أهداني الدكتور محمد هيبي مشكورا، روايته الموسومة بـ “النهار بعد ألف ليل”. وهذه المقالة هي محاولة لإبداء رأيي فيها بشكل موضوعيّ وإن لم يكن علميّا أو أكاديميّا.
الرواية طويلة وعدد صفحاتها (525) صفحة من القطع المتوسّط. أخذت الرواية وقلت في نفسي: كم من الوقت احتاج لقراءتها؟ حقيقة لم أقرأ رواية بهذا الحجم، ولأصدقكم القول، لأنّني لست ممّن يرغب النصوص النثريّة الطويلة بشكل خاصّ. ولكنّي قرأت الرواية ولم أتوقّع أن أنهي قراءتها بهذه السرعة. قرأتها على ستّ دفعات متتالية، وذلك لشغفي وانجذابي إليها.
الحكم على كلّ منجز أدبيّ يجب أن تكون بوصلته المعايير النقديّة التي بها يُحكَم على النص الأدبيّ. هذه المعايير تنقذ صاحبها من السقوط في المجاملة التي تصل حدّ النفاق أحياناً لدى كثير من الناس، ولكنّي لا أجامل في قراءتي لأيّ نصّ أدبيّ. وأنا أعترف أنّي لست ناقدا محترفا ولم أدرس موضوع النقد، ولكنّي اقرأُ النصّ قراءة انطباعيّة أُقيّمه فيها قدر استطاعتي لأظهر غثّه وسمينه بأسلوب أدبيّ مقبول.
رواية “النهار بعد ألف ليل” للكاتب محمد هيبي تجيب على كلّ مقوّمات الأدب الذي أجمع النقّاد على أنّه يجب ألّا يخلُو منها: العاطفة والمعنى والأسلوب والخيال. وسأتوقّف عند بعض عناصرها مثل: طولها، شخصيّاتها، مكانها وزمانها، أحداثها وما فيها من صراع، موضوعاتها المتنوّعة التي تدور في فلك الموضوع الرئيس، وأخيرا الحبكة ونهاية الرواية.
الرواية طويلة جدّا وفيها عدد كبير من الشخصيّات وربّما أهمّها: الجدّ خالد الجوهري وابنه خليل، وحفيده مصطفى، وزوجته هدية، وعفاديا شموئيلي (المحاضر في الجامعة)، وصفاء القمحاوي، صديقة مصطفى وتلميذته في الجامعة، المحقّق، أصدقاء خالد الجوهري، وهم كُثر، وشخصيّات أخرى عديدة. وبهذا تختلف الرواية عن القصّة القصيرة التي تشتمل على عدد محدود من الشخصيّات.
اختار الكاتب لشخصيّات روايته، أسماء رمزيّة لها دلالات تُشبه الى حدّ بعيد الأسماء الحقيقيّة في واقع الحياة. فمثلا اختار اسم القزوينيّين ليدلل على أنّهم جاءوا من منطقة بحر قزوين. وحين أراد أن يشير إلى شخصيّة من الطائفة المسيحيّة، اختار لها اسم سمعان. وقد ذكر المختار بلقبه، الأعرج، وذلك بقصد فضحه وإذلاله حين يناديه. وهذا ما كان يحدث فعلا بين المخبرين وأسيادهم. وقد يكون للكاتب هدف ليطلع القارئ ويحذره من الوقوع في شباك المخابرات كما كان المخاتير في تلك الحقبة وربما ما زالوا الى يومنا هذا.
وقد كنّى عن الدولة العثمانيّة بالرجل العجوز، (ص 100) حيث قال: “وبدأت قوّة الرجل العجوز تتضعضع”. وقال (ص 121): “قام الّذئب الأشقر باستدعاء الذئب الأغبر”، وهذه كناية ووصف لشخصيّات في ذلك العصر قد يصعب على البعض معرفة المراد بها. الذئب الأغبر مثلا، اعتقد أنّه أتاتورك، زعيم الأتراك في تلك الفترة. وقد أجاد الكاتب وأفاد بهذه المسمّيات ليشغل القارئ في التفكير بها ويقتصّ المتعة حين يستدلّ عليها. وهذا ما حصل لي حيث رأيت في ذلك أسلوبا أخّاذاً يُحقّق متعة القارئ.
ويُشير كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لمؤلفه عبد الرحمن الكواكبي، وهو كاتب ومفكر من حلب (صفحة 136)، والذي أعاره أبو صالح لخالد الجوهريّ، يُشير إلى ثقافة الكاتب واطّلاعه على الكثير من المصادر. وأمّا الأسماء الجغرافيّة مثل الدول والمدن والقرى والأماكن المختلفة، فقد كان يختار لها أسماء ذات دلالة تحتاج بعض جهد القارئ للوصول إليها. مثلا: يقول: “ضاعت جوهرة الشرق. قالها بصوت مخنوق”. وقد قصد بها فلسطين. وهو اختيار موفّق لأنّ فلسطين حقيقة هي جوهرة الشرق (ص 102). ويقول أيضا (ص 95): “خلاصتها تمزيق الهلال وافتراس ثرواته”، ويقصد بلاد الهلال الخصيب أو العالم العربيّ. وأمّا مملكة الضباب فهي بلا شكّ بريطانيا التي استعمرته. وكذلك البلد والقرية نور الجليل. ومثل ذلك يُقال في الفترة الزمنيّة المذكورة في الرواية.
ومن بين الأماكن المهمّة التي أوردها الكاتب في روايته، بلدته، قرية نور الجليل، ولا أبالغ أنّ الكاتب حين وصفها (ص 105-106)، ظهر كرحّالة جغرافيّ يزور البلاد ويصفها بأسلوب يعطى القارئ صورة كاملة عنها. مثلا حين قال: “وبعض أطرافها كان مبلّطاً بحجارة مقطوعة من صخور جبالها”. وهذا ما نراه شاهدا حتى اليوم في كثير من شوارع بعض القرى والمدن في فلسطين.
ولا يُغفل الكاتب حالة الناس الاجتماعية في القرية فيقول (ص 108): “كان خالد الجوهريّ طفلا صغيرا يتجوّل في أزقة القرية مع أترابه بملابس رثّة وأنفٍ جفَّ حول فتحتيه المخاط …”، وهو وصف دقيق جميل التعبير يصف فيه حقيقة حال الأولاد الصغار في القرية في ذلك الوقت. وهذه الحالة قد يكون قد سمع عنها من والديه أو جدّيه. وإن لم يكن قد عايشها الكاتب هيبي فقد تخيّلها، وهنا يتجلّى اهتمامه بعنصر الخيال في الرواية. والأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ فهناك الكثير من الوصف للحالات المعيشيّة والاجتماعيّة التي أجاد الكاتب في وصفها بحيث يجعلك تعيش تلك الفترة من الزمن. وهنا تتجلّى براعة الكاتب في دقّة الوصف واختيار الألفاظ والكلمات المناسبة للدلالة على الفكرة التي يتناولها ويسهب في طرحها. مثال ذلك عندما يصف حالة الفلاح وتعلّقه بأرضه وقد يهدف بذلك إلى تربية أجيالنا القادمة للتعلّق بالأرض وتُحافظ عليها، حيث أنّ الأرض هي لبُّ الصراع الذي أراد الكاتب أن يوضّحه للقارئ ليحثّه على التمسّك بها.
كما أنّ الكاتب أجاد في وصف الفترات الزمنيّة الممتدّة على طول قرن وأكثر من الزمن. ففي (ص 152) يصف حالة القرية الفلسطينيّة أيّام الحكم التركيّ، وما لاقاه الفلاحون من قسوة الأتراك واستعباد الوالي للمزارعين. يقول: “حين يغضب الوالي وجنوده من الفلاحين، يجمع ما في بيوتهم من مؤن يأخذ بعضها ثم يجمع ما تبقى ويخلطه في كومة واحدة …”. وهذا الوصف ينقلك الى تلك الفترة فتتفاعل مع أحداثها فتعيشها وتتألم لألم أهلها ما يُؤكّد براعة الكاتب في الوصف.
تمتدّ الرواية على فترة زمنيّة طويلة، من زمن الأتراك إلى الحرب العالميّة الأولى وانتهاء الرجل المريض، الدولة العثمانية، إلى الانتداب البريطاني ووعد بلفور، إلى الحرب العالمية الثانية وقيام الدولة العبريّة كما يسميها. وبعد قيامها واستمرار كلّ الأحداث التي جرت حتى أيامنا هذه، أي إلى أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.
تسرد الروايّة الأحداث السياسيّة من نهاية وزوال الدولة العثمانية، الرجل المريض، والصراع السياسيّ معها، والحالة الاجتماعيّة خاصّة فترة السفر برلك، حيث ذكر “الفراري”، وهو الفارّ من التجنيد العسكريّ القسريّ الذي فرضه الأتراك.
وتتحدّث الرواية أيضا عن بريطانيا والصهيونيّة ومؤتمر بازل وبداية التفكير بإنشاء وطن قومي لليهود، ثم وعد بلفور والانتداب البريطاني، والحرب العالمية الثانية. يقول الكاتب: “قبل تسليم الرسالة قرأ فيها: صاحب الجلالة ينظر بعين العطف إلى إقامة وطن للقزوينيّين في جوهرة الشرق” (ص 128). ومن هنا فالكاتب يُقدّم في روايته حقائق تاريخيّة لا بدّ لكلّ قارئ أن يعرفها.
كما أنّ في الرواية طرحا سياسيّا بامتياز، يظهر فيه انحياز الكاتب إلى بلاده، جوهرة الشرق. ويظهر الطرح السياسيّ على لسان شهرزاد حيث قالت: “ليس هناك وقاحة تفوق وقاحة ملوك بلاد الضباب إلّا وقاحة القروينيّين أنفسهم” (ص 129). وهنا يُظهر انحياز ملوك بلاد الضباب للقروينيّين، ويقول أيضا: “اجتمع وزيران سرّاً قبل نهاية الحرب الكبيرة، واحد من مملكة الضباب (بريطانيا) وآخر من جمهورية البرج الحديديّ (فرنسا)” (ص 130). وفي ذلك إشارة إلى حقيقة تاريخيّة تتمثّل بمعاهدة “سايس بيكو” وعملية الاتّفاق بين المستعمِرين على تقسيم العالم العربيّ. وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ الرواية رواية تاريخيّة في نواحٍ عديدة يُوثّق الكاتب أحداثها بأسلوب روائي شائق ماتع.
وحول وعد بلفور يقول الكاتب: “في صحيفة أحضرها صديقه سمعان الصايغ (دور المسيحيّين في الصراع مع الاستعمار على جوهرة الشرق)، لم يذكر (الوعد) شعب جوهرة الشرق كمواطنين أصحاب حقّ فيها كوطن لهم وإنّما ذكرهم كسكان أو رعايا لهم حقوق مدنيّة ودينيّة فقط”(ص 131). وهذا يؤكّد اتّفاق الوزيرين حول الوعد المشؤوم الممنوح للقزوينيّين، ما أكّد لخالد الجوهريّ بعد قبول الوعد في عصبة الأمم، أنّ العالم كلّه مشارك في المؤامرة، وهي الموضوع الرئيس الذي يريد الكاتب إثباته في كلّ فصل من فصول روايته.
استعمل الروائيّ، هيبي، أسلوب التشويق فكان يمزج مع الحقائق التاريخيّة والسياسيّة وصفا لحالة الطبيعة وما يدور حوله لكيلا يملّ القارئ بين الحين والآخر، وليكون وصفه ممتعا شائقا أخّاذاً. فنجده مثلا بعد مقتل أبيه يقول على لسان خالد الجوهري وهو على صخرة الشاطئ التي كثيرا ما يتردّد إليها ويذكرها في خلواته: “الشمس بقرصها الأحمر الكبير الذي يسيل كالدمّ في الأفق قبل أن تدفنه في حضن البحر البعيد” (ص 137). ما أجمل هذا الوصف وهذا التشبيه الرائع!
استعمل الكاتب في روايته أسلوب “ألف ليلة وليلة” ووظّف شهرزاد وشهريار للانتقال من موضوع إلى آخر حتى لو لم يكن بينهما رابط، وذلك بطريقة: “وفي الليلة التالية وبدون مقدّمات، قالت شهرزاد لمولاها …” (ص 153)، وهكذا ليسهّل على القارئ الانتقال من موضوع الى آخر. وقد ظهرا ذلك جليّاً في كثير من صفحات الرواية.
يقول مثلا: “إنّ حكومة جلالته ستطبّق ما وعدت القزوينيّين به بحذافيره مهما كانت الظروف، ليس إيمانًا منها بحقّهم وعلاقتهم التاريخيّة بجوهرة الشرق كما يدعي البعض ولكن تحقيقاً لأهدافنا الاستراتيجية القريبة والبعيدة وحفاظاً على مصالحنا في المنطقة وفي مناطق أخرى من العالم نحتاج الى تأمين الطرق اليها” (ص 166). وهنا يظهر أنّ من أهداف الكاتب في روايته، إطلاع القارئ على أهداف الاستعمار البريطاني في المنطقة ونظريّة المؤامرة التي يتّبعها وكيفيّة تحقيقها.
ويعود الكاتب إلى وصف القرية مرّة أخرى بأزقّتها ومسجدها وكنيستها ويسهب في وصف الكنيسة وما فيها من تماثيل وصليب ضخم يفتح يديه إلى السماء والصليب يعلو المذبح والى يمينه ويساره تمثالان للسيدة البتول” (ص 169). من هذا الوصف تتأكّد أيّها القارئ أنّ الكاتب إمّا أنّه رأى ذلك بأمّ عينه وعايشه، أو أنّه سمعه أو قرأه في مصدر ما، ممّا يدلّ على اطّلاع الكاتب على الجانب التاريخيّ والدينيّ والاجتماعيّ. كما أنّ ما قاله في الصفحة نفسها، ينطبق تماما على بلدنا كفر كنّا حيث يعيش فيها المسلمون والمسيحيّون جنباً الى جنب والجامع يعانق الكنيسة ويُسمع الأذان يصدح مع أجراس الكنيسة حيث يشتركان في توحيد الله.
ويصف الكاتب كذلك الحالة العاطفيّة بين فتاة وشابّ ويشبّه الفتاة بحوريّة البحر التي ستأتي مع شروق يوم جديد (ص 190). وهو هنا يُقدّم تصويرا دقيقا ورائعا لما كان يحلم به كلّ شابّ وفتاة في القرية.
ويمزج الكاتب بين السرد التاريخيّ ووصف الحالة الاجتماعيّة، في تتبّعه لمراسيم الخطبة في ذلك الوقت (ص 214). الوصف رائع يُعيد القارئ إلى تلك الفترة ويجعله يتفاعل معها وكأنّه يعيشها، وذلك بأسلوب حوار فيه إسهاب لمجريات الأمور لا يجعل القارئ يملّ من القراءة.
ثم ينتقل الكاتب للحديث عن ثورة 1936 وثورة عزّ الدين القسام، أو ثورة سرّ الدين الجبلاويّ كما يُسمّيه الكاتب. يقول الكاتب على لسان سمعان، إنّه سمع الشيخ الجبلاويّ (القسام) يصيح بالناس في إحدى خطب الجمعة، بألّا يبيعوا أرضهم للغرباء، يعني اليهود، وفي ذلك تحذير من الكاتب للقراء أن ينتبهوا ويحذروا ما وقع فيه أسلافهم (ص 215). ويذكر أنّ سمعان، صديقه المسيحيّ، قال: “نسيت يا صديقي أنّني مسيحيّ وحضرت خطبة الجمعة وسمعت الخطيب الشيخ الجبلاويّ يحذر من بيع الأرض للغرباء” (ص 216). وهذا إن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المسيحيّين قد انخرطوا وأبلوا بلاء حسنًا في الثورة والدفاع عن وطنهم، جوهرة الشرق. وهذا ما أراد الدكتور محمد هيبي أن يُؤكّده ويوصله إلى القارئ، ضرورة وحدة الشعب آنذاك واليوم.
جميع المواضيع في هذه الرواية تدور حول موضوعها الرئيس وتصبّ فيه، المؤامرة والسياسة. ولذلك لا غرابة في أن ينتقل الكاتب في الزمن إلى مرحلة أو موضوع آخر مثل علاقة البطل، مصطفى، بالشابّة صفاء القحماويّ، وهي شابة مثقّفة في آواخر العشرينات من عمرها طلّقت زوجها بعدما كشفت علاقته بالمخابرات (ص 295). ويعود الكاتب (ص 337)، ليظهر ككاتب عالم ببواطن الأمور، خبِر التاريخ والسياسة على امتداد زمن الرواية، فيظهر لنا ليس ككاتب روائيّ فقط، بل ساردا للتاريخ سرداً تحليليّا عميقا جدّا.
ويتعرّض الكاتب إلى سقوط البلاد ومنطقة الناصرة (حرب التحرير كما يسمّونها)، ويشرح الأسباب المتمثّلة بقلّة العتاد ونفاذ الذخيرة، والأهمّ بخيانة الزعماء التي يُلخّصها بالجملة المشهورة “ماكو أوامر” (ص 332-333). كما يتعرّض أيضا لثورة الضباط الأحرار عام 1952 في مصر إذ يقول: “نسي خالد ما كان يفكر به حول المؤامرة واستمرارها وعدم القدرة على مواجهتها، وفكر في نفسه أنّ الظلم لا يدوم والعدالة، كما قال جدّه، قد تتأخّر كثيراً ولكنّها لا تغيب إلى الأبد … أثلج صدري هذا الخبر … ما كان أحوجنا الى مثله” (ص 378). ويُتابع: “هل تعرف ما معنى أن ينتقل بلد النهر الخالد من حكم يساندهم ولو في الخفاء، إلى حكم يعاديهم في العلن؟” (ص 379). وقد وُفّق الكاتب بالتسمية، “بلد النهر الخالد” ويعني به مصر. وكذلك في استعماله للتعبير، “الزعيم الأسمر”. “كان صوت الزعيم الأسمر يحمله على أجنحة الأمل …” (ص 383)، وقد قصد به الرئيس جمال عبد الناصر. كما يستعرض العدوان الثلاثيّ أو حرب الـ 1956 ويقيّم الثورة في مصر بأسلوب سردي تحليليّ موفّق (ص 384 و385). ومن خلالها ينتقل إلى جرائم القزوينيّين ومجازرهم في جوهرة الشرق، إذ يذكر مجزرة كفر قاسم التي جرت في الوقت نفسه، ويذكر دور الحزب الشيوعيّ في الكشف عنها بعد ما فرضته السلطة من تعتيم (ص 387). وبعدها ينتقل الى نكسة 1967، ويتعرض إلى وفاة زعيم بلد النهر الخالد 1970. ثم يستعرض فترة ما بعد موت الزعيم الخالد وانتقال الحكم إلى خليفته الذي باع القضيّة وقبض ثمنها (ص 492). يُحلّل الكاتب تلك الفترة تحليلا يظهر براعته في معرفة الحقائق وبواطن الأمور إذ يستعمل تعبيرا لا يعرف معناه إلّا من عاصر تلك الفترة، أو كبار السنّ اليوم: “هل كان حلمه أن يجعل بلده شرشوبة خُرج يلوح في ذيل حمار مملكة الرّب؟” (ص 408). وهنا يُشير إلى خضوع الدول وعلى رأسها الولايات الغربيّة (أمريكا) للأيدي الخفيّة كما يسمّيها، وأظنّه يقصد بها الصهيونيّة العالميّة (ص 394).
يقول الكاتب: “الروايةُ تاريخ من لا تاريخ لهم”، وذلك لأنّه من خلالها يستطيع الوصول إلى كلّ الفئات الاجتماعية، لذلك نراه مثلا يصف الصلاة في المساجد التي يستغلّها الجواسيس، وذلك للتنبيه وتحذير القرّاء منها اليوم، كما أظنّ الكاتب يُشير إلى ضرورة التمييز بين من هو صادق ومن هو مزيّف ومأجور (ص 449 و460). وكذلك يستطيع الوصول بالسرد إلى كلّ الحقب التاريخيّة كمؤشّرات ومراحل للمؤامرة التي ينفي عوفاديا وجودها (ص 439). وأظنّ أنّ هذا هو السبب في اختيار البطل، مصطفى، مساقا في الجامعة أسماه: “الرواية والتاريخ”، لينقل لطلابه أفكاره حول المؤامرة دون مساءلة، وليثبت أنّ الصراع بين العرب وإسرائيل هو صراع بين العرب والصهيونيّة خلقه الاستعمار ليستكمل به مؤامرته على العالم العربي والعالم كلّه.
ويعود الكاتب إلى الجانب العاطفي حيث أنّ العاطفة هي واحد من مقومات الرواية، فكان موفّقا في حديثه عن العلاقات العاطفية بين البطل وحبيبته أو غيرها من النساء حيث يقول مثلا: “… وأغمضت هي عينيها منتشية بحرارة جسده التي بدأت تتسرب الى جسدها”. وغيرها من الجمل التي تصف التفاعل العاطفيّ من فعل وردة فعل (ص 485). وبلغة حبّ تتدفّق عاطفة يصف ما دار بين البطل وحبيبته صفاء: “تركت يديها لتنام بين يديه … كأنّهما لم يجتمعا إلّا لقطف تلك اللحظات المترعة بالحبّ” (ص 501). لغة راقية ووصف أخّاذ لا يملّ القارئ منهُ.
ومن المواضيع المهمّة التي يُشير إليها الكاتب، أسرلة المواطنين عن طريق مناهج التدريس إذ يقول على لسان المحقّق: “المطلوب منك أن تساعدنا في بناء المنهج الجديد أن يكون أقلّ ساعات، ومنهجا لا يوجد فيه شعر المقاومة”(ص 493).
وينتقل الكاتب الى شخصيّة أخرى ومكان وزمن آخرين. المكان والزمان في الطائرة أثناء سفر مصطفى لحضور مؤتمر حول الرواية، وهناك يلتقي بسيدة تقول له: “أنا سوزي، أمريكيّة” وقد جلستْ بجانبه بدون استئذان (ص 498). وأظنّ أن الكاتب لا يُوظّف هذا اللقاء لإشباع رغبات البطل الجنسيّة، بل ليُحيلنا إلى مجمل العلاقات السياسيّة الأمريكية وموقفها المجحف من القضيّة الفلسطينيّة.
وهذا المزج بين الأسلوبين: العاطفيّ والسياسيّ (ص 505)، أرى فيه دائما تمهيدا للانتقال إلى السياسة حيث يصل السرد الى سنوات الـ 90 من القرن العشرين. يقول: “كانت جيوش الولايات الغربيّة (أمريكا) في طريقها مرّة أخرى إلى مدينة المنصور (بغداد)، قلب بلاد النخيل” (ص 512). وهنا يُشير إلى الاحتلال الأمريكي للعراق.
وحين يصل الكاتب الى نهاية الرواية يقول على لسان بطلها، مصطفى، مخاطبا جدّه: “أنت الباقي والمؤامرة وأصحابها إلى زوال وحركة الليل قريبا ستنجلي وسنصحو أنا وأنت وصفاء ومعنا جميع أحفادنا وكلّ الجوهريّين والمظلومين، سنصحو مع إشراقة جديدة في صباح يوم جديد و…” (ص 523). وهنا يظهر جليّا تفاؤل الكاتب ورفضه لليأس مهما طال الزمن، لأنّه يرى أنّ النهار سيطلع لا محالة، ولهذا أنهى روايته، “النهار بعد ألف ليل”، بفقرة جميلة يبلغ فيها قمّة التفاؤل حين يقول: “وحتما سيأتي النهار ولو بعد إلف ليل”.