق وممتع. وتميّزت “فاطمة” أيضا، بفكرها التقدّميّ، وسردها السلس ولغتها الجميلة. وربّما أجمل ما فيها أنّ القارئ، المنتمي على الأقلّ، يجد نفسه ماثلا في كلّ حرف من حروفها.
عرفت محمد نفّاع أيضا، بتلك الشذرات اللغوية التي كان يتحفنا بها من على صفحات جريدة “الاتحاد”، في زاوية خاصة تحت عنوان “جواهر اللغة”. وهي جواهر فعلا، نثرها علينا فأنار بها قلوبنا وعقولنا، وعمّق انتماءنا للغتنا الجميلة وكلّ ما تعنيه من معاني الانتماء.
في تلك الزاوية كتب نفّاع أحيانا، عن مفردات نعرفها. مثلا، كتب عن “الشاغور” وكلّنا نعرف الشاغور: الوادي الذي يتدفّق فيه الماء، والشاغور المنطقة وقُراها في شمال فلسطين. ولكن أحيانا أخرى، كتب عن مفردات لا تخطر لنا على بال. هل يخطر لنا على بال ونحن نتلفّظ بها، من أين جاءت عبارة “شغل شفشقة”؟ من منّا كان يعرف أنّ الشفشاق والشفشليق والشمشليق، والشمْلق هي المرأة المسنّة أو العجوز. والعجوز تفقد شيئًا من قدرتها على العمل فيُصبح شغلها شفشقةً، أي يُصبح عملها غير متقن، يعني من قفا إيدها، أو مثل شغل ستّي لضرّتها. لله درّك يا نفّاع كم حرصت على المستقبل الذي لا بدّ له من ماضٍ وحاضر!
عرفت نفّاع كذلك بقصصه القصيرة التي أشبعها ولم يشبع منها. وبمجموعاته الكثيرة مثل “الأصيلة” و”التفاحة النهرية” وغيرهما الكثير. في قصصه القصيرة وبلغة مميّزة لا يتقنها إلّا محمد نفّاع، متح أفكاره وموضوعاته من الوطن وأرض الوطن، ومن ناس الوطن وهمومهم وتُراثهم. وقد يكون الأهمّ من ذلك، أنّه متحها من جروح الوطن التي لا تندمل.
من الصعب، في سطور أو في صفحات أو حتى في كتب، أن نفي إنسانا سياسيّا وأديبا مبدعا بقامة محمد نفّاع، حقّه. اقرأوا أدب محمد نفّاع، تجدوه جزءا من ذاتنا وشخصيتنا وهويتنا. اقرأوه وتذكّروا: أنا لا أعرف أحدا قرأه وقال: “قرأته ولم استمتع!”. لا تبكوا محمد نفّاع، لا يُبكى الرجال، اقرأوا أدبه، اقرأوه ليس لأنّ في قراءته عزاء له ولذويه، بل لأنّ فيه قراءته عزاء لنا جميعا برحيله، ولأنّنا بقراءته سنبقى، وبها سيبقى هو فينا وبيننا.