محمد هيبي
آمنت وما زلت، بعد تقاعدي عن مهنة التعليم، أنّ المعلّم الذي لا يتعلّم من طلّابه، لا يستحقّ أن يقف أمامهم! ولذلك خصصت طلّابي بإهدائهم أحد كتبي، ولهم كتبت: “إلى طلّابي الذين أخذت عنهم أكثر مما أخذوا عنّي”.
زمان، أيّام كان الطلّاب طلّابا والمعلّمون معلّمين، مع اعتذاري الشديد للطلّاب والمعلّمين في هذه الأيّام، لأنّه لا علم لي بما يفعلونه اليوم، كنت أخرج عن المقرّر، وانصاع لطلب طلّابي، أن نتحدّث ولو قليلا في السّياسة، رغم أنّ ذلك، وبالمفهوم الذي كانوا يطلبونه، كان ممنوعا يُحظر على المعلمين الخوض فيه. ولكنّي كنت أتعاطف معهم وأشعر بمدى حبّهم للخوض في الممنوع، أو ما نسميه اليوم المسكوت عنه: الدين والجنس والسياسة. وكنت أعرف أنّ طلبهم الخوض في مثل هذه المواضيع، لم يكن حبّا في المعرفة فقط، بل كان فيه نوع من الانتقام البريء منّي، ربما لصعوبة الامتحانات التي كنت أعدّها لهم، أو لكثافة الواجبات البيتية التي كنت أفرضها عليهم، وربّما بخبث محبّب، امتحانا لي: هل أجرؤ على الخوض معهم في مثل هذه المواضيع، خاصة وأنّهم كانوا يعرفون أنّ في الصفّ بعض العصافير؟ ولم أكن أكترث، كنت أخوض معهم في كلّ ما يحبّونه، وخاصّة في السّياسة. فقد كنت في بعض دروس الأدب والتربية، كثيرا ما أقرأ لهم توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، وحتّى مظفّر النوّاب، وغيرهم من المحظور عليهم دخول المقرّر.
أذكر أنّه أكثر من مرّة، فاجأني طلابي بأسئلة حول تلك المواضيع. وكنت أجيبهم برغبة، وأتناقش معهم بتفهّم، وأردعهم بلطف حيث كان يجب أن أردعهم. ولكن، هناك سؤالان لا أدري لماذا حتّى اليوم، لا زالا يحومان في مخيلتي. الأوّل، ولأوّل وهلة بدا لي غبيّا، ولكن بعد إجابتي عنه، اكتشفت كم كنت أنا ساذجا حدّ الغباء حين اعتبرته كذلك. تعليق الطلّاب على إجابتي جعلني أتعلّم أن لا أتبنّى أحكاما متسرّعة قد أندم عليها لاحقا. فقد كان السؤال على بساطته ذكيّا، وأكثر من ذلك، كما اتّضح لي فيما بعد، أنّه ينصب لي شَرَكا. وقف الطالب المكلّف بطرح السؤال وسأل:
– كم من مائة بالمائة تعتبر نفسك عربيا وكم منها فلسطينيا؟
فكّرت بالأمر قليلا، وقلت استوضحهم كأنّي لم أفهم السؤال:
هل تريدون أن أقول لكم مثلا، أنّني عربيّ ستين بالمائة، وفلسطينيّ أربعين بالمائة؟
نعم، هذا ما نريده! أجابت مجموعة منهم بصوت واحد ونظرات لا تخلو من خبث.
وهنا لم أفكّر كثيرا وأجبت:
*يا حبايبي، أيّها العفاريت الذين ستكون على يدكم نهايتي، هناك أشياء لا تقبل التقسيم والتجزيء، وها هم العرب وفلسطين أمامكم، انظروا إلى حالهم بعد تفتيتهم. ولذلك أقول لكم، وهكذا يجب أن تكونوا، أنا عربيّ مائة بالمائة وكذلك فلسطينيّ مائة بالمائة، كلّ منهما كلّ واحد لا يقبل التجزيء.
وكم كانت دهشتي عظيمة حين علا تصفيق حادّ يصحبه فرح بدا جليّا في عيونهم. بعد انتهائهم، استوضحت الأمر منهم، فقال المكلّف الذي طرح السؤال: لأنّك نجحت في الامتحان مائة بالمائة. وأضاف بكلّ صراحة وجرأة أنّهم خطّطوا للسؤال قبل أن أدخل غرفة الصفّ، ليوقعوا بي في شرّ خبثهم وإجابتي. وهنا وقف مكلّف آخر وطرح سؤالا آخر بدا وكأنّه وليد اللحظة والإجابة عن السؤال الأول. ولم يكن كذلك، كان مخطّطا هو الآخر:
ما رأيك بإطلاق اسم فلسطين على المحال التجارية؟*
فاجأني السؤال وأذهلني، وهنا كان لا بدّ من التريّث والتفكير، فقد شعرت بغصّة لحظها الطلاب في حركة حلقي وتقاسيم وجهي التي تغيّرت. لم يخطر ببالي أنّ السؤال قد يكون شَرَكا كسابقه. تريّثت قليلا حتى هدأت نفسي، نظرت في عيونهم المترقّبة، ثم أجبتهم بصوت يكاد يكون مخنوقا:
* أخشى ما أخشاه أن لا يبقى لنا منها إلّا اسمها على اليافطات!
وما أن بلغهم جوابي، حتّى شعرت بالغصّة ذاتها انتقلت إلى حلوقهم. أنقذنا الجرس. شعرت بصوته كئيبا هو الآخر. ولأوّل مرة، لم أشعر بفرح الطلّاب لرنينه معلنا انتهاء الدرس!