رغم كثرة مظاهر الثقافة التي نراها تُمارَس في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، إلّا أنّها ما زالت عاجزة عن إحداث التغيير الفكري المتوخّى منها. ذلك لأنّ العقلية القَبَلية ما زالت تسيطر على تفكيرنا وممارساتنا في تعاملنا مع بعضنا البعض، وفي قبولنا للنقد والرأي الآخر. وعليه فإنّ السؤال الذي لا بدّ من طرحه ومواجهته هو: هل الأزمة التي يعيشها مجتمعنا هي أزمة قراءة ونقد أم أزمة ثقافية وأخلاقية عامّة؟! وهو سؤال إن عجزنا عن طرحه اليوم فهو يطرح نفسه بقوة ورغم أنوفنا جميعًا، وينتظر مثقّفي مجتمعنا، لا بل يستفزّهم ويستحثّهم للإجابة عنه كخطوة أولى لإحداث التغيير المرجو، لأنّ المثقّف الحقيقي الذي يستحقّ هذا اللقب، ملزم بمراجعة ونقد أوضاعه الخاصّة قبل نقد الأوضاع الخاصّة والعامة في المجتمع. فالمثقّف الذي تتوفّر لديه تلك القدرة على مراجعة الذات ونقدها، ونبذها عند حضور الـ “نحن” بدوائرها المختلفة، واحترام الآخر، وتتوفّر لديه كذلك النيّة الصادقة والرغبة في العطاء، هو القادر على إحداث التغيير. ولكنّ السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا وبقوة أيضا: هل هذا النوع من المثقّفين موجود عندنا؟
من نافل القول إنّ تقوقع المثقّف في برجه العاجي يُشكّل دعما لاستمرار الأزمة التي أراها قد تعدت كونها أزمة قراءة ونقد، إلى كونها أزمة ثقافية وأخلاقية عامّة. وسبب استمرارها هو تصرّف المثقّفين الذين يتقوقعون في أبراجهم، أو أولئك الذين يلتزمون ذواتهم ومصالحهم الضيقة، ومن بعدها الطوفان. وإلّا على سبيل المثال لا الحصر، ماذا يعني أن يرضى الكتّاب بالغزل بهم والتّغزل بكتاباتهم، ويرفضون أيّ رأي يُخالف آراءهم ونقد يُصحّح أخطاءهم ويُقابلونه بالشتائم ولا يردعهم رادع من تحويله إلى “طوشة عمومية” لا يُجيزها إلّا الفكر القَبَلي؟ وماذا يعني أن يُصفّق لأخطائهم باقي المثقّفين، وأن تبلغ الجرأة ببعضهم أن يلوم الناقد بقولهم “لا حاجة لمثل هذا النقد”، بينما لا يجرؤ على لوم الكاتب على أخطائه. ألا يعني ذلك أن الأزمة التي يُعاني منها مجتمعنا، كما أسلفت، تعدّت كونها أزمة قراءة ونقد، إلى أزمة ثقافية وأخلاقية عامة؟ ووضع كهذا يُؤكّد أنّ الغالبية العظمى من مثقّفي مجتمعنا، يستحقّون وضعهم بين مزدوجين، ليس لأنّهم لا يقومون بالدور المرجو منهم فحسب، بل لأنّهم يلعبون دورًا مغرقًا في السلبية والتخريب. وكلّ ذلك خدمة لمن؟ أليس المستفيد الوحيد هو السلطة التي تحرّضنا على “إِلعَب وحدك تيجي راضي”!
* * * * *
قرأت ما جاء في العدد السابق لمجلة شذا الكرمل (السنة الخامسة، العدد الأول، 2019)، في بابها الجديد، “حوار العدد”، بقلمي البروفيسور إبراهيم طه والكاتب سعيد نفّاع. وهو حوار قديم بينهما. ولكن، يظهر أنّه بسبب الأوضاع المتردّية التي يمرّ بها مشهدنا الثقافي، وخاصة ذلك التردّي بمستوى النقد وقبول الرأي والرأي الآخر، ارتأت المجلّة، وبحقّ، أن تعيد هذا الحوار إلى الساحة الأدبية، “انطلاقًا من أنّ جوهر النقاش ما زال موضوعًا مؤرّقًا في المشهد الثقافي”، على حدّ تعبير سعيد نفّاع (العدد المذكور أعلاه، ص 44)، وعلى أمل أن تُحقّق المشاركات في هذا الباب، خطوة إلى الأمام في نشر ثقافة الحوار الموضوعي الهادئ والبنّاء، في موضوع النقد وغيره، ولعلّها تُساهم أيضا، ليس في خروجنا من أزمتنا على مستوى الإبداع والنقد فقط، بل خروجنا من أزمتنا الثقافية والأخلاقية عامّة.
في الحوار بين صديقيّ المذكورين أعلاه، أتّفقُ معهما أنّ أزمتنا ليست أزمة في الإبداع، وإنّما في قراءته ونقده وغربلته. ويُحمّل طه بعض المسؤولية للأكاديميين الذين يملكون الأدوات، ولكن لأسبابهم الذاتية أو العامّة لا يفعلون. ويُحمّل نفّاع المسؤولية لغياب التنظيم. وأنا، وإن كنت أرى ما يطرحه طه مقنعًا أكثر، لا أقلّل من قيمة توصيف نفّاع للحالة أو الطريقة التي يطرحها للخروج من الأزمة، وإن كنت لا أرى فيها الدواء السحريّ. ومما لا شكّ فيه، أنّ الموقفين يصبّان في النهاية، وبصدق لا ريب فيه، في مصلحة مجتمعنا وليس في مصلحة مشهدنا الثقافي فحسب. والدليل على ذلك أنّ الخلاف في الموقف، وقسوة الخطاب أحيانًا، لم يُؤدّيا إلى قطيعة بينهما، العكس تمامًا، فالمعرفة البعيدة تحوّلت إلى ثقة واحترام متبادلين وصداقة. وجدير بالذكر هنا أنّني خضت التجربة نفسها مع بروفيسور إبراهيم طه، حين دار بيننا قبل سنوات، نقاش نشر بعضه في صحيفة الاتحاد. وكان صريحًا وحادّا بل ومؤلما أحيانًا، إلّا أنّ سماحة أخلاقنا وصفاء قلوبنا وربما الأهمّ من ذلك، رجاحة عقولنا واحترامنا لأنفسنا، كلّ ذلك لم يجعلنا نفكّر للحظة واحدة بالقطيعة، بل زادت عُرى الصداقة قوة وزادت أسباب المحبة والاحترام سببًا. واعتبرنا هذه الصراحة أساسًا لاستمرار محبّتنا واحترامنا لأنفسنا وللآخرين. فهل نحن، أنا وهو، حالة شاذّة؟ هذا ما لا أرجوه!
لسنا حالة شاذّة في مجتمعنا، فالخير موجود، ولكنّه حتى الآن، وللأسف، غير كاف لأن يمنع معاناة مجتمعنا، ليس من أزمته في القراءة والنقد والغربلة فقط، وإنّما من أزمته الثقافية والأخلاقية عامة، والتي تحتاج لاستئصالها، إلى تضافر الجهود من أولئك المثقّفين الذين لا يملكون الأدوات فقط، بل ويملكون بالإضافة إليها، كما ذكرت، النيّة الصادقة والرغبة في العطاء. وهؤلاء المثقّفون بلا شكّ، موجودون في مجتمعنا، قد لا أقول بكثرة، ولكنّهم موجودون. ولكن تنقصهم روح المبادرة للتعرّف على أمثالهم، لكي نلتقي وتتضافر الجهود. ولهذا يجيء هذا الحوار على صفحات “شذا الكرمل” لاستفزازهم واستنهاض هممهم.
* * * * *
لماذا أرى أنّ الأزمة بالأساس، تعدّت كونها أزمة في القراءة والنقد، إلى كونها أزمة ثقافية وأخلاقية عامّة؟ قال إبراهيم طه لسعيد نفّاع، في الحوار المذكور أعلاه، “إذا كان قلبك “مجمورًا”، فقلبي مسجور”. والقصد مجمور ومسجور من حالتنا النقدية والثقافية والعامة. وقد بحثت عن مفردة تفوق بمعناها مفردة “مسجور”، كما فاقت مسجور “مجمورًا”، فلم أجد، أو الأصحّ، خانتني معرفتي، وذلك لأعبّر عن وضع قلبي الذي يفوق بألمه وضع قلبيهما. فالتجربة التي خضتها في السنة الأخيرة، وهي تجربة نقدية، ربما كانت قاسية ومؤلمة، ولكنّها لم تشذّ عن الموضوعية التي يحتاجها النقد. وقد رأى وسيرى ذلك كل من قرأ أو سيقرأ كتاب “نوم الغزلان” للكاتب محمد علي طه، ومقالي النقدي حوله. هذه التجربة، جعلتني أرى الواقع المؤلم، وأنّ أزمتنا تفوق القراءة والنقد وتتعدّاهما إلى الثقافة والأخلاق.
في العام الماضي، أصدر الكاتب محمد علي طه كتابه “نوم الغزلان”. هو عبارة عن سيرة ذاتية له. قرأت الكتاب وصُعِقت، ليس من نرجسيته المعهودة، رغم أنّها في كتابه هذا، فاقت كلّ أعماله السابقة، وأعني بـ “فاقت”، ليس من حيث الكم فقط، وإنّما من حيث الكمّ والمبالغة والانحدار الأخلاقي. ولكن رغم كلّ ذلك، ليس لهذا صُعِقت، وإنّما للكمّ الهائل من الأكاذيب وتشويه الحقائق التي رأيت أنّ صاحب “نوم الغزلان” راهن فيها على جهل القارئ أو سطحيته، وربما على قصور النقد عن محاسبته. الأكاذيب وتشويه الحقائق وظلم الأحياء والأموات، كل ذلك شكّل السبب الأول والأساس لما كتبه، ولكنّ الانحدار الأخلاقي في الخطاب النرجسي، والاستهتار بالقارئ وضرورة الدفاع عنه وعن الناقد، شكّلت هي أيضًا أسبابًا أخرى دافعة. وأصرّ هو لفقره، أنّ دافع الكتابة كان شخصيًا وليس موضوعيًا.
من بين ما قلته في المقال، حول وضعنا الثقافي القائم قبل “نوم الغزلان”: “نعيش في الفترة الأخيرة، صحوة أدبية ثقافية فيها الكثير ممّا يُرضي وينفع، رغم كلّ ما لنا عليها من مآخذ تجعلها في بعض جوانبها مشبوهة أو موجّهة بأيدٍ لا تُريد لنا الخير. وأول هذه المآخذ، وربما أهمّها، هو ندرة المثقّفين العضويين بيننا، وثانيها، وأخاله لا يقلّ أهميّة، أنّنا نُبدع في مجال الأدب وننشر، ولكنّنا لا نقرأ. وبعضنا القليل الذي يقرأ، لا يُدرك أنّ بعض كُتّابنا يخدعونه ولا يقولون الحقيقة. ولمصلحة أو لضعف فيه، لا يُحاسبهم. ولكنّ الغريب هو أنّ معظم قرّائنا، وحتى نقّادنا أحيانًا، عندما يكتبون حول بعض النصوص الأدبية، هم أيضًا لا يقولون الحقيقة حول ما يُشهره النصّ أو يُضمره. إمّا لأنّهم لم يروها، وهذا مؤسف، وإمّا لأنّهم رأوها ولكن آثروا لأسبابهم، غضّ النظر عنها وعمّن كتبها مشوّهة أو مجزوءة أو مقلوبة، وهذا مؤسف أكثر. والأغرب أيضا هو أنّ بعض القرّاء أو النقّاد، عندما يكتبون نقدا حول بعض النصوص، يكيلون لكاتبها المديح، رغم فهمهم الحقيقة المسيئة لهم ولغيرهم. ذلك لأنّ كاتب النصّ، بغضّ النظر عن شكل كتاباته ومضمونها، هو “كاتب كبير”، أو “شابّ حبوب ويستحقّ”، أو “صبية ونغنوشة” تستحقّ الاهتمام بها، الأدبي وغير الأدبي”.
ما جاء في الفقرة أعلاه، لا يبتعد عمّا قاله طه ونفّاع، إلّا بتلك الإشارة إلى العوامل السياسية التي توجّه مشهدنا الثقافي بأيدٍ لا تُريد لنا الخير. وفيما تبقّى، بدا واضحًا أنّني أرى مثلهما، أنّ الأزمة التي يُعاني منها مشهدنا الثقافي، هي أزمة ثقافية تنعكس في قلّة القراءة ونوعيتها وقلّة النقد ونوعيته. ولكن لم أُشر إلى أنّ الأزمة هي أزمة ثقافية وأخلاقية بالأساس. ولم أقل ذلك ليس لأنّني لم أكن أدرك وجود الأزمة، وإنّما لأنّني خشيت أن أبالغ في تقديري وتقييمي فألوم نفسي قبل أن يلومني الآخرون. واليوم، بعد كتابة مقالي حول “نوم الغزلان”، وبعد ردود الفعل التي حظي بها، على اختلافها سلبًا وإيجابًا، اكتشفت أنّ مشهدنا الثقافي الذي يُعاني من أزمة في القراءة والنقد، أزمته هذه، ما هي إلّا انعكاس للأزمة الحقيقية والأساسية التي يعيشها مجتمعنا، وهي أزمة ثقافية وأخلاقية عامة. واكتشفت أيضا أنّ الصحافة عندنا تُعاني من الأزمة القاتلة نفسها. فأزمة الصحافة ليست نابعة عن قصور مهني، وإنّما من نفعية مقيتة وفقر أخلاقي مثير للقلق والاشمئزاز. ذلك لأنّ واجب الإعلام والصحافة أن يبحثا عن الحقيقة وأن يقولاها بدون خوف أو تأتأة، لا أن يُعمّقا الأزمة بتوظيف المصالح الضيّقة، خدمة لها ولأصحاب النفوذ.
على المستوى الثقافي، اكتشفت بعد مقالي، أنّ مجتمعنا بشكل عام، ومثقّفيه بشكل خاص، ما زالوا يرفضون النقد الموضوعي، فما بالك إذا كان مؤلما حتى وإن كان كذلك حيث يجب أن يكون. دلّ على ذلك، تصرّف الكثير من المثقّفين بعد قراءة مقالي المذكور، وأولهم تصرّف “المثقّف الكبير”، محمد علي طه، صاحب “نوم الغزلان”، نفسه، الذي آثر الصمت على الردّ الموضوعي، أو ردّ ببعض مقالات غير مباشرة فيها غمز ولمز وعجز عن المواجهة الموضوعية. ولو توقّف الأمر عند هذا الحدّ لهان الخطب، بل تعدّاه إلى الردّاحين المدافعين بالوكالة عنه، الذين تولّوا أمر الشتائم والردّ القَبَلي الذي يفتقر لأبسط حدود الموضوعية والذوق العام. أمّا باقي المثقّفين الذين قرأوا المقال، فقلّة منهم كان لهم موقف علني واضح، وكثر اكتفوا برسائل خاصة، شفهية أو مكتوبة، أثنوا فيها على المقال وجرأته وضرورته. ولكنّ معظم المثقّفين الذين يُرجى تأثيرهم، لم يكن لهم أيّ ردّ فعل ثقافي. هم أيضا آثروا الصمت والحياد، في حين أنّ التزامهم الثقافي يُحتّم عليهم اتخاذ موقف بغض النظر عن مضمونه، معي أو ضدّي.
على المستوى الثقافي أيضًا، اكتشفت أنّ الكثير من مثقّفينا لا يهمّهم ما يقرأون بقدر ما يهمّهم لمن يقرأون. أي أنّهم يهتمّون بشخص الكاتب أكثر من مضمون نصّه. وهذا الأمر لا يُشير إلى الأزمة الثقافية فحسب، بل كذلك إلى العقلية التي يحملها مثقّفونا وما فيها من رواسب اجتماعية قَبَلية ما زالت تُسيطر على تفكيرهم وممارساتهم.
وعلى مستوى المؤسّسات الثقافية التي يتزايد عددها هذه الأيام في معظم بلداتنا، والتي يُفترَض بها أن تسعى إلى التنوير والتوعية ونشر ثقافة الحوار الموضوعي البنّاء التي يحتاج إليها مجتمعنا، أقرّ وأعترف أنّه رغم مشاركاتي في الأعوام الأخيرة في الكثير من نشاطاتها، لا أستطيع حتى الآن، تحديد الأهداف الحقيقية التي ترمي إليها هذه المؤسسات من وراء نشاطاتها الثقافية، إذ لا أرى شيئًا يتحقّق من الأهداف الثقافية المتوخّاة منها، لا على مستوى المعرفة، ولا على مستوى الممارسة. وهو أمر يُؤكّد أنّ العقلية القَبَلية ما زالت تسيطر على الغالبية العظمى من مثقّفينا الذين يقبلون النقد ما دام يُسمِعهم ما يريدون سماعه، لا ما يجب أن يُقال بموضوعية سلبًا وإيجابًا. وأخشى ما أخشاه، هو أن تكون تلك المؤسّسات مجرّد مظهر برجوازي أو شكلي، نُفرغ فيه بعض طاقاتنا. ورغم تخوّفي هذا، لا أستطيع أن أنكر الحاجة لدور نشاطها التثقيفي، مهما كان متواضعًا، والذي أرجو أن تكون له على المدى القريب أو البعيد، مساهمة في تغيير ما نحن فيه. ويؤسفني هنا، أنّني لا أستطيع ذكر ولو البعض القليل من التجاوزات اللاثقافية واللاأخلاقية لتلك المؤسّسات، لا لأنّني أخشى في الحقّ لومة لائم، ولكن لأنّني لا أملك حتى الآن، البرهان على تلك التّصرّفات التي تجعلني أفكّر بهذا الاتجاه، أو الآلية التي تساعدني على دخول هذا الحقل من الألغام. فالموضوعية والحقيقة تقتضيان درء الشكّ بالبرهان.
على المستوى الأخلاقي أيضًا، الأزمة التي يعيشها مجتمعنا ومشهدنا الثقافي، ظهرت كذلك بوضوح في تصرّفات بعض المثقّفين. وهنا أيضًا، أول تلك التصرّفات هو تصرف كاتب “نوم الغزلان” نفسه، والذي رأيت فيه امتدادًا لتصرّفه في كتابه، الكذب والتحريف والتشويه. وللأمانة، وجدت في تصرّفه هذا دعمًا لي فيما كتبت، وأنّه كان يجب عليّ أن أفعل ما فعلت، أي أن أكتب بلا تردّد. ولذلك أيضًا سررت لأنّني رفضت طلب من طلبوا منّي ألّا أكتب، رغم احترامي لرأيهم ولتبريرهم لموقفهم الذي تبيّن لي منه، حرصهم عليّ. وللأمانة أيضًا، لم أكن أتوقّع من صاحب “نوم الغزلان” ردّا موضوعيا على مقالي، لأنّه لو كان يتحلّى ببعض الموضوعية أو الأمانة، لحذف الكثير مما قاله في كتابه، أو غيّره. ولكنّي كنت أتمنّى أن يخيب ظنّي ويردّ بشكل موضوعي. فقد كنت وما زلت مستعدّا أن أتقبّل ردّه الموضوعيّ لو جاء، ومهما كان قاسيًا، بكل شجاعة ورحابة صدر. ولكنّ ردّه جاء أيضًا بشكل لم أتوقّعه، جاء سيلا من الشتائم كالها لي بعضهم بالوكالة عنه، عبر ما يُسمّى مواقع التواصل الاجتماعي، وبأسلوب تفوح منه أحيانًا رائحة لغته.
كما ظهرت الأزمة الأخلاقية كذلك في تصرّف بعض الأصدقاء المثقّفين الذين، بعد قراءتهم مقالي ووقوفهم على الحقيقة، عابوا أمامي على صاحب “نوم الغزلان” فعلته، ولكنّهم نافقوه في أول فرصة سنحت لهم.
أما بالنسبة للصحافة، ففي مقال لي بعنوان “سقطت ورقة التوت”، كتبته تعقيبًا على منع الاستمرار بنشر مقالي في صحيفة الاتحاد، وجدير بالذكر هنا مرَة أخرى أنّني أُحمّل مسؤولية عدم النشر للمكتب السياسي في حزبي الشيوعي، وليس لهيئة تحرير الصحيفة، وجدير بالذكر أيضًا أنّ هذا المقال، “سقطت ورقة التوت”، نشرته صحيفة الاتحاد رغم كونه أقسى على قادة الحزب، من مقالي الأول على “نوم الغزلان”، وعليهم، ما يُشير بوضوح إلى وجود خلل ما في قيادة الحزب، ليس ذا موضع الحديث عنه. قلت في المقال: “ما أفكّر به الآن هو: هل هناك جريدة أو مجله أو موقع إلكتروني، غير خاضعين للسلطان، ويستطيعون أن ينشروا مقالي هذا ومقالاتي الأخرى بعد اليوم إذا مُنِعت “الاتحاد” من نشرها؟ وهل هناك إذاعة أو فضائية ستهتمّ لواحد مثلي ولهذه المعركة التي تجرّأتُ وشننتها على ركن من أركان حائطنا الآيل للسقوط”؟
رغم علمي أنّ الصحافة تتحرّك للكثير من توافه الأمور والأحداث الأقلّ شأنًا، المقالان والفقرة أعلاه بشكل خاص، لم يُحرّكا صحافيا واحدا، ولم يُثيرا إذاعة أو فضائية واحدة، رغم علمي أنّ صحافيين كثيرين قرأوا مقالي الذي أُخذتْ منه الفقرة أعلاه، وقرأوا كذلك مقالي حول “نوم الغزلان”. وأكثر من ذلك، أحد الأصدقاء أبلغني أنّه توجّه إلى أكثر من إذاعة محلّية، مطالبًا بإجراء مواجهة بيني وبين كاتب “نوم الغزلان”. وطلبه قوبل بالرفض من الجميع.
وخلاصة القول، استنادًا إلى تجربتي الشخصية، وعلى متابعتي لما يجري في مجتمعنا بشكل عام، وفي مشهدنا الثقافي بشكل خاص، لا شكّ في أنّنا نعاني أزمة في القراءة والنقد والغربلة، ولكنّها ليست أزمة مجتمعنا الأساسية، وإنّما هي انعكاس لأزمته الأساسية، أزمتنا الثقافية والأخلاقية. ولا اقتراح عندي يُغيّر المجتمع بين ليلة وضحاها، ولا دواء سحريًا للخروج السريع من الأزمة، ولكنّ بجهودي المتواضعة، أساهم في باب الحوار هذا، وأكتب لأستفزّ المثقّفين واستنهض هممهم، وأدعوهم للخروج من عباءة ذاتيتهم والتحرّر من سيطرة مصالحهم الشخصية الضيّقة، وأن يأتوا بنواياهم الصادقة ورغبتهم في العطاء دون تشغيل العدّاد الذي أشار إليه إبراهيم طه في حواره مع سعيد نفّاع، أن يأتوا لنعمل معا، لتلتقي جهودنا، ولتصبّ في هدف جمعي واحد، هو إخراج مجتمعنا من كلّ أزماته. أدرك جيّدا أنّ المهمّة ليست سهلة، وأنّ الطريق ليس مفروشًا بالورود، ولكن أذا توفّرت النية الصادقة والرغبة في العطاء، وتضافرت الجهود في تفعيل الآليّات التي نملكها، سوف يكون ذلك اليوم الذي يفرح فيه مجتمعنا، أقرب مما نتصوّر.