د. محمد هيبي
في مناهج تدريس الأدب العربي لطلاب المرحلة الثانوية في مدارسنا العربية، أُدرِجَت قصيدة بعنوان “نوح الجديد”، للشاعر السوري أدونيس. ولا أدري بالتحديد ماذا كان الهدف الذي يختبئ وراء إدراجها، ولكن بالعقل، وبالفطرة أيضا، أدركُ أنّ نوايا السلطة التي تقرّ المناهج لطلبتنا، لا تحمل لنا ولهم خيرا.
أذكر أنّني حين كنت أدرّس القصيدة المذكورة التي يقول الشاعر فيها: “لو رجع الزّمانُ من أوّلِ / وغمرت وجه الحياة المياه / وارتجّت الأرض وخفّ الإلهْ / يقول لي يا نوح أنقذْ لنا / الأحياء – لم أحفلْ بقول الإلهْ / ورُحت في فُلكي، أزيح الحصى / والطين عن محاجر الميّتينْ / أفتح للطوفان أعماقهم“، كنت أسأل طلابي: لماذا يتمرّد نوح الجديد على الإله ويرفض أنقاذ الأحياء ويذهب لإنقاذ الأموات؟ وكنت أشعر بكثير من الأسى حين لا يلتفت الطلاب للفكرة الأساس في السؤال، وينحون منحى آخر بإجاباتهم: “هذا كفر”. ولكن رغم ما في إجابتهم تلك من أسى، فقد كانت تُزيح الحصى والطين عن محجريَّ وتأخذني إلى نوايا السلطة وراء إدراج هذه القصيدة، وما قد تجرّ إليه من نقاش قد يُرسّخ الفرقة والتّفسّخ بين الكثرة ممن يقتلهم الاتّباع والنقل، والقلّة ممن يُفكّرون بعقولهم، علما بأنّنا جميعا أبناء مجتمع واحد وشعب واحد حرصت السلطة على تمزيقنا وترسيخ جهلنا وتفسّخنا.
وقد كان يغمرني الفرح حين يهبّ إصبع يتيم يقول صاحبه ما معناه أنّ الشاعر يعتقد أنّ الأموات أحقّ بالحياة من الأحياء. وكنت بعد كيل المديح للطالب وإجابته أقول: “هذا واحد منكم يُفكّر بعقله لا بعواطفه، وجدير بكم أنتم أيضا أن تُفكّروا مثله، بعقولكم، وأن لا تخافوا من السؤال والتساؤل: “لماذا يتمرّد نوح الجديد على الإله ويرفض أنقاذ الأحياء ويذهب لإنقاذ الأموات؟ ولماذا يُفكّر الشاعر، كما قال زميلكم، أنّ الأموات هم الذين يستحقّون الحياة وليس الأحياء؟ أليس الأحياء، أحيانا على الأقلّ، يعيشون على دماء الأموات؟”. ولمّا كانت دماء شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا، لم تجفّ بعد، كنت أسأل طلابي، وبشكل خاص أولئك الذين اعتبروا قول الشاعر كفرا: هل يستطيع أحدكم أن يفسّر لي لماذا حدث ما حدث لأهالي صبرا وشاتيلا ولم يحدث لنا؟ لماذا ماتوا وبقينا أحياء؟ هل نحن نستحقّ الحياة وهم يستحقّون الموت؟ ألم يكن في موتهم حياة لنا؟ ألم يُضحّوا بدمائهم بينما جنيْنا نحن ثمار تضحياتهم؟ ألستم جميع تعلمون أنّ بيننا من لا يستحقّ الحياة، وأنّ الذين ماتوا أحقّ بها منه؟ وفي أحسن الحالات كان جواب بعض الطلاب: “ممكن أو ربما”، إلّا ذلك الإصبع اليتيم الذي لا يكفّ عن المشاكسة والتحليق في سماء غرفة الصفّ!
وعلى ما تقدّم، يُصبح السؤال الذي طرحه سعيد نفاع في بداية كتابه، “جيش الإنقاذ وظلم ذوي القربى!”: “لماذا بقينا نحن وتشرّد بقية أبناء شعبنا أيدي سبأ؟!” وما تبعه من أسئلة (16)، يُصبح مادّة للتّفكير الموضوعي العميق، إن لم نَقُلْ شرعيا. والتفكير مصدره العقل وليس العاطفة والنقل. والإجابة عنه تحتاج منّا أن نتحلّى بجرأة سعيد نفّاع وقدرته على الاقتحام. وظنّي أنّ هذا هو بعض ما يستفِزُّنا إليه في كتابه.
وعليه أيضا، يُطرح السؤال الذي قد يَعتبر البعضُ أنّه سكين في الخاصرة متناسين أنّهم هم السكين: أليس من الممكن أنّ الكثيرين منّا، في النكبة وبعدها وحتى اليوم، ظفروا بالحياة بفضل عمالتهم ضدّ من ضحّوا بدمائهم من جنود جيش الإنقاذ الذي صدّقنا الرواية المشبوهة التي حاكوها حوله، فلعنوه ولعنّاه معهم؟
لقد عشنا لأكثر من سبعة عقود، مع تلك الرواية التي تقول إنّ ذلك الجيش، جيش الإنقاذ، لم يجئ إلى فلسطين للدفاع عنها وعن عروبتها وأهلها، بل جاء لتسليمها. عشنا مع تلك الرواية وما زلنا نعيش دون أن نحتكم إلى عقل أو أن نفحص مدى مصداقيّتها أو مصداقية مَن يقف وراءها. وتَعاملْنا مع أولئك الجنود الذين ضحوا بدمائهم، كأنّهم مجرمون لا يستحقّون منّا ذاك العناء! أو صدّقناها لأنّ نفرا قليلا بل هامشيّا من ذاك الجيش قام بعمل مسيئ رأينا فيه إثباتا للرواية، فنسينا كلّ إنجازاته، ونسينا دماء جنوده الطاهرة التي روت أرض فلسطين، وتَحوّلْنا إلى بوق لتلك الرواية المشبوهة، بوق يزعق بالتعميم دون الرجوع إلى أيّ مصدر يقبله العقل والمنطق. وكنّا وما زلنا نقوم بذلك، في الغالب كما يذهب سعيد نفّاع في كتابه، لأنّنا وجدنا في تلك الرواية، الشمّاعة التي نعلّق عليها غسيلنا القذر، ونبرّر بها جهلنا وجبننا وفشلنا وبكائنا كالنساء على وطن لم ندافع عنه كالرجال. وليس في هذا القول أيّ قصد للانتقاص من قدر النساء أو مكانتهن، فأنا لا أعلم فقط، بل أعلم وأومن أن بعضهنّ أرجل من كلّ الرجال.
لا أنكر أنّني كنت بين الكثرة التي نكبها النقل والوعي السائد، وأنّني لعنت جيش الإنقاذ مع من لعنوه. ولذلك أتساءل الآن، بعد قراءتي للكتاب: كيف كنت أحضّ طلابي على التفكير بالعقل لا بالعاطفة والنقل، وأنا في كثير من الأمور، ومن بينها موضوع جيش الإنقاذ، أضع رأسي بين رؤوس من قتلهم النقل والوعي السائد؟! لهذا قرأت بتمهّل، كتاب “جيش الإنقاذ وظلم ذوي القربى”، لصديقي المحامي سعيد نفاع، الذي أهدانيه وكتب لي في صفحته الأولى: “أتمنّى أن تجد فيه ما يهمّ”. والحقيقة أنّني وجدت فيه الكثير مما يهمّ، وجدت فيه أكثر من دفاع عن جيش الإنقاذ وأكثر من إنصاف له. وجدت فيه اقتحاما ليس مستفِزّا فحسب، بل هو بمثابة إعلانٍ للحرب من طرف جيش مكّون من جنديّ واحد، على جيوش متعدّدة الجنسيات والأهداف، من باحثين ومؤرّخين من ذوي القربى وغيرهم، تنكّروا لرسالتهم سهوا أو عن قصد، كليّا أو جزئيا، وخضعوا مع بسطاء الناس، لا بل وساهموا في إخضاعهم للنقل والوعي السائد، ولمن سوّدوه بكل ما لهذه المفردة من معانٍ. ولذلك أكتب هنا، ليس دفاعا عن سعيد نفّاع أو دعما لطرحه فحسب، وإنّما أكثر من ذلك، لأكفّر عن خطيئتي بالخضوع للنقل والوعي السائد، ولأمحو لعناتي التي كِلْتُها عن غير وجه حقّ، لجيش الإنقاذ وجنوده الذين سالت دماؤهم دفاعا عن فلسطين وعروبتها وأهلها، جيش الإنقاذ الذي قد تكون سيّئته الوحيدة، هي أنّه لم يُزح الحصى والطين عن محاجرنا، ولم يفتح للطوفان أعماقنا، ولم يطهرنا من جبننا وعمالتنا وتفكيرنا القبلي بعواطفنا ومصالحنا الشخصية الضيّقة. وإلّا، فكيف نفسّر وجود العملاء، الفلسطينيين حصرا، الذين ذكرهم سعيد نفّاع والذين لم يذكرهم، العملاء الذين ساعدوا الغاصب على ممارساته وبثّ روايته؟ ولذلك، فقد يكون جيش الإنقاذ بدماء جنوده الطاهرة، قد منح الشهادة لمن يستحقّون الحياة، ومنح الحياة لمن لا يستحقّونها، ناهيك عن أنّ هؤلاء الأحياء الأموات، أجبن وأحقر من أن يُفكّروا بالشهادة، أو بفلسطين هدفا لها.
كتاب سعيد نفاع ليس مجرّد معركة، بل هو حرب كاسحة لا هوادة فيها، قد لا تُغيّر جغرافيا، ولكنّها قد تُغيّر الوعي السائد، فهي حرب عليه. وإذا نحن تجاهلنا حربه، لأنّه واحد منا، وما أدراك ما واحد منّا، إذا تجاهلناها ولم نتغيّر، فذلك يكون تأكيدا لما جاء به سعيد نفّاع في كتابه، أنّنا بحثنا وما زلنا نبحث عن شمّاعات نعلّق عليها أخطاءنا لأنّنا ما زلنا عاجزين عن حمل وتحمّل تبعاتها، أو أكثر من ذلك وأسوأ، لأنّنا لا نريد، لأنّ حياتنا الجديدة، بكل ما فيها من إغراءات ماديّة واستهلاكية، تستمرئ أنّ النكبة ما زالت تعشّش في نفوسنا وأذهاننا، نتناقلها جيلا بعد جيل. وهذا هو ما يجعل النكبة توغل فينا، وما يجعل فلسطين توغل في نكبتها وفي رزوحها تحت نير البيع والاغتصاب.
نعم هي الحرب! فكتاب سعيد نفّاع يشنّ حربا دمويّة قد – وأقول قد، لأنّه لم يعد في حياتنا شيء مضمونا – قد لا تسيل فيها دماء، ولكن قد تسيل فيها نفوس وعقول، فهي حرب اقتحامية لها ما يُبرّرها، لأنّها ليست حربا على وجودنا الجسدي، بل هي حرب على أسباب وجودنا، وعلى وعينا وثقافتنا نحن، فلسطينيين وعربا، ولكن بشكل خاص “نحن الذين بقينا (في الوطن) نعيش أسطورة صمودنا عام ال-48 نجمّل فيها تاريخنا وحياتنا وهي أبعد ما تكون عن الجمال! تماما كما يعيش “أبناء عمومتنا” أسطورة نصرهم “الداودي-الجولياتي” في ال-48 يُجمّلون بها حياتهم وهي أبعد ما تكون عن الحقيقة!” (16).
ولهذا أجد نفسي أوافق سعيد نفّاع وأدعم إصراره على السؤال: “هل سيقوم فينا ومنّا من سيزيل من رؤوس مثقّفينا وقادتنا أسطورتنا؟” (17). وهو سؤال لا يحمل إلّا معنى الإصرار على ضرورة أزالة تلك الأسطورة من رؤوسنا. وسبب هذا الإصرار شرعيّ جدّا، فهو ما نحن فيه بسبب تلك الأسطورة من عمى الجهل والنقل، ليس عند بسطائنا فقط، بل عند مثقّفينا وقادتنا قبلهم. وهل أَدلُّ على ذلك لمعرفة الحقيقة في موضوع الكتاب وغيره من حقائق تاريخنا، من اضطرار سعيد نفّاع إلى اللجوء إلى رواية العدو الصهيوني، لأنّه كما جاء في الكتاب، “الأدبيّات العربية تناولت النكبة من كل حدب وصوب، ولكنّك كلّما أوغلت فيها زادت وتشابكت التساؤلات أكثر لكثرة التناقضات وانعدام الدقّة. غير أنّه وإن قيّض لك أن تعرف اللغة العبرية لتروح تفتّش فيها علّك تجد بعض أجوبة، تجد لشدّة استغرابك وتكشف أنّ أهل هذه اللغة (العبرية) لم يكونوا فقط أقوى منك في ساحات القتال الميدانيّ وما زالوا، فتجدهم أقوى منك كذلك في ساحات القتال بالكلمة، فكلمتهم أدقّ وفي الكثير من الأحيان أصدق وليس بالضرورة في حقّهم أو صالحهم المباشرَيْن دائما. فأحيانا، ولسخرية الأقدار التي على ما يبدو لم يتبقَّ لها ما تسخر منه إلّا إيّاك، تجدها لصالحك وإن لم تكن في حقّك” (15).
وعليه، لا أستطيع في هذه العجالة أن أعود ولا حتى بالإجمال على ما جاء به سعيد نفّاع في كتابه. فطرحه فيه واضح ومراجعه واضحة، ومقارناته بين روايات تلك المراجع واضحة هي كذلك. ولذلك أرى أنّه لا غنى لأيّ مثقّف عربيّ عامة، وفلسطيني خاصة، عن أن يقرأ الكتاب من غلافه إلى غلافه، بغضّ النظر عن قبوله أو معارضته، ليقف على الجهد الذي بذله الكاتب على مدى سنين طويلة، ليقف على الحقيقة. على أنّ على القارئ أن يضع نصب عينيه، جرأة الطرح والاقتحام التي وضعت سعيد نفّاع كمؤرّخ مقتحم، في مكانة فاقت مكانة المؤرّخين المُدبلمين الذين وثّقوا المنقول وتقاعسوا عن، وربما خانوا أيضا، محاولة الوصول إلى ما لا يروقهم وبالذات عند الطرف الذي ينتمون إليه (15). وعندها لا شكّ عندي أنّه سيحصل للقارئ الذي يتحلّى بشيء من الموضوعية، ما حصل لي، حيث بلغتُ الحقيقة التي بلغها سعيد نفّاع، وذهبت أطرح معه، تساؤلاته التي لا تقلّ أهمّية عن المطالبة برفض الرواية التي سيطرت علينا كل هذه العقود، بل تجيء دعما لرفضها ورفض الوعي السائد بشأنها وبشكل عام. وهي تلك التساؤلات التي جاءت في خاتمة مقدّمة الكتاب كأسئلة إنكاريّة تُحيل إلى أنّه جاء الوقت لنقوم بذلك: “هل يستحقّ هذا الجيش أن نُعيد له الاعتبار وعلى الأقلّ في أذهاننا وذهنيّتنا نحن فلسطينيي البقاء؟ وهل يستحقّ أن نُفتّش عن قبور أبطاله وعلى الأقلّ “كُرمى” لذويهم الذين لم يدفنوهم؟! … ولنصلي لهم أربع تكبيرات فرض كفاية ولنقرأ الفاتحة على أرواحهم، ونصلّب أمام قبورهم ونملأها أكاليل من أزهار بلادنا التي ارتوت من دمائهم وتغذّت على بقايا أجسادهم في سهول ووديان وروابي بلادنا؟!” (19-20).
وبعد كلّ ما تقدّم، لا أجد عندي كلاما يفي بحقّ الكاتب أو يليق توصيفا لكتابه، أدقّ وأصدق مما خطّه قلم بروفيسور إبراهيم طه في تظهيره للكتاب: “هي مرافعة من مبدئها حتى منتهاها. مرافعة طويلة ومتأنّية، ماضية وحادّة، صداميّة دمويّة، تشنّ حربا على وهم النقد “المحايد”. وهمٌ يتبخّر في عنوان الكتاب مباشرة بقوّة الشكوى التي بثّها طرفة بن العبد قبل قرون (وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة — على المرء من وقع الحسام المهنّد). فحين يُخاطبنا العنوان بلغة مسحوبة من قاموس الظلم، ظلم ذوي القربى على وجه الخصوص، يُدرك القارئ أنّ النقاش في سياق الكتاب لن يكون عذريًا رخوًا. رغم ذلك، لم يُكتب للمناكدة، النكد والنكد المضادّ، لأنّه قبلًا وبعدًا يمقت التمسّح بالنظريات الفوقية. فالكتاب مكتوب بحسّ الباحث الفطري عن الحقيقة. لا تشغله المناكفات ولا يبتغي منه أجرّا ولا شهرة ولا يسعى إلى درجة أكاديمية أو مرتبة مجتمعية. وإذا كان منزّهًا عن الأجر متحلِّلا من أسباب المنفعة الذاتية، أكان يفزع من “الباحثين الكبار” ويخشى نِقمتهم؟!” (7). ولهذا، واحترما للقصد والجهد وكل كلمة جاءت في كتاب سعيد نفّاع، أرى أنّ على القارئ، سواء كان باحثا أو قارئا عاديا، أنّ يتجرّد من أفكاره المسبقة، وأن يُعدّ نفسه ذهنيا وموضوعيا، للقبول أو الصدام، وليكن الصدام ثقافيّا أخلاقيا على الأقلّ.