هذا المقال نشر في ملحق صحيفة “الاتحاد الحيفاوية” اليوم الجمعة 19/5/2017
ملحوظة قبل البدء: هذا المقال لا علاقة له بمضامين المداخلات التي قدّمها الروائيون، ضيوف الملتقى، لا من قريب ولا من بعيد. وهو يُثمّن عاليا الجهود المخلصة التي بذلوها من أجل الحضور والمشاركة، انتصارا لفلسطين وكسرا لحصارها.
وملحوظة أخرى: الألم، والبحث عن الحقيقة، للتاريخ وانتصارا لفلسطين وكسرا لحصارها، هما الدافع الوحيد وراء كتابة هذا المقال، وليس له أيّ هدف آخر غير الحقيقة. أنا لا أتهم أحدا ولا أزاود على أحد. وأيّ قراءة للمقال خارج هذا السياق، أرجو أن تخطئ أهدافها.
* * * * *
نشرت صحيفة “الاتحاد” الحيفاوية، في عددها الصادر يوم الاثنين الماضي (15/أيار/2017، ص 6)، خبرا حول اختتام أعمال “ملتقى الرواية العربية في رام الله”، وجاء فيه الكثير مما يلفت النظر. ولكنّ أكثر ما لفت نظري هو العبارة التالية: “… ممّا أعطى لهذا الملتقى تميّزه المتفرّد خاصة أنه ابتدأ في يوم 7/5 ذكرى مولد الشاعر توفيق زياد واختتم يوم 11/5 ذكرى مولد الشاعر سميح القاسم”. هذه العبارة في رأيي، تؤكّد الشعارات والأيقونات التي يتغنّى بها إخوتنا، وقلّة اكتراثهم بالواقع الذي أهملوه بينما الواجب يُحتّم عليهم أن يضعوه في رأس سلم أولوياتهم. وتُؤكّد صحّة ما نشره صديقي، بروفيسور محمود غنايم، مساء الرابع من هذا الشهر (أيار)، في صفحته على الفيسبوك، وأنا أقتبس هنا نصّ رسالته موافقا على مضمونها: “50 روائيًا من العالم العربي وفلسطين، وليس بينهم روائي واحد من فلسطينيي الداخل! تفوقتم على السياسة الإسرائيلية في تهميش من يشكّلون جذوة الصراع ولب المعاناة الثقافية. كتّابنا الموتى: توفيق زيّاد وإميل حبيبي ودرويش والقاسم يتصدّرون المشهد كأيقونات للتغنّي بهم، أما الأحياء فإسرائيليون مقاطعون ومنبوذون، وليس بينهم روائي واحد يستحق أن يكون له مقعد في ملتقى فلسطين! ما أشد الصفعة وهي تباغتنا من كفّ أخ يُفترض أن يُشدّ به الأزر”. (انتهى الاقتباس).
* * * * * *
وأنا! تابعت باهتمام بالغ أخبار “ملتقي فلسطين الأول للرواية العربية”، وذلك منذ أن نشر الكاتب، ربعي المدهون، تعقيبه في موقع جريدة الشرق الأوسط، يوم الأربعاء، 3/5/2017، وفي عددها رقم: 14036. قبل قراءتي ما نشره المدهون، لم يكن لديّ أيّ علم بالملتقى.
في العنوان الفرعي للتعقيب، ذكر المدهون على لسان الروائيين المدعوّين: “ذاهبون “انتصارا للثقافة” … وبعضهم انتقد الحديث عن “التطبيع” حين يتعلّق الأمر بكسر الحصار”. وقصْد المدهون بذلك كما أفهمه، تلخيص مواقفهم. فبعض المدعوّين رأى في حضوره “انتصارا للثقافة” الفلسطينية، وبعضهم رآه “تطبيعا” مع الاحتلال. ورأي المدهون واضح، “كسر الحصار”، ولكنّه في الحقيقة يلتبس عليّ، فأيّ حصار يقصد؟ حصار إسرائيل لفلسطين، أم حصار فلسطين لإسرائيل؟! قد تجدون الإجابة في روايته الأخيرة، “مصائر، أو كونشيرتو الهولوكوست”، التطبيعية بامتياز في رأيي، والتي فازت بجائزة “البوكر العربية” في العام الماضي، دون وجه حقّ، لأنّي قرأت الرواية، وقرأت الخمس الأخرى التي نافستها، ومعظمها في رأيي، أفضل منها، شكلا ومضمونا. ولذلك، أظنّ أنّ قرار لجنة الجائزة اتُّخذ بقرار سياسي فوقي يدفع الثقافة الفلسطينية نحو التطبيع. سأكتب عن الرواية قريبا، وليس قبل أن أقرأها مرّة أخرى.
الروائيون الذين رأوا في مشاركتهم “تطبيعا”، نتفهّمهم، وإن كنّا بشكل قاطع لا نتّفق معهم. والذين رأوا في المشاركة “انتصارا للثقافة وكسرا للحصار”، نتّفق معهم وإن كنّا نتحفّظ من مواقف بعضهم، ونحكم عليهم من خلال كتاباتهم.
بالرغم من حاجة الثقافة الفلسطينية إلى مثل هذا الملتقى، ورغم المضامين الهادفة التي قد يتضمنها، والرسائل الإيجابية التي قد يبعث بها، إلى كل فلسطيني، وإلى العالم العربي على الأقلّ، لنا أن نتساءل: ما الدافع الحقيقي وراء هذا الملتقى في هذا الوقت؟ ولمَ هذا التسرّع في تنظيمه؟ ألم يكن من الأفضل أن يُرافق “معرض فلسطين للكتاب في رام الله”، في دورته القادمة؟ ولمَ هذا التعتيم الإعلامي الذي اكتنفه؟ وهل كان التعتيم الإعلامي موجّها نحو الداخل الفلسطيني فقط أم كان شاملا؟ وما سرّ تجاهل الداخل الفلسطيني وتهميش كتّابه وروائييه؟! وهل كان التجاهل والتهميش مقصودا أم عفويا، أم خللا تنظيميا؟ هل الروائيون المدعوّون من خارج فلسطين يعرفون شيئا عن ملابسات الملتقى وتنظيمه في هذا الوقت بالذات، أم لا؟ وهل استجابتهم للدعوة كانت فقط التزاما عاطفيا لفلسطين؟ أما كان من الأجدر بالمنظّمين أن يُحوّلوا الملتقى إلى صرخة إعلامية شاملة، ومنصّة لدعم الأسرى المضربين عن الطعام منذ شهر تقريبا، أو تأجيل الملتقى كلّه إلى ما بعد انتهاء إضراب الأسرى؟ أما كان في الملتقى ضربة، مقصودة أو غير مقصودة، للإضراب والأسرى المضربين؟ ألم يكن توجّه الكتّاب والمضيفين، في الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم الثاني للملتقى، إلى خيمة الاعتصام والتضامن مع الأمعاء الخاوية، بعد وجبة الغداء؟ والسؤال الأهمّ: هل يعكس تنظيم الملتقى في هذا الوقت بالذات، صراعا داخل السلطة الفلسطينية ومؤسساتها؟ وما هو محور هذا الصراع؟
قبل الملتقى بيوم واحد فقط، تمكّنت من الحصول على صورة البرنامج الذي نشره في الرابع من هذا الشهر، أي قبل انعقاد الملتقى بيومين، وزير الثقافة الفلسطيني الأسبق، الكاتب يحيى يخلف، على صفحته على الفيسبوك، وقد أضاف إلى الصورة هذا التعليق: “برنامج ملتقي الرواية العربية في فلسطين. أعلنه وزير الثقافة د. إيهاب بسيسو اليوم في مؤتمره الصحافي. حضور فلسطيني وعربي مميّز”. وعلمت عبر مهاتفتي لبعض الأصدقاء من الروائيين، من فلسطين وخارجها، أنّ بعض المدعوّين لم يمنحهم الاحتلال تصريحا بالدخول ولن يتمكّنوا من المشاركة. لماذا لم تحضر الكاتبة ليلى العثمان، والكاتب إلياس فركوح الذي شارك عبر وسائل التواصل المتاحة على الشبكة، وغيرهما؟ أما كان يجدر بمنظمي الملتقى أن يهتموّا بأمر الحضور مسبقا، أم أنّ ذلك جزء من الإعلام المغيّب أصلا؟ مثل هذا الحدث يجب أن تسبقه حملة إعلامية واسعة، فهل حدث ذلك؟ الحضور الهزيل في الجلسة الأولى وما تلاها ينفي وجود حملة إعلامية واسعة تليق بالحدث! وللمقارنة فقط، يوم السبت الماضي، 13/5/2017، عقدنا لقاءنا الثقافي الأول في كابول، تلك القرية الفلسطينية النائية، حضره 130 شخصا، ولم نكن راضين، فقد كنّا نطمح إلى أكثر من ذلك بكثير، لذلك بدأنا بالتساؤل والتشاور: أين أخطأنا؟
وكيف لم نسمع، نحن كتّاب الداخل الفلسطيني، عن الملتقى في رام الله إلّا يومين أو ثلاثة قبل انعقاده، رغم كل اهتمامنا بكل ما يدور في فلسطين؟ وهل دُعيّ الروائيون ليتحدّثوا إلى أنفسهم؟ ومهمّ جدا، كيف كان شعورهم نحو ما قد يعتبرونه نوعا من لامبالاة الإنسان الفلسطيني نحو قضيته، بسبب قلّة الحضور؟
أسئلة عديدة تطرح نفسها، حول هذا الملتقى وتنظيمه في هذا الوقت بالذات، بدون تنظيم يليق به وبفلسطين، وبدون حملة إعلامية واسعة! ويبقى السؤال الأكبر والأخطر: أين نحن، كتّاب الداخل الفلسطيني، من هذا الملتقى، خاصة وأنّ المسؤولين في السلطة الفلسطينية لا يُفوّتون فرصة ليقولوا لنا: أنتم حجر الزاوية، وأنتم … وأنتم … وأنتم!!! أين نحن؟؟؟ لدينا روائيون ونقّاد كثيرون، بعضهم بلغ آفاقا عالمية منذ زمن بعيد، ولدينا بعض الناشرين، فما سرّ دعوة الناقد نبيه القاسم وحده من بين كل كتّاب الداخل، وقد دُعي لإدارة جلسة وليس للمشاركة كناقد أو كاتب؟ وما سرّ دعوة الناشر صالح عباسي دون غيره من ناشري الداخل، ليشارك كمتحاور في ندوة الناشرين العرب؟ الناشرين العرب؟؟؟!!! لماذا لم يُدع روائي واحد من روائيّي الداخل الفلسطيني وهم كثر، وبعضهم معروف محليّا وعربيا وعالميا؟ ألّا يبدو كل هذا غريبا ومثيرا للتساؤل؟! وهل هذه الدعوة الهزيلة لعرب الداخل، التي اقتصرت على الاسمين المذكورين، مقصودة لأمر في نفس يعقوب، أم هي مجرد خلل تنظيمي؟
لماذا … ولماذا … ولماذا ؟؟؟ أسئلة كثيرة وليس آخرها: هل هي رسالة من المبادرين لإقامة الملتقي، إلينا نحن عرب الداخل، أن “اعذرونا، لدينا مشاريع لا تشملكم، أو لا تشمل منكم إلّا أصدقاء فلسطين الحقيقيين!!!”؟
بالطبع لدينا الكثير من السيناريوهات والتصوّرات للردّ على تلك الأسئلة. فهل من حقّ أحد أن يلومنا إذا رأينا الصورة قاتمة، والصفعة شديدة ومؤلمة، كما ورد في أقوال صديقي بروفيسور غنايم؟ ومن حقّنا أن نطرح تصوّراتنا ونعتمدها إن لم يقم المخوّلون بتوفير الإجابات المقنعة، وأؤكّد وأشدّد، المقنعة! فمن حقّ كل واحد فينا أن يستخلص النتائج والعبر إذا تأخّرت الإجابات، فما بالك إن لم تأتِ!
ومن حقّنا، نحن فلسطينيي الداخل، أن نشارك بكل ما هو فلسطيني، وليس منّة من أحد، ولا حسب مزاج أحد أو مصلحة أحد. إلّا فلسطين وشعبها، فهل من مصلحة لهما في تهميشنا؟ نحن جزء لا يتجزّأ من هذا الشعب، شاء من شاء وأبى من أبى. لذلك، لن نقف مكتوفي الأيدي حيال كل صغيرة وكبيرة تحدث في فلسطين، خاصة عندما نرى أنّ السفينة تسير في الاتجاه الخطأ، أو تتعدّد اتجاهاتها، لا بسبب العاصفة التي نعرفها جميعا، وإنّما بسبب كثرة الربابنة، أو اختلاف أمزجتهم أو مصالحهم. فهل ننتظر حتى ينقرها أحدهم فتغرق؟ وهل أبالغ أذا قلت إنّ هناك مؤشّرات أنّ اللحظة قريبة، بل بعضنا يراها قد غرقت فعلا، من فرط يأسه من كثرة العواصف الداخلية في البحر الفلسطيني. ألا يعكس وضع الثقافة الفلسطينية اليوم، الأوضاع الأخرى في فلسطين؟ وهل تختلف قضية الثقافة الفلسطينية عن قضية السفينة كلّها؟! فإلى أين نسعى بهذه الثقافة وهي على ما يبدو، ملاذنا الأخير؟
ويبقى السؤال الذي طرحناه عنوانا، “”ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية”، خطأ تنظيمي أم تهافت وتزاحم على التطبيع؟!”، يبقى هذا السؤال مطروحا إلى أن تأتي الأجوبة. هل تعامل الملتقى والقيّمين عليه، مع المدعوّين ومع الإعلام ومع قضية الأسرى وإضرابهم، وعلى وجه الخصوص، معنا نحن عرب الداخل الفلسطيني، وقصدا لا أكتفي هنا أن أقول كتّاب الداخل الفلسطيني، هل هو خطأ تنظيمي، أم هو نتيجة لصراع وتنافس وتهافت وتزاحم، على التطبيع أو على ما يُراد لنا ألّا نراه أو نعرفه؟! هناك في برنامج الملتقى مؤشرات، قليلة لكنّها مهمّة، تشير إلى التطبيع! فما هو الصحيح؟؟
أنا لا أخشى من توجيه أصابع الاتهام إذا اتضحت الأمور، ولكنّي حتى الآن لا أتّهم أحدا، ولا أدعو لاتهام أحد، إنّما أظنّ، من باب “إنّ بعض الظنّ إثم” وليس كلّه، سعيا وراء الحقيقة، ومن باب “ما نفْع الأدب أن لم يسع إلى الحقيقة؟”. كما أنّي على ثقة تامّة أنّ شرائح كثيرة من شعبنا في كافة أماكن تواجده، وخاصة في الداخل، تطرح ما طرحته من الأسئلة، ومن حقّها أن تبحث عن أجوبة! فهل من مجيب؟!
وأخيرا، همسة قلق وتساؤل في أذن صديقي العزيز، الشاعر إيهاب بسيسو، معالي وزير الثقافة الفلسطينية المحترم، الذي لا أشكّ لحظة، بصدق نواياه وبسعة صدره واطلاعه وثقافته وإيمانه بقضيته: لم أسمع مداخلتك التي افتتحت بها الملتقى، ولكنّي سمعت أكثر من واحد من أصدقائي، سمعها وكان حاضرا في الجلسة، أشاد بمضمونها وقوّتها ورصانة لغتها، فهل كان الملتقى على مستوى تلك المداخلة، أم أنّ في نفسك ما في نفسي من قلق وتساؤلات؟! الصفعة كانت شديدة ومؤلمة جدا يا صديقي العزيز! ولا شكّ بأنّك تؤمن بحقّنا أن نعلم وأن نشارك. ففلسطين ليست لشريحة أو فصيل، فلسطين لنا جميعا، نحن الشعب الفلسطيني، وقد سُلبت منّا جميعا. وفي هذه الظروف العصيبة، لم يبق لنا إلّا الثقافة الفلسطينية الواحدة تجمعنا، فهل نتركها هي الأخرى تضيع، أو نتركها لأعداء فلسطين يفعلون بها وبنا ما يشاؤون؟!
وسؤال أخير قد يكون خارج السياق ولا أراه كذلك، ولا أعرف لمن أنا موجهه! وأعرف أنّ الإجابة عليه قد تحتاج إلى مساحة زمنية كتلك التي تحتاجها الرواية: هل ساهم الملتقى بتقريب نهاية الانقسام الفلسطيني ولو قيد أنملة؟ أتمنّى ألّا تسأم فلسطين الانتظار!