الحلقة الثانية
سيميائيّة البطولة في الرّواية:
اِرتأينا أن نقارب هذا النّصّ السّرديّ الموسوم بِ “نجمة النّمر الأبيض” وفق منظومة إدراكيّة (CSM)اِبتدعها الباحث المعروف إبراهيم طه. وهذا الموديل يُعتبر أداة في فهم الرّواية أو النّصّ السّرديّ على وجه العموم.
وهنا سنقسّم هذه المقاربة وفق ثلاث مراحل مفصليّة كالتّالي:
1- مرحلة ما قبل النّصّ أو خارج النّصّ، بمعنى العوامل والإشارات الّتي تساهم في بناء الشّخصيّة أو الّتي تترك أثرًا على ما يعرف بالتّشخيص (Identification). يُدخل الكاتب فيها ذاته، كونه مبدع النّصّ والواقف على حدوده. هذا الكاتب بشحمه ولحمه مدرك لواقعيّة الحدث المطروح، فإنّه قد عايش مرحلة في حياته تدعى “النّكبة” وقد أبعد جميع الأهل والمعارف عن القرية والّذي يدعوها كاتبنا بالمنارة والّتي تعتبر حجارتها ورجمها شاهدة على هذا الحدث البئيس، والّذي لا يزال يؤرّق ويقضّ عقولنا وحواسّنا!
الكاتب في نصّنا هذا إنّما يصدر في توجّهه الأدبيّ عن تجربة يرى في رصدها وثيقة أدبيّة تأريخيّة ستظلّ قائمة ما دامت الحياة تدبّ فينا، وربّما تشكّل شاهدًا أخلاقيًّا مُدينًا أمام القانون في محافل القضاء إذا اِقتضى الأمر ذلك.
كاتبنا يصدر عن أيديولوجيّة وفكر مشحون بالِانتماء لقضيّته الّتي لا تزال في مفترق طرق عصيب؛ هذا الفكر الّذي يحمله كاتبنا مُعدٍ بالضّرورة كما يقول تولستوي. نتحدّث عن أيديولوجيّة صافية ترى أنّ الحياة للجميع والبقاء لكلّ من يتنفّس على أرضه دون قيد أو شرط. لذا فالكاتب يقف في الصّفّ الأوّل مع الكادحين المناضلين الّذين أرضعوا الأرض زخّات عرقهم وأرضعتهم هي خصبها وحبّها وضرورة الاِنتصار لها وإعادة الحقّ لأصحابها الحقيقيّين.
نرى تجربة الكاتب تستمدّ سيرورتها وتواشجاتها من الواقع المباشر؛ هذا الواقع الّذي له تأثير على الكاتب بحكم كونه ملتزمًا يكتب عن قضيّة فلسطينيّة تهمّه وغيره من شعبه الملتزم والّذي يقف على خطّ الصّداميّة.
فهو لا يكتب في فراغ، وبرأينا لولا أنّ الكاتب أثقلت عليه الحالة الوجدانيّة والسّيكولوجيّة والاِجتماعيّة بكلكلها، واَتّضح الواقع السّياسيّ بكلّ إرهاصاته وإملاءاته؛ لما خرج علينا كاتبنا بمثل هذا العمل المميّز، والّذي نراه يقضّ مضاجع الخصم والمناوئ لقضيّتنا الّتي لا تزال ترزح تحت وطأة القهر والسّلب ونفي الآخر والتنكّر له، رغم وجود الأدلّة والمواثيق الّتي تثبت حقّ المسلوب المقتلع عن أرضه قسرًا.
إنّ تجربة الكاتب مرتبطة بالواقع، والكاتب ملزم بل لزام عليه التجرّد للواقع المعيش إلى حدّ التورّط، كما يقول “سارتر”.
علينا أن لا نغفل أنّ الحضارة والثّقافة أساس التّجربة وبحسبها صاغ الكاتب مادّته؛ فالفكر والإبداع في نصرة الواقع المزيّف، لذا طوّع الكاتب ثقافته واَنطلق بعمله الإبداعيّ هذا ليوصل الرّسالة الصّافية ويفضح ما اِدّعاه المغرضون المشوّهون لصورة الفرد والإنسان الوطنيّ الّذي لن يثنيه1عائق عن التمسّك بميراث كبير، هذا الميراث الّذي جعله ربّ السّماء شرعيًّا سماويًّا لن تغيّره القوانين الوضعيّة، وسيظلّ مكتوبًا للمضطّهدين الّذين أبعدوا عن وطنهم بصورة ممجوجة، ومنهم كاتبنا الهيبي الّذي يصوّر لنا التّجربة بصدق دون تجميل خارجيّ إلّا فيما يلزم الرّواية من تصوير فنّيّ يقتضيه العمل الأدبيّ والسّرد الحكائيّ، حتّى يقع في التّقريريّة (Telling).
إنّ ما يصوّره لنا الكاتب لهو ميثاق، يجعل ما يقوم به خالصًا في مصافّ الأعمال الفنّيّة، وتضطّلع بمقوّمات الوطن الممنوع والمسلوب في الوقت ذاته، فهو (Taboo) ويُدين كلّ من تسوّل له نفسه يومًا أن يساوم على ميراث الأجداد وإن ضاق من ضاق بحكم ناموس السّماء.
- والآن سننتقل إلى المرحلة النّصّية فيها نرصد حركة الشّخصيّة المركزيّة في سعيها للوصول إلى حالة من حالات البطولة المعروفة وفقًا لثلاث مراحل إنتروسيميائيةّ، إن تداخلت أو تقاطعت.
أوّلًا-مرحلة ما قبل الفعل:
أ. النّقص (الهدف والتّحفيز)، نشير هنا إلى أنّ النّقص ميزة بشريّة بالضّرورة، وتسعى الشّخصيّة لسدّ النّقص (Lack). وبالنّظر إلى النّصّ السّرديّ نجد أنّ الكاتب يسعى لتحقيق حلمه بالوصول إلى المنارة؛ قريته السّليبة والّتي أبعد عنها ذووه قهرًا وقسرًا.
هنا نشير إلى أنّ أليّة الفقد هي الّتي تسيّر الشّخصيّة المركزيّة في رحلتها عبر السّرد، وهذا شائع في الأدب العربيّ الحديث، لذلك هناك حالة من الغياب تضفي بثقلها على الشّخصيّة ويسعى لاستحضارها عبر النّصّ أو واقعيًّا إذا أمكن. نرى أن ّ محمّد الأعفم يمتعض أيّما اِمتعاض وهو ينظر إلى المنارة ويكاشفها ويبوح لها بكلّ مكنوناته، وتؤرّقه كلّ يوم وذويه بنفس القدر، طالما لا نستطيع العودة إليها عودةً فعليّةً. إنّ محمّد الأعفم يسعى لسدّ النّقص عبر آليّات تعويضيّة من خلال زيارات المنارة، عساه يستعيض هذا الحلم المسلوب ولو على الورق!
ب. الرّغبة (آليّة لضمان حركة الشّخصيّة): تظهر هذه الآليّة في رغبة الشّخصيّة المركزيّة تحقيق حلمها “الموعود” في الوصول إلى قرية “المنارة”، والّتي هي اليوم أثر بعد عين. كلّ العوائق والمثبطّات لن تُثني محمّد الأعفم عن مواصلة طريقه إلى المنارة وتحقيق حلم الآباء، فهي حلمه وأهله ووعده ليل نهار. الشّخصيّة نجدها في حركة دائبة من خلال علاقتها مع الشّخصيّات الأخرى في الرّواية. والكاتب في تقديرنا لن يثنيه شيء عن أحلامه الماجدة ورغبته الواضحة في اِستعادة المنارة، بل هذا حلم الوالد قبله، قاسم الأعفم، الّذي لا يفتأ يتذكّر المنارة في كلّ حركة ويستحضرها في وعيه ولا وعيه! ويريد أن يكحّل عينيه برؤيتها والعودة إليها قبل اِنتقاله للرّفيق الأعلى.
رغبة الشّخصيّة المركزيّة اِرتبطت بشخوص نسائيّة على طول الرّواية، من شأنها أن تحقّق له أحلامه بعد أن خرج إلى التّقاعد من مهنته في التّربية والتّعليم. وبما أنّ الشّخصيّة المركزيّة حريصة وعنيدة في تحقيق رغبتها في الظّروف الّتي تحياها، فهي مستعدّة لفعل أيّ شيء في سبيل تحقيق حلمه الوجوديّ الأوطوبيّ نقول!
وهو يمثّل بذلك قطاعًا كبيرًا من العامّة الّتي تريد تحقيق الأمن والأمان بالوصول إلى المنارة المنكوبة والمهجّرة. ومن هنا ندرك الشّخصيّة المركزيّة في تمثيلها لغيرها، فهي تمثيليّة ومضادّة (Antagonist) في الوقت ذاته، لكلّ من تسوّل له نفسه أن يُعطّل حلم العودة من المؤسّسة الحاكمة والأشقّاء.
ت_ القدرة (العقليّة، الجسديّة، الشّعوريّة، التّخطيطيّة): رأينا أنّ الرّاوي وهو الشّخصيّة المركزيّة يستجمع قدراته العقليّة والجسديّة والشّعوريّة؛ كلّ ذلك بدافع النّقص والحوافز الدّاخليّة. إنّ الشّخصيّة في سعيها ورحلتها عبر محطّات متعدّدة، تستجمع شحناتها النّفسيّة والجسديّة باِتّصالها بشخصيّات أخرى على اِمتداد الرّواية، واستنفذت طاقاتها العقليّة في الوعي واللّاوعي، فعندما يتقهقر في حركته الخارجيّة يتحوّل إلى وعيه الباطن فيشحنه بالهواجس والمونولوجات وآليّات دفاعيّة وقائيّة أخرى ليحافظ على تواصله الوجوديّ والفيزيائيّ.
أرادت الشّخصيّة المنارة بكلّ جوارحها وأحاسيسها ومجسّاتها وقدّها وقديدها، لتعيد الأمن والحياة الرّغيدة البسيطة إلى ربوع أهل القرية الّذين نزحوا عنها قهرًا؛ وأغلبهم اليوم في الشّتات. لكنّها تعلم في دخيلتها أنّ اِسترجاع الحقّ المسلوب والمهدور أبعد ما يكون في هذه الظّروف؛ كون الأذرع السّياسيّة والاِستيطانيّة تتربّص بنا وتريد الإيقاع بالّذين تُسوِّل لهم أنفسهم اِسترجاع أحلامهم الورديّة وبعث الأمل وتبديد الظّلام عن أفق المشرّدين في المنفى.
محمّد الأعفم واحد منهم يسخّر كلّ قواه ويقوم بنشاطات اِجتماعيّة وسياسيّة من أجل إثارة الوعي واِستعادة الحلم الضّائع، والّذي سُلب على مرأى ومسمع من الأشقّاء قبل الأعداء الّذين صادروا الأرض تحت طائلة القانون وتشريد النّاس في كلّ أرجاء الوطن العربيّ وخارجه دون حسيب أو رقيب!
إنّ الشّخصيّة المركزيّة فكرها مُعْدٍ في اِلتفافها حول مجتمعها وحراكها السّياسيّ والأيديولوجيّ وتستطيع التّأثير في الرّأي العام وصولًا إلى المؤسّسة الأكّاديميّة وقد رأينا ذلك في الرّواية، وقد ساقت الحكايات الّتي تؤكّد الأحداث المأساويّة خلال النّكبة والتّهجير، متمثّلًا في إقناع الباحثة والمحاضرة من بنات العمومة الّتي كانت عنيدةً ولم تصدّق الحكايات من الرّاوي إلّا بعد جهد جهيد وعراك فكريّ دامغ! (انظر الرّواية: ص233-274). سعى محمّد الأعفم جاهدًا ليجدّد حلم العودة واِسترجاع الأرض القائمة اليوم كَ” رِجمة”، لكن هذه القدرات بمجملها لم تتكلّل بالنّجاح المعتبر؛ وهذه ميزة حداثيّة يتعرّض لها الأدب الحديث، إذ يسعى لتثبيط حلم ومسعى الشّخصيّة المركزيّة من تحقيق حلمها الإنسانيّ الوجوديّ. غالبًا ما نجد أنّ الشّخوص المركزيّة في النّصوص السّرديّة مُعوّقةً رغم اِستبسالها فسرعان ما يتحوّلون إلى الهامشيّة ويمثّلون اللّابطولة.
ثانيًا: مرحلة الفعل-Action
اِستراتيجيّة الفعل، (مساعدة-معوّقة: ذاتيّة/ غيريّة؛ داخليّة/ خارجيّة). إنّ الرّاوي باعتباره الشّخصيّة المركزيّة، من خلال سعيه وتحوّلاته عبر السّرد وعلاقاته بشخوص فاعلة، حاول بذلك التّعويض عن حلمه المتمثّل بحقّ العودة وبناء وطنه (المنارة) من جديد. الشّخصيّة المركزيّة متفائلة، لكنّها لم تدرك ماهيّة الواقع الوضعيّ والقانونيّ والسّياسيّ الّذي تحياه في دولة أهدرت الحقوق وصادرت الأراضي، وجنّدت القانون لصفّها مخوّلًا لها التنكّر للحقوق وتجاوزها متى شاءت دون حسيب ولا رقيب.
لقد قام الرّاوي بذاته وعن سبق إصرار وعاطفة متأجّجة أن يستعيد الواقع القديم “المنارة”، أراده حقيقة واقعة؛ ولطالما حلم والده_ رحمه الله_ أن يُكحل عينيه قبل أن يتوفّاه الله بهذه المنارة الّتي لا شيء يُعادلها سوى الرّوح، وقد كانت شخصيّة الوالد مساعدة إلى أبعد الحدود للشّخصيّة المركزيّة في الاِستمرار باِستعادة الحلم القريب البعيد! وكما نعلم أنّ البَون شاسع بين الحلم والواقع.
نشير أنّ العوامل المعوّقة في الرّواية كانت خارج عمليّة السّرد والكيان البشريّ الفاعل في السّرد، نُحيلها في جملتها إلى السّلطة الحاكمة والاِستعمار إضافة إلى الأشقّاء العرب الّذين تركوا فلسطين ومنها المنارة ترزح تحت وطأة الاِحتلال والمصادرة، لم يستجيبوا للجماهير الثّائرة ومطالبهم بإرجاع الحقوق لأصحابها الشّرعيّين. كلّهم مدانون في الرّواية وصبّ عليهم الرّاوي جام غضبه من خلال المشاهد باستخدام آليّات الفكاهة السّاخرة، التهكّم والمفارقات.
هناك شخصيّات نسائيّة بالذّات أترَين المشهد السّرديّ لجأ إليها محمّد الأعفم، ومن خلال التّواصل معهنّ اِستطاع أن يعيد طفولته المسلوبة ورجولته المشوّشة إلى حدّ بعيد. هذه “حمدة” الّتي أرضعته حبّ المنارة، أثارت فيه الحياة والحبّ والمودّة من جديد، وهناك مشاهد رائعة في الرّواية (107-116).
هذه “سلوى” نجمة النّمر الأبيض، اِمرأة المنارة شخصيّة ظلّ لا تفارق محمّد الأعفم وجدانيًّا وهي المحرّك للوعي والضّمير الّذي لا يغيب عن كيان الشّخصيّة المركزيّة. لقد أمطرت محمّد الأعفم وابلًا من الحبّ والحنان وأعادت المنارة إلى ذاته واقعًا يحياه؛ فهي المعادل الموضوعيّ لحلمه المسلوب، نظرًا لتشكّل الواقع بمنظار آخر وبرؤيا مغايرة. الشّخصيّة المركزيّة لا تستطيع أن تعيد المنارة بهالتها وسطوتها على الأفراد، لكن على الأقل عن طريق سلوى؛ فباللّقاء بسلوى/ اِمرأة المنارة/ أعاد محمّد الأعفم المنارة إلى صدره وشرايينه، ينبض بها قلبه كما ينبض بحبّ سلوى (انظر الرّواية 117-128؛ 352-353).
لم يكتمل السّعي ولم يُتوّج بالوصول إلى المنارة. ولمّا لم تتحقّق العودة الفعليّة كان ذلك يوازي نسف الذّاكرة الزّاخرة بالماضي بتجلّياته الإنسانيّة والاِجتماعيّة والتّراثيّة الجغرافيّة!
ثالثًا: مرحلة ما بعد الفعل
لقد عاينّا حركة الشّخصيّة المركزيّة في سعيها وتواصلها مع الشّخوص الفاعلة في النّصّ السّرديّ. وفي مقاربتنا هذه، وهي إنتروبولوجيّة؛ وضعت الشّخصيّة المركزيّة في المركز في نشاطها الاِجتماعيّ والإنسانيّ في إطار دائرة ردود الأفعال على طول الرّواية.
باِعتبار شخصيّة محمّد الأعفم شخصيّة دائريّة، تحمل المعاني النّصّيّة الّتي يقترحها القارئ، وبالنّظرة الشّاملة إلى كلّ حركتها ومنابعتها خلال السّرد كشخصيّة فاعلة في الحداثة، كان لا بدّ من أن تصل إلى حالة من حالات البطولة الثّلاث؛ البطل-Hero باعتبار النّجاح حليفها في سعيها إلى تحقيق هدفها على طول الأحداث المتعاقبة. شبه بطل/ بطل جزئيّ-Semi Hero باعتبار أنّ الشّخصيّة المركزيّة قد حقّقت بعضًا من آمالها خلال سعيها، وقد يستعمل الكاتب هنا آليّات تعيض حتّى لا يخرج خاسرًا في رحلته الوجوديّة. وعند الحديث عن رواية “نجمة النّمر الأبيض”، نجد أنّ محمّد الأعفم قد اِستثمر كلّ وجدانه وقدراته العقليّة والنّفسيّة في سبيل تحقيق ولو شيئًا قليلًا للمنارة الموطن الأوّل لذوي محمّد الأعفم. وبالنّظر إلى السّياقات السّرديّة وجدنا الشّخصيّة المركزيّة متعلّقة بشخصيّة “سلوى” نجمة النّمر الأبيض على وجه الخصوص باِعتبارها شخصيّة حميميّة، قويّة في مساندتها لمحمّد الأعفم فقد اِعتبرها خلاصه في رحلته الشّاقّة، تعويضًا وجوديًّا خارج المكان الأموميّ باِعتباره يحيا في مكان اِفتراضيّ في النوستالجيا أو الجغرافيا. يقول الرّاوي مستحضرًا سلوى في الوعي “المنارة في حياتها وقلبها كما هي في حياته وقلبه، وفي كيانها ووجودها كما هي في كيانه ووجوده، ترتبط بكلّ شيء، وكلّ شيء يرتبط بها، وكما كانت المرأة في حياته وما زالت رباطه المقدّس بالمنارة، منذ سرت في عروقه دماء أمّه، ثمّ أرضعته حبّ المنارة مع حليبها، وإلى أن جسّدتها حمدة في كيانه، وإلى اليوم إلى هذا اللّقاء العزيز بسلوى، هذا اللّقاء المثير بنجمة النّمر الأبيض وامرأة المنارة، الحلم الّذي فاق كلّ توقّعاته…” (الرّواية: ص 352-353).
بناءً على تقدّم يمكننا أن نعتبر الشّخصيّة المركزيّة قد حقّقت بعض البطولة وهي بذلك “بطل جزئيّ” كونها حقّقت مشيئتها جزئيًّا، وليس أدلّ على ذلك من لقائها بسلوى في مكان محبوب؛ حيفا، كذلك على المستوى الإدراكيّ والوجوديّ في اِستحضار المكان وجعله مركزيًّا في كلّ حلّ وترحال بفضاء السّرد. وبذلك نخرجه من دائرة “اللّا بطل”؛ فهو يتلاءم مع الشّخصيّات الهامشيّة والّتي لم تحقّق شيئًا، منهزمة اِنطوائيّة، مع العلم أنّ غالبيّة الشّخوص في السّرد العربيّ الحديث نؤطّرها في خانة اللّابطولة، كونها تعيش بَونًا شاسعًا بين طموحاتها وقدراتها الحقيقيّة؛ وهذا مردود لحالات التّثبيط والمعوّقات، بحيث أصبح إنسان القرن الحاليّ عاجزًا إدراكيًّا وشعوريًّا، إنّه ضحيّة المكان الّذي يعيشه، فهو يرضخ للأنظمة السّلطويّة القهريّة، وبالتّالي يصدر الكاتب في عمله الأدبيّ عن محيطه المحتلّ والّذي يعوّق الأديب من ممارسة حريّاته الطّبيعيّة…
القسم الثالث
القسم الثالث من دراستي في رواية الكاتب محمّد أحمد هيبي ” نجمة النّمر الأبيض”، وقد كنت سابقًا قد أفضت في دراسة القسميْن الأوّليين من الرواية بناءً على المعاني والدّلالات والشّخصيّة المركزيّة فيها…
والآن سننتقل إلى مرحلة ما بعد النّصّ (نشاط ما بعد القراءة)، بحيث سنتحوّل من مقاربة الشّخصيّة الأنتروبولوجيّة لحركتها على اِمتداد النّصّ بوصفها كيانًا بشريًّا، إلى المعاينة السّيميائيّة بوصفها كيانًا لغويًّا وذلك بإيجاز.
نقول أنّ رواية كاتبنا محمّد هيبي تسير وفق الطّريقة الكلاسيكيّة بشكل تصاعديّ في منحاها وحبكتها، لكنّها تتفرّد بميزات حداثيّة من توظيف لتقنيّات المونولوج والدّيالوج وتيّار الوعي والاِسترجاع الفنّيّ والحلم وأسلوب المفارقة السّاخرة بالمجمل العامّ.
في مضمونها تضرب على وتر “الفقد”؛ وهنا الوطن المفقود؛ إذ رأينا محمّد الأعفم يعيش همّه بشكل طوليّ وعرضيّ محاولًا أن يسترجع وطنه المفقود أو السّليب، مطوّرًا ذلك عبر أليّات من الوعي والذّكريات، وكأنّه يبثّ أمامنا شريطًا يستعرض فيه هواجسه وذكرياته الشّخصيّة والمعرفيّة والاِجتماعيّة والتّراثيّة.
هذه الرّواية تسجّل حالة من الوعي الجمعيّ، منصّبًا الرّاوي نفسه ساردًا أمينًا للحدث، مسجّلًا التّفاصيل خاصّة تفاصيل حكاية التّهجير والاِنتكاب، وذاكرة المكان، ومحاميًا عن الأرض.
تناول الكاتب الأحداث بشكل سرديّ تعاقبيّ، أشبه برحّالة يستعرض الأحداث، لكنّها ليست تقليديّة؛ فكاتبنا يرحل معنا عبر الوعي والوعي المضادّ بشكل حداثيّ، وهو ما يعرف في الحداثة بالسّعي (Quest)، مصطلح مجازيّ يشير إلى تحرّك الذّات نحو الهدف المرغوب فيه، وفي الظّروف العامّة فإنّ هذه الحركة دائمًا تشكّل فصل الذّات عن الهدف القيّم وحركتها نحو الوصل معه.
إذا أردنا إسقاط دلالة الرّواية على الواقع، فنجد أنّ الشّخصيّة المحوريّة تسعى للوصول، بحيث أنّ الرّاوي لم يؤل جهدًا في اِسترجاع المكان وجعله حيًّا وملازمًا لكلّ حركة من حركات الشّخصيّة المركزيّة، وليس أدلّ على ذلك من السّرد الوصفيّ التّفاعليّ الّذي يطغى على الحدث. فإنّ الشّخصيّة في حركيّتها ظلّ المكان ملازمًا لها حتّى يمكن اِعتباره شخصيّة ظلّ للرّاوي الّذي اعتبر المنارة حلمه الأبديّ ولا يمكن التّنازل عنه مهما كلّفت الظّروف. وهو يُدين الأشقّاء العرب أوّلًا في تفريطهم بالوطن قبل أن يأتي المستعمر ويفرض هيمنته ويطمس ملامح القرية، فالمشهد حاضر على ما أعمله المحتلّ من تهجير وطمس للهويّة واِقتلاع البشر والحجر، وكلّ مكوّنات المكان المتمثّل في رواية محمّد هيبي بالمنارة والمعروفة بِ “ميعار”.
في أيّامنا هذه لا تزال المئات من أبناء هذه البلدة المهجّرة المنكوبة تحجّ إليها في يوم نكبتها؛ كبرهان دامغ على ضرورة العودة واسترجاع الأرض، وعلى الأقلّ وجدانيًّا وشعوريًّا ووجوديًّا، لمّا تعذّر العودة الحقيقيّة جغرافيًّا كما كان!
لقد قيل في هذه الرّواية الكثير منذ خروجها إلى النّور، ونحن من خلال هذا الاِستقراء نؤكّد أنّ الكاتب يسعى من خلال الآليّات الشّكليّة والفكريّة أن يحملنا إلى قريته المهجرّة، وهو يواجه ذاك المستعمر بأدواته الّتي يعرفها ويحمّله المسؤوليّة، وإن تقادم الزّمن على التّهجير، إلّا أنّ الوعي يرفض كلّ دواعي التّدجين. وبما أنّ الكاتب ملتزمٌ بوطنه وأرضه وينأى عن الإقليميّة؛ فهو يدقّ
نواقيس الخطر ليل نهار ليذكّر كلّ فرد بحلم العودة. تعذّر الرّحيل إلى القرية والسّكن فيها واقعًا، هذا قد يخلق حالة صداميّة مستقبلًا، ولمّا لم تتح السّلطات للرّاوي وما يمثّله أن يعود للقرية فإنّه جعل من الجغرافيا تسكن وعيه، ولو بشكل مجازيّ وهذا ما قاله البروفسور إبراهيم طه في تظهيره للرّواية” … يصرّ الأعفم على أن يقيم المنارة في وعيه، في ذاكرته، حتّى تصير تُبنى وتتشكّل فوق التّراب”.
إنّ الطّريق للمنارة هو طريق كلّ إنسان حرّ مناضل يأبى الانهزام والظّلم والتّهجير، وهي درب كلّ من يخوض تجربة مماثلة عن وعي. هذا لا يتأتّى بالخنوع والاستكانة وإنّما بالنّضال ومقارعة القانون حتّى لا يذهب حلم العودة هدرًا وبالتّالي تموت القضيّة بموت المطالبين بها.
الرّواية تضرب على وتر الحريّة والكرامة حيال الحالة العربيّة المترديّة الرّاضية بالاِنهزام ولم يفكّروا في دقّ جدران الخزّان
لا بدّ من هزم المستعمر من أنفسنا لنحرّر أرضنا بعدها، هذا ما قاله المفكّر الجزائريّ مالك بن نبي!
إنّ الرّواية تعرّي الواقع العربيّ الفلسطينيّ، وقد حدث ما حدث لتخاذل الأنظمة العربيّة وعدم مطالبتها بالدّولة، وتنازلها عن حقّ فلسطين الّذي اِنتُكب. وما زالت النّكبات تضرب بنا وتتوالى وليس هناك من يقف بوجهها إلّا فيما ندر.
إنّ الرّواية تحرّك المشاعر والوجدان وتذيب الأبعاد الجغرافيّة وتجعل من كلّ الأوطان وطنًا واحدًا ينزف على مائدة العدوّ، وليس من مُشمّر في سبيل اِسترجاع الحقّ بشتّى الطّرق والوسائل، وإن كنّا ندرك في وعينا أنّه لا عودة عن حقّ العودة!
بقلمي: محمود ريّان