د. محمد حبيب الله

الجمعة /11/4/2025

هدية سعدت بها من صديق، رواية أهدانيها د. محمد هيبي تحمل العنوان أعلاه. لا أدري لماذا شدّني هذا العنوان وتساءلت هل سببه التداعي الحاصل مع كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي اشتهر عالميّا أم كلمة “النهار” الذي لا بدّ أن يأتي حتى لو طالت الليالي. لقد استفزني هذا العنوان ووددت أن أعرف أيّ نهار هذا ولماذا هذا الإصرار على أنّه لا بدّ أن يأتي حتى ولو طال الليل بالمعنى المجازي. العنوان ينمّ عن “أمل” يسكن فينا وعن حالة “التفاؤل” التي يجب أن لا تغيب عن أذهاننا ونفوسنا إذ بدونها لا يمكن للإنسان أن يحيا.

الرواية تتكلّم عن أحداث بدأت قبل أكثر من مئة وخمسين سنة تتعلّق بـ “فلسطين” وما جرى من محاولات لجعل أهلها ينسونها. لقد أطلق المتآمرون على سكانها بعد ما حصل ما حصل وترك أهالي 516 قرية بيوتهم لاجئين في الدول العربيّة، القول أو الشعار “الكبار يموتون والصغار ينسون”. لكنّ خيبة الأمل التي أصابت حاملي هذا الشعار كانت كبيرة حين رأوا بأمّ أعينهم العكس، لأنّ ما يجري في الساحة ظلّ منعشا للذاكرة التي تتجدّد وتتعمّق في نفوس الأجيال المتوالية. فكيف يمكن أن ينسى اللاجئ جرحا دائم النزف يوما بعد يوم ممّا يجعل هذا الشعب الواقع تحت الاحتلال لا ينسى وظلّ يعيش مع هذا الجرح الذي يتعمّق يوميا. أقول هذا لأنّ الرواية التي بين أيدينا هي “حكاية شعب” بدأت منذ رزح الشعب العربيّ عامّة والفلسطينيّون خاصّة تحت حكم الأتراك، حيث حاربوا ضد “تتريك” العرب وظلّوا يواجهون التحدّيات التي مثلت أمامهم وبقوا يعيشون هويتهم ولغتهم مستمرّين في ذلك بالرغم من الاستعمار الغربيّ للبلاد العربيّة متمثّلا بالإنجليز والفرنسيّين ومن بعدهم أمريكا وبشكل غير مباشر، كلّ هذا جعل الفلسطينيّين أكثر عنادا وإصرارا في الوقوف أمام المؤامرات التي حيكت لهم ولا زالت حتى اليوم وغدا وبعد غد، مرورا بما حدث من أمور ترتّبت نتيجة الحرب العالميّة الأولى و”وعد بلفور” (1917)، والتصدّي لهذا منذ العشرينيات والثلاثينيّات والأربعينيّات من القرن الماضي مرورا بالحرب العالميّة الثانية (1939-1946) وما تلا ذلك من حَبّك المؤامرات خاصة ضدّ الشعب الفلسطينيّ وذلك حين صدر قرار التقسيم من قِبَل هيئة الأمم المتحدة والانحياز الذي كان فيه، حيث أعطى للفلسطينيين أقلّ من 25% من الأرض. وتستمرّ هذه الأيام المحاولات التي تعدّت تقسيم حصّة العرب الفلسطينيّين حيث تحاول الحركة الصهيونيّة اليوم تحقيق “وعد الرّب” ونهب الضفّة الغربيّة بإقامة المستوطنات فيها والسعي نحو حكم “أبرتهايد” وتحقيق الحلم “من الفرات الى النيل”.

هذا هو موضوع رواية “النهار بعد ألف ليل” حيث يبنيها الكاتب على أربعة أعمدة أهمّها “الكيان الصهيونيّ” و”الكيان الفلسطينيّ” وقصّة الحبّ التي تمتد على طول الرواية بين مصطفى بطل الرواية وصفاء. أما العمود الرابع فهو ما كان يجري بين مصطفى الحفيد وجدّه خالد عندما كان يحكي بطل الرواية، “خالد”، الرواية بكاملها على لسان شهرزاد وشهريار ومن خلال فترة الغيبوبة التي حصلت للجدّ ودامت عشرة أشهر، تخيّل من خلالها كلّ أحداث الرواية بتفاصيلها التي تتّصل بكلّ ما كان وصار وحدث على الساحة الفلسطينيّة وكلّ الروايات حولها وحول التاريخ “المزيف” الذي كان صاحبه صاحب الأموال الطائلة – البارون روتشلد وعائلته من بعده. هذا بالإضافة الى أعمدة أخرى تنبني عليها الرواية وتتّصل بما كان يحاك وراء الكواليس من أجل تحقيق “الرؤيا” “ووعد الرب” وإيفاء “وعد بلفور”، هذا الوعد الذي رمى إلى إقامة دولة “يهودية” في “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. تتطرّق الرواية الى هذا الوعد والذي لاقى دعما من العرب وعلى رأسهم الملك عبد العزيز آل سعود والشريف حسين طمعا بنيل “كعكة” تحافظ على مطامعهم الشخصيّة ويكتفون بها كما تكتفي الكلاب بقطعة خبز تضمن كيانهم النفعيّ والشخصيّ. لقد أوصى الملك عبد العزيز آل سعود بإعطاء فلسطين لهذا الشعب المسكين كما سأورد لاحقا.

وعودة الى الرواية التي بين أيدينا. لقد اكتشفت من خلال قراءتها ومن بعد إتمامها أنها تمثّل وثيقة تاريخيّة تصف الحقائق التي رافقت قيام دولة إسرائيل. وثيقة تعتمد على الرواية التاريخيّة الصحيحة لا على التاريخ “المزيف” الذي كتب عن هذا الموضوع، وعلى تسييس الحقائق وتقديمها بشكل يخالف الحقيقة الأصليّة التي عاشها الناس في الفترة التي سبقت قيام الدولة، وما كتب عنها عند إقامتها، وما زال مستمرّا في تزوير الحقائق وقائما من أجل تحقيق أهداف خبيثة تخدم مصلحة ومطامع الصهيونيّة في جعل الكيان القائم ركيزة للاستعمار الغربيّ في الشرق العربيّ.

إنّ من يقرأ الرواية لا بدّ له من الوقوف عند ذلك واستذكار بعض الأمور التي وردت فيها لتكون شاهدا يعكس الواقع المرّ الذي يتعايش معه الفلسطينيّون اليوم. لقد استوقفتني أمور كثيرة سأذكر بعضا منها للقارئ لعلها تحفّزه على قراءتها لأنّها رواية تستحقّ القراءة.

لقد استوقفتني في الرواية أمور كثيرة سأتعرّض في ما يلي إلى استذكار بعض منها كي تكون شاهدا يعكس الواقع المرّ الذي كان يحصل في المئة والخمسين سنة التي حدثت قبل قيام الدولة. من هذه الأمور يورد الكاتب حكاية الأمير عبد العزيز آل سعود مع المندوب البريطانيّ الذي طلب منه تصريحا خطيّا على منح فلسطين لليهود تجسيدا لوعد بلفور الذي قطعته بريطانيا على نفسها حيث قال: “صاحب الجلالة ينظر بعين العطف الى إقامة وطن للقزوينيّين (اليهود) في جوهرة الشرق (فلسطين) ويلتزم ببذل كل الجهود وتذليل كلّ العقبات لتحقيق وعد بلفور مع الحفاظ على الحقوق المدنيّة والدينيّة والسياسيّة للسكان المحليّين.” تقول الوثيقة: “أنا السلطان عبد العزيز ابن عبد الرحمن ابن فيصل آل سعود أقرّ وأعترف أن لا مانع من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود كما تريد بريطانيا العظمى ولن أخرج عن رأيها حتى تصبح الساعة.”، صفحه (128). وعندما سأله المندوب البريطانيّ: “ألا تتوقّع أن يغضب العرب فيما لو عثروا على هذه الوريقة؟”، فقال باستهزاء: “لو انتظرنا العرب ما أصبحنا سلاطين كما ترى”. وعندما سأله أنّه ربما يسبّب هذا التوقيع (أو الوثيقة) تشريدا لشعب فلسطين بكامله من فلسطين، أجاب السلطان: “تريد أن أغضب بريطانيا لأنّ عددا من أهل فلسطين سيُشرد، أهل فلسطين لا يستطيعون حمايتي إذا لم تحمني بريطانيا من الأعداء. ولتحرق فلسطين بعد هذا”، كما جاء في الرواية. وأضاف عبد العزيز: “لن ننسى فضل أمّنا وأبينا بريطانيا، كما لن ننسى فضل أبناء عمومتنا اليهود في دعمنا وفي مقدّمتهم السير بيرسي كوكس (كوكس كان صهيونيا)، وندعو الله أن يلحقنا أقصى ما نريده ونعمل من أجله لتمكين هؤلاء اليهود المساكين المشرّدين في أنحاء العالم لتحقيق ما يريدون من مستقرّ”. أما بالنسبة لاعتراف إمبراطورية الدبّ القطبيّ (روسيا) بالاعتراف بمبدأ التقسيم وإعطاء اليهود أكثر من 75% من الأرض. فيقول الكاتب: “إنّها كانت بين الدول الأوائل التي أيّدت الاقتراح وإنشاء دولة لليهود في فلسطين”. في الكتاب وصف لتعامل الانتداب البريطانيّ مع أهل البلاد الاصليّين (الفلسطينيّين) كأعداء، في ظلّ مساعدتهم على قيام دولة إسرائيل، حيث طاردوا كلّ من شارك من بين الفلسطينيّين في ثورة 1936 وكانت قصّة إعدام الثوار الثلاثة في سجن عكا في يوم أطلق عليه “الثلاثاء الحمراء” إشارة الى فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير. وعن دور الدول العربيّة في إسناد فلسطين وحمايتها فقد أقامت ما سُمّي “بجيش الانقاذ” الذي كان مهزلة كبرى وأداة لإخراج الفلسطينيّين من بيوتهم في حيفا ويافا وعكا ووعدهم بأنّهم سيعودون بعد أشهر وبعد أن يطهر هذا الجيش فلسطين من الغرباء. يذكر الكاتب أن جيش الإنقاذ بقيادة “فوزي القاوقجي” من ناحية والقائد البريطانيّ للجيش الأردنيّ الجنرال “اللنبي” من ناحية أخرى، فكانت هذه مسرحيّة هزليّة ترك فيها جيش الإنقاذ فلسطين وأباحها لمنظمات “الايتسيل والهاجانا” وغيرها، والتي بدأت وحسب خطّة مرسومة بطرد الناس من بيوتهم في جميع القرى العربيّة التي وصل عددها الى 516 قرية مستعملين أقصى أنواع الأساليب لحثّهم على الهرب من قراهم، فكانت المجازر التي قتل فيها الكثيرون وهرب بسببها الكثيرون من سكان القرى، نذكر منها مجزرة “دير ياسين” و”الطنطورة” وغيرها…

يستحوذ على الرواية خيط رفيع يربط بين مصطفى، حفيد الراوي خالد، وبين صفاء الطالبة الجامعيّة وزواجهما في آخر الرواية. كما يشير الى ما كان يحدث في الجامعات من دور أجهزة الأمن “الشاباك” في المراقبة والمتابعة والتحقيق مع المحاضرين الجامعيّين الذين كان يشتمّون من أجواء محاضراتهم ما يُسيء الى مؤسّسات الدولة والإضرار بأمنها.

يغلب على الرواية في جميع فصولها دور مصطفى الحفيد وجدّه خالد وحديث الأخير عمّا جرى له عندما دخل في غيبوبة لمدّة 10 أشهر، صحا بعدها وبدأ يستذكر ما حدث له خلال غيبوبته مصوّرا ذلك في حديث شيق لعب فيه خالد دور شهريار وإلى جانبه شهرزاد التي دأبت تحدّثه كلّ ليلة عن تسلسل الأحداث التي جرت على الساحة الفلسطينيّة وعما كان يجري بين الدول التي احتلت سوريا الكبرى، (بريطانيا وفرنسا)، وعن دورها في احتلال سوريا الكبرى وتقسيمها حيث كانت سوريا ولبنان من نصيب فرنسا وفلسطين والعراق والأردن ومصر من نصيب الإنجليز.

وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن هذه الرواية هدفت الى توثيق كلّ ما يتّصل بفلسطين بدءا من أواخر حياة الإمبراطوريّة العجوز (العثمانيّين) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وما رافق ذلك من أحداث تتّصل بفلسطين وإقامة دولة إسرائيل والدور الذي لعبته الدول الغربيّة من خلال المؤامرات التي كانت تُحاك من وراء الكواليس من أجل دعم قيام إسرائيل.

لقد نجح الكاتب في وضع النقاط على الحروف والكشف عن خيوط المؤامرات التي كانت تُحاك من أجل تحقيق الحلم الصهيونيّ. إنّ كتابة مقال حول هذه الرواية لا تسدّ عن قراءتها تفصيلا بل تهدف إلى إثارة القراء وتحفيزهم لقراءتها تفصيلا، فهي رواية تستحقّ القراءة في كلّ ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة وما رافق ذلك من حبك مؤامرات وتزوير حقائق يخدمون من خلالها مطامع دولة جاءت لتحقيق ما ورد في التوراة أولا، أي تحقيق الحلم الصهيونيّ وإقامة دولة من البحر إلى النهر، وثانيا جعل إسرائيل ركيزة للغرب وسعيهم للسيطرة على الشعوب العربيّة ونهب خيراتها وعلى رأسها النفط، وجعلها تابعة لهم لا تقوى على نيل استقلاليتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *