يعتبر ناظم حكمت واحدا من أبرز شعراء العالم الذين ناضلوا من أجل حرية الإنسان وكرامته. فقد تنقّل من سجن إلى سجن، ومن منفى إلى منفى، في سبيل ما آمن به. وقد قدّم للإنسانية أدبا مفعما بالتفاؤل من أجل خلق عالم أفضل. في السادسة والثلاثين من عمره، حاز على جائزة السلام العالمي، نتيجة لنضالاته وانحيازه للإنسان وحريته، ومن أجل العدالة والديمقراطية، وهذا ما أكسبه شهرة عالمية.
كان ناظم حكمت في شعره، يُنادي بتحرّر جميع الشعوب المضطهدة، ومن أجل ألّا يبقى إنسان واحد على وجه الأرض مستعبَداً. صحيح أنّ ماء شعره كان يتدفّق من ينابيع الوطن الأم، تركيا، ولكنّه أراد لهذا الماء العذب، أن يروي العالم كلّه.
هذه هي وظيفة الشعر والشاعر في رأيه، فقد رأى أنّ الشاعر الحقّ عليه أن يبتكر صورة جديدة للعالم المفكَّك، ويعيد تركيبه ويعطيه معنىً جديداً وجميلا، انطلاقاً من الواقع، ووفقاً لتجربة ورؤية خاصة، لكي تصبح القصيدة ممارسة وجودية وأخلاقية، تُساهم في معرفة العالم، وتكشف عن جمال الحياة وتحوّلها إلى أغنية جميلة مستمرّة.
ولأنّ التفاؤل هو مادة أدب ناظم حكمت، فقد وظّفه كأداة للنضال والتحرّر من الظلم. فهو من قال:
أجـمـل البـحار، هو البحر الذي لم نذهب إليه بعد.
وأجمل الأطـفال، أولئك الذين لم يكبروا بعد.
وأجــمل أيـامـنا، هي تلك التي في انتظارنا.
وأجمل القصائد، هي تلك التي لم أكتبها بعد.
من هنا يبدو شعر ناظم حكمت مرتبطا بالتفاؤل، وكلماته الرائعة هذه، مفعمة بالأمل، تجعل الإنسان ينظر إلى الأيام المقبلة على أنّها أيام سعيدة يجب أن يعمل لبلوغها، وينظر إلى الآفاق المقبلة على أنّها آفاق لامتناهية مفتوحة على الأمل وسعادة الإنسان.
من ينابيع ناظم حكمت وكلماته الرائعة، استقى شعراء الإنسانية، ومن بينهم كثيرون من الشعراء العرب والفلسطينيين. وعليه فقد ترك ناظم حكمت أثرا كبيرا في الشعر العربي الحديث عامة، وفي الشعر الفلسطيني بشكل خاص. وقد برز ذلك في ثلاثة ملامح:
الأول هو البساطة، حيث اعتمد الشعراء العرب الذين كتبوا الشعر الحرّ، بساطة الألفاظ والتعابير، من دون أن يفقد شعرهم الجوهر والمستوي الفني الرفيع. وهكذا كان شعر ناظم حكمت، بسيطا وعميقا في آنٍ معا. والملمح الثاني هو التمسّك بالتراث بأشكاله المختلفة. وقد أفرد شعراء فلسطين لتراثهم مكانة مرموقة في شعرهم. أمّا الملمح الثالث فهو التعبير عن هموم الطبقات المسحوقة، هموم المقهورين في الوطن وفي العالم كلّه. فقد ابتعد معظم شعراء فلسطين المعروفين عن همومهم الذاتية الضيقة وعبّروا عن هموم الوطن والإنسانية. وبذلك، صار ناظم حكمت رمزاً نابضا من رموز الشعر العربي عامة، والفلسطيني خاصة.
لم تكن الحياة الأدبية في فلسطين، وخاصة الشعر، بمعزل عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، بل كان لها دورها الفاعل في رصد الأحداث، والتفاعل معها، قبل النكبة عام 1948 وبعدها. ولذلك كان للأحداث تأثيرها على الشعر الفلسطيني. فساهمت في تطوّره وتجدّده.
بعد هزيمة حزيران 1967 بشكل خاص، بدأ الشعر الفلسطيني يلعب دورا مؤثّرا في الحياة السياسية وفي نضال الشعب الفلسطيني من أجل حريته وإقامة دولته المستقلّة. بدأت الكلمة تُقاتل، وبدأ الشعر الفلسطيني ينتشر فلسطينيا وعربيا وعالميا، كأدب مقاومة بامتياز. وبدأت تلمع فيه أسماء تركت بصمتها، ليس في الأدب الفلسطيني والعربي فقط، وإنّما في الأدب العالمي أيضا.
صحيح أنّ الشعر الفلسطيني غرف موضوعاته وقضاياه من الهمّ الفلسطيني بالأساس، فقد تابع قضية الشعب الفلسطيني من النكبة إلى الاحتلال وإلى اليوم، وثّقها وقاتل من أجلها، ولكنّه كأدب إنساني يُجسّد قضية إنسانية، فكان لا بدّ له أن يغرف من الأدب الإنساني عامة. خاصة وأنّ معظم الأسماء التي لمعت في سماء الشعر الفلسطيني كانت لشعراء مثقّفين قرأوا الآداب والثقافات العالمية، وتضامنوا مع قضايا الشعوب كلّها، خاصة تلك الشعوب التي عانت من الفقر والظلم. وعليه، فقد كان للثقافة التركية وللأدب التركي دورهما في التأثير على الأدب الفلسطيني. ولكن، يُمكننا أن نقرّر بدون تأتأة أو تردّد، أنّ الشاعر التركي الكبير، ناظم حكمت، حاز على نصيب الأسد في التأثير على الشعر الفلسطيني كأدب مقاومة.
اطّلع الشعراء الفلسطينيون على الأدب العالمي، وتأثروا بأبرز رموزه، وبرز من بينهم الشاعر التركي، ناظم حكمت، لأنّ شعره حمل روح الشعب التركي وهموم طبقاته الكادحة. فقد قاتل ناظم حكمت بكلماته من أجل حرية شعبه، السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكلّ من يقرأ ناظم حكمت، يعرف كم كان معاديا للظلم والفقر.
هذا وقد دفعته إنسانيته وإنسانية أدبه، للتعاطف مع هموم الشعوب كلّها، الشعوب العربية وغيرها من الشعوب التي عانت من الاستعمار والظلم والفقر خاصة شعوب آسيا وأفريقيا.
يقول ناظم حكمت في قصيدة له بعنوان “ذبحة صدرية”:
إذا كان نصف قلبي هنا أيّها الطبيب
فنصفه الآخر هناك في الصين
مع الجيش الزاحف نحو النهر الأصفر
وكل صباح، عند شروق الشمس
يعدمون قلبي في اليونان
وفي كل ليلة أيها الطبيب
عندما ينام السجناء، ويغادر الكلّ المستشفى
يطير قلبي
ليحطَّ على منزل مهدّم في إسطنبول
وبعد عشر سنوات،
ليس لديّ ما أقدّمه لشعبي الفقير
سوى هذه التفّاحة
تفّاحة واحدة حمراء، هي قلبي
هذا هو سبب الذبحة الصدرية أيّها الطبيب!
هذه القصيدة وغيرها، تُجسّد تعاطف ناظم حكمت التركي، مع الشعوب كلّها، ومع الطبقات الشعبية الفقيرة، يتعاطف معها ويستفزّها للنضال من أجل خلاصها من الظلم والفقر. وهذا ما أخذه عنه كل شاعر فلسطيني ناضل من أجل الطبقات الفلسطينية المسحوقة، فشاركها ثورتها وعبّر عن آلامها، وتألّم لظلمها واضطهادها وفقرها، أي أنّه أخذ دوره الكفاحي في المعركة على جميع مستوياتها.
وإذا كان الشاعر الفلسطيني قد تأثّر بناظم حكمت وغيره من شعراء المقاومة في شتّى أقطار الأرض ولدى جميع الشعوب المستعمَرة والتي تسعى إلى تحرّرها، فهذا يعني أنّ الشعر الفلسطيني تطوّر فكريا وإنسانيا. ولعل هذا التطوّر الفكري، دخل مرحلة جديدة حين بدأ الشاعر الفلسطيني يلتزم بقضية تحرّر شعبه، باعتبارها جزءا لا يتجزّأ من قضايا التحرّر العربية والعالمية.
لا مجال في هذه العجالة لحصر أسماء كل الشعراء الفلسطينيين الذين تأثّروا بناظم حكمت، فهُم كثر، ولذلك سأقصر الحديث بإيجاز، على أربعة منهم، وهم: توفيق زياد، محمود درويش، معين بسيسو وسميح القاسم. هؤلاء الشعراء الأربعة، لم يُسكِت أقلامهم ودفاعهم عن قضايا شعبهم والإنسانية إلّا الموت. ورغم أنّهم ماتوا، إلّا أنّ شعرهم ما زال حيّا يُقاتل.
الشاعر توفيق زيّاد، ابن الناصرة، سقط عام 1994 بين أريحا وزهرة المدائن، وهو يناضل من أجل فلسطين وحريتها. وما يُؤكّد إعجاب توفيق زيّاد بناظم حكمت، وتأثّره بشعره، هو أنّه ترجم بعض أعماله إلى العربية. وهذا يدلّ دلالة واضحة على مكانة ناظم حكمت المرموقة فكرياً وأدبياً، في الوعي الفلسطيني بشكل عام، وفي وعي توفيق زيّاد بشكل خاص.
لقد أهدى توفيق زيّاد أكثر من قصيدة من شعره لناظم حكمت، الشاعر التركي الثائر الذي عرف السجن وقضى فيه سنوات طويلة من حياته. يقول زيّاد في إحدى قصائده:
“لا تذهبُ عبثاً تلكَ الأسفارْ
واللحنُ الثائرُ كالإعصارْ
لم تحرق تلك السنوات العشر
الّا لينوّر في الأناضول الزهر”.
وفي قصيدة له بعنوان “سمر في السجن”، نظمها عام 1959، يسترجع توفيق زيّاد ذكرياته المؤلمة وعذابه في السجن. وفي قصيدة بعنوان “أشد من المحال”، نظمها عام 1959، لا يبتعد زيّاد عن أسلوب ناظم حكمت وروح نضاله، فقد تحدّث عن الجوع والإرهاب والقيود ونعت في مقدمة القصيدة الثورة بالحمراء، وهو لون الدم والحرية حيث قال مخاطباً إخوته في السجن:
يا أخوتي في الجوع، والإرهاب
والخطبِ المحيقْ
يا أخوتي في السجن، والأغلال،
واللحنِ الطليقْ
يا أخوتي في الثورة الحمراء تزحف في العروق
يا أخوتي في شمس عودتهم
تأهّبٌ للشروق”
أحبّ توفيق زيّاد الطبقات المسحوقة وتعاطف معها ودافع عنها، ولذلك فقد غنّى للعمّال والفلاحين ورأى فيهم قامات شامخة تُناضل من أجل حريّتها. قال في إحدى قصائده:
يا إخوتي العمال
أحبّكم جميعاً
أحبُّ كل قبضةٍ مهزوزةٍ
في أوجه الأنذال
وكل جبهةٍ شامخة
في ساحة النضال
وكل كلمة جريئة … تُقال
في هذه القصائد وغيرها، لا يختلف توجّه زيّاد إلى الحرية والمقاومة عن توجّه ناظم حكمت. فهو غالبا يلجأ إلى المعاني المباشرة دون أن يُفقدها جوهرها وجماليتها. ولذا ما من شكّ أنّ زيّاد سار على طريق ناظم حكمت، طريق الحرية ورفض الفقر والاضطهاد.
* * * * *
أمّا الشاعر محمود درويش، ابن قرية البروة المهجّرة في شمال فلسطين، فهو شاعر فلسطين والثورة الفلسطينية، ولكنّه واحد من شعراء الإنسانية المعاصرين الكبار أيضا، فعندما يُذكَر لوركا ونيرودا وناظم حكمت وأراغون وغيرهم من الشعراء الذين غنّوا للحرية وصرخوا ضد الظلم، صار محمود درويش الذي تتلمذ عليهم وتأثّر بهم، يُذكر معهم كواحد منهم. فقد جعل درويش من مأساة فلسطين مأساة إنسانية تمسّ وجدان كل من يؤمن بالحرية وينادي بالعدل والحقّ ويكره الظلم والفقر، ويُناضل ضدّهما. ولذلك في كل قصيدة تغنّى فيها درويش باسم الحرية وردِّ الظلم والفقر عن الشعوب، يُمكن أن نرى فيها أثرا من آثار الشاعر التركي العظيم، ناظم حكمت. يظهر هذا الأثر في قصائد درويش بشكل رمزي وغير مباشر أحيانا، إلّا أنّ درويش، في حديث له مع رفيقه محمد دكروب، اعترف بشكل مباشر بتأثّره بناظم حكمت وغيره من شعراء الحرية والمقاومة حين قال: “إنني أعتبر نفسي امتداداً نحيلاً، بملامح فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة، ابتداءً من الصعاليك حتى ناظم حكمت ولوركا وأراغون، الذين هضمتُ تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدّوني بوقود معنوي ضخم”. هذا اعتراف صريح لمحمود درويش، بأثر ناظم حكمت في شعره. وهذا أيضا، هو ما جعله فيما بعد، واحدا من شعراء الإنسانية الكبار.
ويذكر درويش ناظم حكمت في شعره بشكل مباشر أحيانا. ففي قصيدته “النزول من الكرمل”، من ديوانه، “محاولة رقم 7″، (1973)، يظهر ناظم حكمت بذكر اسمه وصرخته بشكل مباشر في القصيدة، حيث يظهر النزول من الكرمل كمعادل للخروج من الوطن. وفيها يتحدّث درويش عن تركه القسريّ للوطن المتمثّل بمدينة حيفا وجبل الكرمل الذي يحتضنها، ويتحدّث عن الأحوال التي ترك فيها الكرمل وحيفا، وعن موعد لقائه بالوطن مرة أخرى، أي عن العودة المنتظرة، وعن العقبات التي تعترض تلك العودة، ومن خلال كل ذلك، تظهر في القصيدة مكانة حيفا كرمز لفلسطين كلّها، تظهر مكانتها، ليس في نفس الشاعر فقط، وإنّما في نفس كلّ إنسان فلسطيني.
وفي المقطع الأخير من هذه القصيدة، “النزول من الكرمل”، يُعبّر درويش عن غربته في العالم العربي، أمّا في نهايتها، فيذكر الشاعر ناظم حكمت بالاسم ويُطلق صرخته الشهيرة المدوّية: “لو وضعوا الشاعر في الجنة … لصاح: آه … يا وطني”. يقول درويش:
أحبّ البلاد التي سأحبْ
أحب النساء اللواتي أحبْ
ولكن غصناً من السرو في الكرمل الملتهبْ
يُعادل كل خصور النساء
وكلّ العواصم
أحبُّ البحار التي سأحبُّ
أحبُّ الحقول التي سأحبُّ
ولكنَّ قطرةَ ماءِ على ريش قُبَّرّة في حجارة حيفا
تعادل كل البحار
وتغسلني من ذنوبي التي سوف أرتكبُ
وإذا أدْخَلُوني إلى الجنة الضائعة
سأطلق صرخةَ ناظم حكمت
آه … يا وطني …!
يُعرَف ناظم حكمت في تاريخ الشعر والنضال كواحد من أهمّ الشعراء المعاصرين الذين كافحوا ودافعوا دافعا عنيدا عن المظلومين والمحرومين وحقوقهم المهدورة في أنحاء العالم. في قصيدته “إلى كتّاب آسيا وأفريقيا” ناداهم فيها قائلا:
يا أخوتي:
لا تنظروا إلى أنني أشقر الشعر
أنا آسيوي
لا تنظروا إلى أنّني أزرق العينين
أنا أفريقي.
وهذا يعني أنّه يعتبر نفسه واحدا من أولئك الذين يُدافعون عن الحرية ويصرخون ضد الظلم والفقر، في كل بلاد الظلم والفقر. وهو كذلك في قصيدته “جيش الجائعين يسير”، يقف مع الجائعين ويرى فيهم جيشا يسير نحو تحقيق أهدافه الواضحة كما يبدو ذلك في المقطع التالي:
جيش الجائعين يسير
يسير من أجل أن يشبع خبزاً
من أجل أن يشبع لحماً
من أجل أن يشبع كتباً
من أجل أن يشبع حرية.
هذا نداء واضح لربط الحرية بالثقافة وبالنضال ضد الجوع. وهذا ما نادى به محمود درويش وغيره من شعراء فلسطين.
* * * * *
الشاعر معين بسيسو، ابن غزّة الذي عاش في مصر، أطلق صرخة ناظم حكمت نفسها في مواقع كثيرة.
في آخر تسجيل صوتي له، وهو يجيب على سؤال المذيع الذي حاوره، عندما سأله آخر سؤال:
- معين بسيسو إلى أين؟
ردّ عليه معين: إلى المدى الذي حدثنا عنه الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت، عندما صرخ في قصيدة له: “وضعوا الشاعر في الجنة، فصاح: آه يا وطني”. أي أنّ معين بسيسو اقتفى طريق ناظم حكمت ليكون شاعرا مُقاوما بامتياز، في شعره وفي الكلمة عبر كلّ تجلياتها.
عندما قامت إسرائيل باجتياح لبنان عام 1982، وكان بسيسو في بيروت، صرخ صرخته المدوّية:
قد أقبلوا، فلا مساومة
المجد للمقاومةْ
استشهد معين في لندن يوم 23/1/1984، ولم تسمح سلطات الاحتلال الإسرائيلي بدفنه في غزة فدُفِن في القاهرة. ولا عجب، فقد قال أحد أصدقائه حينها: إنّ الاحتلال يخشى أن يتحوّل قبره مزارا لطلاب الحرية والمقاومة، من شعبه وغيرهم. وهذا ليس بعيدا عمّا عاناه ناظم حكمت.
كان معين بسيسو ذا قدرة فائقة على مخاطبة الجماهير التي كانت تحفظ أقواله. قال مخاطبا نساء فلسطين:
من لم تودّع بنيها بابتسامتها إلى الزنازين لم تحبل ولم تلدِ
وقال مخاطبا رفاق سلاحه:
أنا إن سقطتُ فخذْ مكاني يا رفيقي في الكفاحْ
واحمل سلاحي لا يُخِفْك دمي يسيلُ مِن السّلاحْ
في هذه الكلمات يبدو واضحا أثر الواقع الذي عاشه معين بسيسو، ولكن، يبدو أيضا أثر ناظم حكمت وغيره من شعراء الحرية والمقاومة الذين حملوا الكلمة وقاتلوا بها.
ومن مظاهر الاحترام الذي يكنّه الشعراء الفلسطينيون لناظم حكمت وشعره بشكل خاص، أنّ الشاعر معين بسيسو ذكر ناظم حكمت في شعره وفي نثره أيضا.
في كتابه “دفاتر فلسطينية”، ذكر بسيسو أنّه ربطت بينه وبين ناظم حكمت علاقة صداقة أثناء مكوثهما في العراق حيث التقي بسيسو مع ناظم حكمت في أحد مقاهي بغداد ليلة وصوله إليها، وقد سهرا معا ثم سافرا معا إلى أكثر من مكان في العراق.
وفي كتاب آخر، ذكر أنّه في إحدى زياراته لتركيا، أخذ حفنة من ترابها ونثرها حول قبر ناظم حكمت الذي كان مدفونا في موسكو قبل تكريمه ونقل رفاته إلى تركيا.
وفي كتاب ثالث، تحدّث معين بسيسو عن ناظم حكمت واختزل تجربته ومكانته بقوله “أفضل أن تكون سجينا في وطنك، من أن تكون امبرطورا في المنفي”، وهي عبارة تمثّل ماذا يعني الوطن بالنسبة للشاعر، إنّه يعني كل ما هو جميل في حياة مواطنيه. وهذا يتماهى تماما مع فكر ناظم حكمت.
* * * * *
وأخيرا، وقفة سريعة جدا مع سميح القاسم. في قصيدته “خطاب في سوق البطالة”، والمعروفة بعنوان: “يا عدو الشمس”، يقول:
ربما أفقد – ما شئت – معاشي
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجاراً، وعتالاً، وكناس شوارع
ربما أبحث، في روث المواشي، عن حبوب
ربما أخْمَدُ عريانا، وجائع
يا عدو الشمس، لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم
هذه المقاومة وهذه المباشرة لدى سميح القاسم، لا يمكن أن تقرأها، ولا تشتمّ فيها رائحة ناظم حكمت، ولكن، سميح كغيره من شعراء المقاومة الفلسطينيين، لا يمكن أن ينسى صرخة ناظم حكمت التي ملأت أسماع العالم: “آه يا وطني”. ولذلك، هناك قصيدة له بعنوان “بطاقات معايدة إلى الجهات الستّ”، يُنهيها بصرخة مماثلة لصرخة ناظم حكمت، ويُردّدها ثلاث مرّات، حين يقول:
أرتدي كفني
صارخاً: آخ يا جبلي المُنحني
آخ يا وطني
آخ يا وطني
آخ يا وطني!
هذه “الآخ”، تُعادل صرخة ناظم حكمت، وتعكس بشكل مباشر، ألم الشعب الفلسطيني وتراثه.
قلّما نجد مقالا يتحدّث عن الشعر الفلسطيني بشكل عام، وعن هؤلاء الشعراء الأربعة بشكل خاص، ولا يتحدّث عن معرفتهم بأدب ناظم حكمت، وإعجابهم به وتأثّرهم بفكره وبشعره. فهو شاعر مقاومة بامتياز، وهؤلاء الأربعة هم أشهر شعراء المقاومة للظلم التاريخي الواقع على الشعب الفلسطيني، وهم أشهر من قاوم بالكلمة النابضة المقاتلة، الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني الذي ما زال رابضا على صدر كل فلسطيني. فكيف يكون هؤلاء الشعراءُ ضميرَ شعبهم إن لم يقاوموا من اغتصب أرضه وحرية شعبه؟ وكيف يحملون قضية شعبهم كقضية إنسانية وكجزء من القضية الإنسانية العامة، إن لم يتخذوا من ناظم حكمت، وغيره من شعراء الإنسانية، قدوة ونبراسا لهم؟
وأختم بما قاله الشاعر والناقد الفلسطيني فيصل قرقطي عن ناظم حكمت: “إنّ ناظم حكمت لو لم يكن تركيًّا لكان فلسطينيا، بقدر ما عانى في نضاله، الذي خاضه على الصعيد الفردي. فقد كان كالفلسطيني الذي ما إن يخرج من السجن حتى يعود إليه. وعليه، فإنّ ناظم حكمت، كشاعر مقاومة بامتياز، ترك أثره في الشعر الفلسطيني الحديث، عن جدارة واستحقاق.