في الذكرى الأربعين لاستشهاد المناضل الفلسطيني غسان كنفاني[1]
بعد أربعين عاما، صرخة غسان كنفاني ما زالت مدوّية:
“وفجأة بدأت الصحراء كلّها تردّد الصدى:
لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟”!
(غسان كنفاني، رجال في الشمس، الآثار الكاملة، ط 4، مج 1، 1994، ص 152).
من قبل قيام إسرائيل وحتى اليوم، كانت الصهيونية وما زالت تمارس أسلوب التصفية الجسدية ضدّ أعدائها، وضدّ كل من تعتبرهم يشكّلون خطرا على مشروعها. وهذا ما حدث لكثير من عناصر القيادة الفلسطينية خاصة أولئك الذين رفضوا أيّ تنازل على حساب شعبهم. كلنا نذكر صلاح خلف (أبو إياد) وخليل الوزير (أبو جهاد) وسعد صايل ومغنيّة وغيرهم الكثير. في رأيي الأبرز بين من اغتالتهم أو شاركت الصهيونية في اغتيالهم، كان على المستوى السياسي اغتيال القائد الرمز المرحوم ياسر عرفات، الذي يؤكد استمرار محاولات الصهيونية لتعديل المشروع الفلسطيني بما يتلاءم مع مصالحها، بينما على المستوى الفكري والثقافي، فقد كان اغتيال الكاتب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني. واغتيال كنفاني في نظري هو الأخطر، لأنّ الصهيونية في تلك المرحلة كانت تعمل على اجتثاث الفكر الفلسطيني من جذوره. اغتيال أيّ عنصر من العناصر الفلسطينية، مهما كانت رتبته العسكرية أو السياسية، هو محاولة لإعاقة المشروع الفلسطيني، بينما اغتيال غسان كنفاني هو محاولة اغتيال للمشروع الفلسطيني كله، على مستوى الرمز والواقع. والمؤسف، بعد هذه السلسلة الطويلة والمستمرة من الاغتيالات، أنّ الأمور كانت وما زالت تسير وفق المخطط الصهيوني. والعجز الذي تعيشه القيادة الفلسطينية متمثلة بالسلطة الفلسطينية، والانقسام الذي تجسّده حركة حماس في سلخ غزة عن الجسد الفلسطيني، وإقامة “إمارتها الإسلامية” فيها، وكل العراقيل التي تضعها أمام المصالحة الوطنية، ما هو إلّا تأكيد لذلك، ويتناقض كل التناقض مع فكر كنفاني ومشروعه. والصهيونية ما كان لها أن تحقّق مشروعها لولا مساعدة حلفائها. وأكثر هؤلاء الحلفاء إخلاصا هو الرجعية العربية، التي ساهمت مساهمة فعّالة في كل اغتيال فعليّ أو رمزيّ. وكانت هذه المساهمة مفضوحة دائما، إلّا لمن يصرّون على عصب أعينهم بفُتات قماش مهترئ ترفدهم به تلك الرجعية. منذ بداية طريقه، وعبر كل أعماله، حذّر غسان كنفاني من الرجعية الفلسطينية والرجعية العربية عامة، ومن ودورهما السلبي في تقدّم المشروع الفلسطيني.
غسان كنفاني الذي نتذكره اليوم بعد مرور 40 عاما على اغتياله واستشهاده، هو الأبرز والأخطر في نظري لأنه كان صاحب مشروع فكري ثقافي حاول فيه رسم طريق واضح المعالم للشعب الفلسطيني، بعدما فعلت به النكبة ما فعلت عام 1948. هذا المشروع كان هدفه النهوض بالفلسطيني: الفرد والشعب، من مستوى عجز النكبة وما بعدها طيلة خمسينات القرن الماضي، إلى مستوى الانطلاق في الستينات منه. لقد كانت كتابات غسان كنفاني هي الأب الروحي لولادة المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير.
الكتابة، شعرا ونثرا، كانت عبر العصور تعبيرا عن الحرية ومقاومة الظلم والاستبداد، ولكن غسان كنفاني هو أول من أوجد مصطلح “شعر المقاومة” الذي أطلقه على شعر الشعراء الفلسطينيين الذين ساهموا وما زالوا يساهمون في ثورة شعبهم ورسم طريقه إلى المستقبل. غسان كنفاني عُرِف كأديب، شاعر وكاتب، كتب القصيدة والقصة القصيرة والرواية والمسرحية وشارك في كتابة النقد الأدبي. وساهم أيضا في الحياة السياسية الفلسطينية قولا وفعلا، ما يؤكد أنه كان صاحب مشروع فكري ثقافي شامل، يشمل كل نواحي حياة الشعب الفلسطيني.
الجزء الأهمّ في نظري، في مشروع غسان كنفاني الفكري والأدبي، هو المشروع الروائي. وهذا الجزء، كمشروع غسان كنفاني كله، لم تمكنه الأيدي الآثمة من إتمامه. كتب غسان عددا من الروايات، أتمّ بعضها وترك بعضها ناقصا لم يتمّه بسبب اغتياله. كل هذه الروايات، التامّة والتي لم تتمّ، موجودة في كتاب آثاره الكاملة الصادر بعد اغتياله عام 1972. الروايات التي أتمّ كتابتها أربع روايات هي: “رجال في الشمس” (1964)، “ما تبقى لكم” (1966)، “أم السعد” (1969) و”عائد إلى حيفا” (1969). هذه الروايات عكست واقع الشعب الفلسطيني بعد النكبة وبدأت التخطيط للمرحلة التالية لها، مرحلة النهوض والانطلاق. لقد أدرك غسان بحسّه الثوري مواطن العجز في شعبه وفي أمّته. وأدرك أنّ القيادتين: القيادة الفلسطينية التقليدية من جهة، ومن جهة أخرى القيادة العربية المتمثلة بالأنظمة العربية الرجعية، صنيعة الصهيونية والاستعمار والمتحالفة معهما، أدرك أنهما قيادتان عاجزتان، وإذا تُرك الأمر لهما فسوف يظلّ الشعب الفلسطيني على عجزه يراوح مكانه. ولذلك فقد رأى أن لا بدّ للشعب الفلسطيني من أن يأخذ زمام المبادرة بيديه، وألّا يترك مصيره رهين مصالح الرجعية الفلسطينية والعربية عامة.
العجز الفلسطيني، والعربي عامة، جسّده غسان كنفاني في شخصية “أبو الخيزران” في رواية “رجال في الشمس”. “أبو الخيزران” هذا، هو سائق السيارة التي حملت الصهريج، الخزّان الذي خبّأ فيه الفلسطينيين الثلاثة: “أسعد” و”مروان” و”أبو قيس”. “أبو الخيزران” يقود السيارة، وقد أخذ على عاتقه تهريب الفلسطينيين الثلاثة، عبر الصحراء إلى الكويت، من أجل العمل وكسب لقمة العيش. وقد فشل في ذلك، ولاقى الفلسطينيون حتفهم اختناقا في حرارة الصحراء وضغط الصهريج المقفل عليهم. التهريب وإقفال الصهريج لهما دلالاتهما في الإشارة إلى حصار الإنسان الفلسطيني بعد النكبة، وإلى قيمته المنتهكة، خاصة في دول الخليج وإمارات النفط. إذن “أبو الخيزران” الذي رسمه كنفاني عاجزا جنسيا، والذي فشل في تهريب الفلسطينيين، هو رمز للقيادة الفلسطينية الفاشلة العاجزة التي أرادت للشعب الفلسطيني أن يتأقلم في الصهريج العربي فاختنق.
فشل “أبو الخيزران” في تهريب الفلسطينيين، يشكّل إشارة لعجزه على المستوى القيادي. وهذا يفسّر سبب رسم غسان كنفاني لشخصية “أبو الخيزران” كعاجز جنسيا، فهو لا يستطيع أن يكون أبا لأيّ شخص، أو لأيّ مشروع، لأنّ الأبوة التي تشير إليها كلمة “أبو” في الاسم “أبو الخيزران” تتناقض مع العجز الجنسي، إذ كيف يكون أبا من هو عاجز جنسيا؟ ولكنّ اختيار الاسم “أبو الخيزران” بالذات، يثير تساؤلات أخرى كثيرة، وينفتح التفكير فيه على تعدّد أهداف اختياره. فـ”أبو الخيزران”، في رأيي، ليس المقصود به من أنجب “الخيزران” وكان أبا له، وإنما المقصود به “من يستعمل الخيزران أو يحمله ويظهر به عادة “. وهذ استعمال جائز في العامية الفلسطينية. والأنظمة العربية التي تقف عاجزة أمام أسيادها، تحمل الخيزران في وجه شعوبها، وهي تدّعي، قولا فقط، أنها تعمل من أجل تحقيق أحلام هذه الشعوب، كما فعل “أبو الخيزران” ولكنه عجز. هذي الأنظمة كلها أنظمة بطريركية (أبوية) تفرض سلطانها وهيمنتها على شعوبها بالقوة، قوة الحديد والنار، أو للتدقيق، كما في الرواية، قوة الخيزران. وهذا يدفعنا للتساؤل: لماذا “أبو الخيزران” وليس “أبو الحديد” أو “أبو النار” مثلا؟ الخيزران كما نعرفه، هو نوع من الخشب يتميّز بقوّته وليونته في آن معا. وهو يستعمل للعقاب حين يُمدُّ “المجرم” “فلقة”. والمجرم بين مزدوجين لأن ليس كل مجرم مجرما، وكثيرا ما يكون حامل الخيزران هو المجرم، خاصة في حال الأنظمة العربية وأساليب قمعها لشعوبها. الضرب بالخيزران مؤلم جدا. وهذا النوع من الخشب الليّن، لا ينكسر عندما يستعمل للضرب بل ينحني. الضرب بالخيزران يرمز إلى سياسة القمع التي تنتهجها الأنظمة العربية ضدّ شعوبها، أما انحناء الخيزران فيرمز إلى انحناء الأنظمة العربية وعجزها أما أسيادها، لأنّ هذه الأنظمة الأبوية حين تستعمل القوة ضدّ شعوبها أنما تستعملها إرضاء لأسيادها وانحناء أمامهم وتحقيقا لرغباتهم وتنفيذا لمصالحهم. ذلك لأنّ هذي الأنظمة لا تدافع عن نفسها بقدر دفاعها عن ولائها لهؤلاء الأسياد، لأنّ هذا الولاء هو وحده كفيل بقاء هذي الأنظمة واستمرارها. وهنا يريدنا غسان كنفاني أن نرى في “أبو الخيزران” رمزا، ليس للقيادة الفلسطينية العاجزة فقط، وإنما للأنظمة العربية الرجعية كلها، القادرة على شعوبها العاجزة المنحنية أمام أسيادها. ومن هنا يجب النظر إلى صرخة “أبو الخيزران” كصرخة لها أكثر من دلالة، فقد ذُكرت العبارة ثلاث مرات وبأشكال مختلفة. الأولى غير صادقة، وهي تلك التي أطلقها “أبو الخيزران” الذي يرمز إلى القيادات الفلسطينية والعربية العاجزة الفاشلة. هذه الصرخة ليست أكثر من تباكٍ سياسي مصطنع، وليس جديدا على الرجعية العربية أن تقتل الفلسطيني وتتباكى ذارفة الدموع عليه. ربما يقول قائل إنني أحمّل النص أكثر مما يحتمل، ولكن من حقّي أن أتساءل: لماذا أطلق “أبو الخيزران” صرخته الأولى بضمير الغائب؟: “لماذا لم يدقوّا جدران الخزان؟” (لم يدقّوا هم، بضمير الغائب). هذا في نظري يمثل بُعد “أبو الخيزران” وانسلاخه عن الذين يعود عليهم الضمير، الفلسطينيين الثلاثة في الخزّان، وذلك يرمز إلى بُعد الأنظمة والقيادات العربية عن شعوبها. وهنا لنا أن نتساءل أيضا: لماذا جاءت الصرخة الثانية بضمير المخاطب؟ “لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟”. الدلالة الثانية، هي تلك الصرخة الصادقة التي أطلقها غسان كنفاني نفسه، والذي يصرخ بشعبه الفلسطيني أن يأخذ زمام المبادرة بيديه في حلّ مشاكله وقضاياه، وألّا ينتظر الحلول من الآخرين. وهذا يُفهَم من خطابه المباشر للفلسطينيين، في الصهريج وفي الواقع، فقد قال “لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟” (لم تدقّوا أنتم، بضمير المخاطب). إنه يخاطبهم، إذن فهو حاضر معهم، يواجههم. هذه العبارة، الصرخة، جاءت ليعبّر فيها كنفاني عن رؤيته للوضع الفلسطيني آنذاك: هذا هو المصير الذي ينتظرنا، التشرّد والشتات في الوطن العربي الكبير، والاختناق في الصهريج العربي، في الصحراء العربية الكبرى، إذا كرّسنا عجزنا ولم نأخذ زمام المبادرة لحلّ مشاكلنا بأيدينا. ولم يغلق غسان كنفاني روايته بهذه العبارة، لا حين أطلقها “أبو الخيزران”، ولا حتى حين أطلقها هو، وإنما أغلقها حين ترك الصحراء تردّد صداها، حين ذكرها للمرة الثالثة، ما يشير إلى أنّ كنفاني كان يقرأ المستقبل وما فيه من عقبات كثيرة قد تعترض طريق الإنسان الفلسطيني ومشروعه الذي لا بدّ من المثابرة على العمل من أجل تحقيقه. ولذلك فقد أراد غسان كنفاني لتلك الصرخة أن يستمرّ تردّدها لكي ينهض الفلسطيني من جديد، بعد كل كبوة أو عقبة، ليأخذ زمام المبادرة بيديه، وينطلق بقدراته لمواجهة أعدائه ولتقرير مصيره بنفسه.
تلك الصرخة كانت بداية لمرحلة جديدة في فكر غسان وأدبه، وفي حياة شعبه كذلك. إنها الصرخة التي أدّت إلى النهوض بعد العجز، كنهوض العنقاء من الرماد. ومن النهوض إلى الانطلاق والمواجهة مع العدو الصهيوني، الانطلاق والمواجهة اللذيْن حقّقهما “حامد” بطل رواية غسان كنفاني التالية، “ما تبقّى لكم”.
“حامد”، بطل رواية “ما تبقّى لكم” (1966)، كان يرزح تحت وطأة عاريْن: قديم ماضٍ يتمثل بعار النكبة، وحديث حاضر لا ينفصل عن عار الماضي، يتمثل بعار أخته “مريم” التي حملت سفاحا من زكريا الخائن المتعاون مع العدو. وقد أراد “حامد” أن يتخلّص من العارين معا، فأعلن عزمه على ترك غزة والتوجّه إلى الأردن بحثا عن أمّه، التي نزحت من يافا إلى الأردن بينما هو وأخته نزحا إلى غزة، كتعبير عن التشرّد والشتات الفلسطيني بعد النكبة. ولكنّ “حامد” يهجس أنّ أمّه في الأردن ربما تكون قد تزوجت هي الأخرى، ومن آخر قد لا يألفه، إذن، فما حاجته بالبحث عنها وإحراجها ومضاعفة عاره وآلامه؟ هذا يجعلنا نبحث عمّا هو غير معلن، لأنّ التوجّه إلى الأردن كان هدفا معلنا. وليس المعلن دائما هو الحقيقي. فقد كان هذا الإعلان أشبه بتصريح سياسي أراد به “حامد”، والكاتب من ورائه، التغطية على هدفه الحقيقي. أعلن “حامد” أنه سينطلق من غزة إلى الأردن عبر الصحراء، صحراء النقب، في خطّ مستقيم، وأيّ انحراف فيها سوف يؤدي إلى الهاوية. فلماذا الخطّ المستقيم؟ ولماذا يؤدّى الانحراف إلى الهاوية؟ هذا يؤكّد أنّ هدفا غير معلن، كان يراود حامدا، هو الانطلاق من غزة في خطّ مستقيم، نحو هدف محدّد يصله، ليس بالأردن، وإنما بالضفة الغربية، الجزء الشرقي من فلسطين.
العمل الجادّ، في بعض مراحله على الأقلّ، يحتاج إلى السريّة. من هنا تنبع الحاجة أحيانا إلى إعلان شيء وإضمار آخر. وهذا ما فعله “حامد”، وأشار إليه كنفاني من خلاله، ضرورة سريّة العمل أحيانا.
من يدرك جغرافية فلسطين ويذوّتها، كما كان غسان يفعل، في الذهن والفكر ربما قبل النفس والقلب، يدرك أنّ أيّ انحراف إلى اليمين أو اليسار يقوم به من ينطلق من غزة شرقا إلى الضفة الغربية قد يوصله إلى صحراء الأردن جنوبا أو إلى سوريا أو لبنان شمالا. وبهذا يكون المنطلِق قد أخطأ الهدف. والفلسطيني المشرَّد ليس بحاجة إلى تشرّد جديد، وهذا تأكيد على أنّ “حامد” وغسان كنفاني من ورائه، لا يريد الانحراف عن هدفه المحدّد لكيلا يتشرّد من جديد، وهدفه المحدّد هو الانطلاق من غزة نحو الضفة الغربية والالتحام بها. والخطّ المستقيم يعني أقصر الطرق أيضا. والوصول إلى الضفة الغربية يعني إعادة اللحمة بين غزة والضفة الغربية. معنى ذلك، إعادة اللحمة بين أجزاء الوطن الذي شرخه الاحتلال ومزّق جسده باغتصابه الجزء الأكبر من فلسطين، وفصل غزة عن الضفة الغربية. تحقيق الهدف، إعادة اللحمة بين أجزاء الوطن، رآه كنفاني لا يتمّ إلا بالخط المستقيم، أقصر الطرق، أي المواجهة المباشرة مع العدو الصهيوني في العمق الفلسطيني المغتصب، وهذا ما خطّطه غسان كنفاني، ونفّذه “حامد” الذي انطلق من غزة عبر الصحراء وبدأت المواجهة بينه وبين جنود العدو عندما توغّل في الجزء المغتصَب من فلسطين.
كان هذا هو الردّ الذي رآه غسان كنفاني على العجز الفلسطيني والعربي. الانطلاق والمواجهة المباشرة. وقد تحقّق ذلك في ولادة المقاومة في الستينات، وولادة الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير. إلّا أنّ الصهيونية وحليفتها المخلصة، الرجعية العربية، كانتا لمشروع غسان كنفاني وللمشروع الفلسطيني عامة بالمرصاد، فقد جاءت هزيمة حزيران 1967 لتهدم هذا المشروع. ولكنّ غسان كنفاني لم يستسلم، فعاد إلى معلمه الأول، إلى الجماهير وإلى الطبقة الفلسطينية المسحوقة في المخيّم، عاد إلى “أم السعد”، تلك المرأة الفلسطينية التي تعلّم منها الصمود، فجاءت روايته “أم السعد” (1969) لتشحن العزيمة الفلسطينية من جديد، ولتحذّر من الوقوع فريسة بين مخالب اليأس. وفي العام نفسه، (1969)، جاءت روايته “عائد إلى حيفا” (1969)، لتردّ على العجز الفلسطيني والعربي مرة أخرى، وليذكّر أنّ الفلسطيني “سعيد س”، الحيفاوي اللاجئ في وطنه، في رام الله، عاد إلى حيفا العودة التي لا يريد، فقد دخلها كغريب عنها، وخرج منها ثانية، كغريب أيضا، في مساء اليوم الذي دخلها فيه، عائدا إلى رام الله عودة لا يمكن لها أن تكون إلّا أقسى من التشرّد عام 1948. ولذلك فقد أراد كنفاني في هذه الرواية إعادة حسابات قاسية، مع شعبه وقيادته من جهة، ومع الرجعية العربية من جهة أخرى. وأراد، في الروايتين معا، أن يرتّب من جديد، أوراقه التي بعثرتها الهزيمة، وبعثرها الاحتلال الجديد، الذي جمع بين أجزاء الوطن وحقّق له اللحمة التي لا يريدها أيّ فلسطيني، اللحمة بقوة الاحتلال. أراد كنفاني أن يرتّب أوراقه لكي يتسنّى له ولشعبه الانطلاق مرة أخرى، انطلاقا يتلاءم مع الظروف الجديدة. ولأنه كان أقوى من الظروف الصعبة، ولأنه لم يستسلم كغيره لهذه الظروف، أطلقت الصهيونية نحوه سهمها الأخير، فجاءت التصفية الجسدية، التي كانت متوقعة، والتي رمت، ليس إلى تصفية غسان كنفاني الشخص فقط، بل إلى تصفية مشروعه الوطني: الفكري والثقافي، وإلى تصفية المشروع الفلسطيني برمته.
المشروع الفلسطيني، على ما فيه من نكبات مستمرة، ورغم ما لنا اليوم من مآخذ على صانعي القرار فيه، إلّا أنه ما زال مستمرا، وربما يكون هذا هو العزاء الوحيد لأيّ فلسطيني لم تنطفئ الجذوة فيه، إلّا أنه لا يمكن لأحد، يعرف غسان كنفاني، أن ينكر إنّ سقوطه واستشهاده في تلك المرحلة، مرحلة النهوض من جديد، أوائل سبعينات القرن الماضي، قد ترك أثرا بالغا، وجرحا عميقا ساهم في إعاقة تقدّم المشروع الفلسطيني على كافة الأصعدة: الفكري والسياسي والثقافي، على مستوى الرمز، وعلى أرض الواقع كذلك. ولذلك فإنّ صرخة غسان “لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟” ما زالت أصداؤها تتردّد، ليس في أرجاء فلسطين والعالم العربي فحسب، وإنما في أرجاء العالم بأسره، تشير بأصابع الاتهام وتفضح: فلسطينيا وعربيا وعالميا، كلّ من ساهموا في صنع النكبة، وما زالوا يساهمون في إجهاض كل مشروع لإزالة عارها وآثارها.
[1] . مداخلة قدّمها الكاتب في أمسية أدبية، في نادي الحزب الشيوعي في كابول، احتفالا بالذكرى الأربعين لاستشهاد الكاتب الفلسطيني، غسّان كنفاني. نشرت في الملحق الأسبوعي لجريدة “الاتحاد” الحيفاوية، يوم الجمعة: 03.08.2012.