!قراءة في باكورة أعماله الروائية
د. محمد هيبي
أهداني الكاتب فادي أبو شقارة، باكورة أعماله الروائية، “رهين الجسد”، رواية تمتّعت بقراءتها، فهي رواية تتمتّع بقسط وافر من الجمال، لتماسكها من حيث شكلها وبناؤها وجرأة مضمونها. ويكفيك فخرا يا فادي، أنّني أثناء قراءتي، شعرت أنّني أنا المعاق ولست أنت. نحن جميعا، بشكل أو بآخر، رهناء أجسادنا. ولكن لسنا جميعا قادرين على الانطلاق بفكرنا وأرواحنا كما فعلت أنت. السجن بلا جدران، قد يكون أقسى ألف مرة، من السجن بين الجدران وخلف القضبان. فقد شعرت أثناء قراءتي، كم أنت قادر على الانطلاق، بينما كنت أنا مُقعدا رهين جسدي وروايتك”. وعليه، فأنا أجد في “رهين الجسد”، رواية جريئة كشفت عُرينا وفضحتنا، نزعت الأقنعة عن وجوهنا وازالت الألوان المزيّفة عن وجوهنا الممكيجة.
“ما الإنسان؟”، سؤال فلسفي حيّر الكثيرين، وأهمّهم الفلاسفة والأدباء. لأنّ الأدب لا يكون إنسانيا إن لم يبحث عن إجابة له. وفلسفة رواية “رهين الجسد”، أنّها حقّقت أدبيتها وإنسانيتها بمُساهمتها الجادّة في الإجابة عن هذا السؤال. فهي قصة الإنسان العاجز أمام الطبيعة، وليس بالضرورة جسديا، وشغله الشاغل أن يبحث عن سبيل للخلاص من عجزه. وهذا ما يقوم به فادي الذي بدأ في مرحلة ما، بعد ولادته، يعي معاناته، ليس بشكل ذاتيّ من خلال إعاقته فقط، وإنّما من خلال علاقته بالآخر وما سبّبته تلك الإعاقة للآخرين من ألم وصراع ومعاناة. خاصة أولئك الذين تعالوْا فوق جراحهم، ووقفوا منتصبين أمام قدرهم، يُضحون بكل نفيس، ماديّا ومعنويا، ليلبّوا لفادي ولبطل روايته، احتياجاته، لا ليخفّفوا من عجزه ومعاناته فقط، وإنّما ليقنعوه: أنت مثلنا ولا تختلف عنّا، أنت رهين جسدك ولكنّك لست عاجزا. وهي قصة الإنسان، الذي مهما ضاقت به الدنيا، لا يستطيع أن يتخلّى عن إنسانيته، فيبحث عن سعادته في سعادة أخيه الإنسان. كم كان بوسع الأب والأمّ والأخ والأخت، أن يتخلّوا عن ذلك المولود المنذور لشقائه وشقائهم، وأن يتخلّصوا منه أو يتركوه لقدره في المستشفى؟ أوليس هناك من فعلها استسلاما لإنسانيته العاجزة؟
وكم كان بوسع الأصدقاء والزملاء كذلك، أن يتخلّوا عن ذاك الصديق المعاق الذي يُقيّد حركتهم بقيد حركته الذي لا ذنب لهم فيه؟ ولكن لا شيء استطاع أن يُقيّد مشاعرهم الإنسانية، بل زادها تدفّقا لتُترجَم أعمالا، أقلّ ما يُمكن أن يُقال فيها: إنّها التضحية الإنسانية التي لا هدف لها إلّا سعادة الإنسان وتخفيف معاناته. تلك هي متعة التضحية التي تكره العجز الإنساني، ولا تألُو جهدا للخلاص منه. هذا هو الإنسان، الذي يبحث عنه الأدب في دواخلنا، ليحرّرنا ويحرّر الإنسان عامة. ولذلك، تجيء هذه الرواية، فعلا إنسانيا يحمل هدفيْن سامييْن على الأقل: الأول تحرير كاتبها من نير إعاقته، والثاني وربما الأهمّ، تحمل اعترافه بفضل أولئك الذين غمروه بإنسانيتهم وحدّوا من معاناته.
سأتوقف ما استطعت في هذه القراءة السريعة، عند عتبات النصّ وعناصر مبناه. كل ما يسبق النص، من الغلاف حتى بداية النصّ، نعتبره عتبة من عتباته. وكلّها ملامح ميتاقصية، من أبرز أهدافها هو أنّ إعلان الكاتب للقارئ: أنا موجود في النصّ، ولي صلة وثيقة بكل ما يحدث فيه. وقد أتيتُ بهذه العتبات والملامح الميتاقصية لتفضح وجودي.
العتبة الأولى هي لوحة الغلاف، لوحة فاضحة، سواء أرادتها مصمّمة الغلاف كذلك، أم لم تُردها. مضمون الصورة والألوان فيها يتقاطع مع ما جاء في النصّ وفي عتبات أخرى، العنوان والعتبتين (ص 9 وص 11).
في لوحة الغلاف، شخص بلا ملامح، تفضح إعاقته العربة التي يمتطي صهوتها، أو الـ “وينجز”، كما يُسميها الكاتب في النص. وإلى يمينه، أشخاص بلا ملامح أيضا، يُصفّقون، بينما الخلفية، أشجار سوداء يابسة يتخلّلها لون برتقالي يُحيل إلى النور الذي سيُبدّد السواد والظلام. أعتقد أن مصمّمة الغلاف، وسواء كان ذلك من خلال فهمها للنص، أو من خلال معرفتها بالكاتب، فهمت نفسيته، أو نفسية الراوي والبطل، بما فيها من سوداوية بدّدها ذلك الدعم الذي يُحيل إليه التصفيق من أناس معروفين وغير معروفين، لذلك تركتهم مصمّمة الغلاف بلا ملامح.
العتبة الثانية، عنوان الكتاب، “رهين الجسد”، فاضح أيضا. كأنّ الكاتب يصرخ هذا أنا. وحتى القارئ الذي لا يعرف فادي، قد يُحيله العنوان مع لوحة الغلاف إلى أنّ الكاتب من ذوي الإعاقة. ومهما كانت قدرة القارئ على الملاحظة قليلة، لن يعجز عن فهم ذلك، أو التفكير فيه على الأقلّ.
والعتبة الثالثة كذلك فاضحة. تصريح الكاتب حول الرواية: “أيّ تشابه بين الشخصيات الواردة في القصة وأيّ شخصية على أرض الواقع هو محض صدفة.. أو لعلّها مقصودة.. أترك لكم الحكم” (ص، 9). العبارتان الأخيرتان، “أو لعلّها مقصودة.. أترك لكم الحكم”، أي للقارئ، تُؤكّدان ما أكّدته لوحة الغلاف والعنوان. هذا أنا، الكاتب، فادي أبو شقارة، أروي قصّتي!
في العتبة الرابعة، يقتبس الكاتب بيت شعر لرهين جسد آخر، الفيلسوف الشاعر، المعرّي:
وردنا إلى الدنيا بإذن مليكنا لمغزىً، ولسنا عالمين بما غزي
المعرّي ينفي عبثية الحياة، ولكنّه عاجز عن فهم أو تفسير ما يدفع عنها تلك العبثية. وفادي كذلك في روايته، ينفي عبثية الحياة التي ظنّها في بداياته، ولكنّه يدفعها عنه بتصوير كل ما ناله من دعم وحبّ من الناس الذين أحاطوه بحبّهم ودعمهم. وفي مرحلة ما، تخلّى عن تفكيره الذي كاد يحبطه، وهو أنّهم يُحبونه ويدعمونه عطفا وإشفاقا بسبب إعاقته.
رواية “رهين الجسد”، مهما حاول فادي الهروب من الاعتراف، هي رواية سيرة ذاتية له. فقد حاول أن يتهرّب فنيّا بواسطة أسماء الشخصيات وتعدّد الرواة وبعض الملامح الميتاقصية داخل النص. ولكنّ ذلك لم يُسعفه، هذا بالإضافة إلى اعترافه، وإن كان جزئيا أو مواربا، حين وافق على غلاف الكتاب، وقال ما قاله في عتبات النصّ. كما ساهم ملامح الميتاقص داخل النصّ أيضا، ولو بشكل غير مباشر، بتقديم دليل على وجود الكاتب في النصّ، حين يقول الأب “لا أرى في انعكاس وجهي في زجاج النافذة بطلا لهذه القصة” (ص 13). وحين تقول الأمّ: “لا اعتبر نفسي بطلة هذه القصة” (ص 19). وكذلك ما تقوله الأخت في الفصل بعنوان “البكريّة”، وهي “مروة” أخت البطل، حين تقف أمام المرآة وتحدّث نفسها: “أنعم النظر بما تبقّى من مروة تلك، أرى الكثير فيها عبر المرآة عدا بطلة لهذه القصة” (ص 24). كل ذلك يطرح السؤال: من البطل أذن؟ الكاتب ومبنى الرواية، يقولان: ستجدونه في الفصول التالية. ومما لا شكّ فيه، هذه الملامح الميتاقصية، وما فيها من أقوال حول البطولة، تستفزّ القارئ وتدفعه نحو متابعة القراءة.
ومما تقدّم، تتبيّن لنا جرأة فادي، الذي لا يتردّد في الاعتراف أمام القارئ، أنّ كاتب الرواية وراويها وبطلها هم شخص واحد. بل تجاوز ذلك إلى ما يهمّه أكثر، نجاحه في كتابة الرواية. وربما الأهمّ من ذلك، هو شعوره وهو يُنجزها، كما حدث في نهاية الرواية، أنّه يقف على رجليه وينتصب في مواجهة الواقع، ويسدّد الدين الذي في عنقه لمن وقفوا معه. وقد نجح بكل المقاييس.
من الناحية الفنية، استطاع فادي بناء حبكة متماسكة لرواية فنية تقوم على تعدّد الرواة ولا أقول تعدّد الأصوات. فصوت الراوي، الأنا الشاهد المشارك المتكلّم، هو الذي يطغى في معظم فصولها، حتى في الفصول التي ترويها شخصية أخرى. وهذا يُظهر إدراك الكاتب أنّ رواية السيرة الذاتية يجب أن تلتزم الأمانة في نقل تاريخ المروي عنه ومن يشاركونه هذا التاريخ. وعليه قول الحقيقة مهما كانت قاسية. نعم … من حقّه أن ينتقي الأحداث، وأن يسردها ويعمل على تخييلها بأسلوب جميل، ولكن بلا تجميل ولا تشويه، إذ لا مجال هنا للاختراع، وإنّما لعرض الحقيقة سواء كانت جميلة أم قبيحة. ويُدرك أيضا، أنّ السيرة الذاتية تدور حول شخصية حقيقية يتطابق فيها الكاتب مع الراوي والبطل، ويغلب فيها الصوت الواحد، صوت الراوي، على بقية الأصوات. ولذا لا يمكننا أن نعتبر “رهين الجسد” رواية بوليفونية رغم تعدّد الرواة فيها. ولكن الكاتب بهذا التعدّد، حقّق ديمقراطية النصّ وأظهر احترامه للآخر، حين منحه حرية السرد. ورغم كل ذلك، لم يُفلح الكاتب بطمس حقيقة السيرة، حيث التركيز في الرواية على إعاقة الراوي البطل الجسدية المطابقة تماما لإعاقة الكاتب.
الزمن في رواية “رهين الجسد” يقوم على التذكّر والاسترجاع وغيرهما من تقنيّات تيار الوعي، مثل التداعي والمنولوج والحلم. ولكنّ زمن الحكاية، أو زمن الإعاقة، موضوع الحكاية، كما في السيرة الذاتية، يسير غالبا بشكل أفقي، حيث يُحدّثنا الراوي عن إعاقته وأثرها عليه وعلى من يُحيطون به من أقاربه وجيرانه وأصدقائه وزملائه الطلاب، ملتزما بالمراحل الزمنية المختلفة التي قطعها منذ ولادته حتى سنّ الثامنة عشرة، وفي كل مرحلة عوامل خوفها الذي يتجلّى كصراع داخلي لدى البطل، يوازيه صراع خارجي مع الآخر ومع الزمن. وقد ظهر هذا الصراع من خلال السرد وما فيه من بوح صادق في مونولوجات أحسن الكاتب توظيفها.
الحدث المركزي في الرواية هو ولادة طفل معاق. وكل الأحداث الأخرى تتولّد عنه وتتناسل منه وتدور حوله. تعيش معظم الشخصيات، وخاصة أفراد الأسرة، صراعا داخليا يدور في البداية حول كيفية التعامل مع الوافد الجديد، المولود المعاق، ومن ثمّ حول كيفية تغيير المسار أو الواقع الذي يعيشه، آخذين بعين الاعتبار إعاقته وصعوبة التعامل معها، أو معه بسببها. ولقد انعكست في ذلك، قدرة الإنسان على التحمّل والتضحية كفعل إنساني صادق ومخلص، يدفع هو بنفسه إليه دون أن يدفعه أحد. ولذلك ليس عبثا أن أول وأهمّ من أسند إليه هذا الدور هما الأب والأم الذين لا أحد يقدر على أخذ مكانهما أو ملء الفراغ إذا لم يقوما بدورهما. بعدهما فقط جاء دور الإخوة والأصدقاء. ومن خلال هذه الأدوار، حدث التفاعل الإنساني بين الشخصيات، كفعل ثنائي الاتجاه، متبادل، وهو ما يجعل التأثّر والتأثير بين شخصية البطل وسائر الشخصيات متبادلا أيضا.
أمّا فضاء الرواية فقد تعدّدت فيه الأماكن، من البيت إلى المدرسة إلى الـ “وينجز” (العربة التي يستعين بها الراوي في تنقّله وتحرّكاته)، وهي أكثر ثلاثة أمكنة تشغل حيّزا مؤثّرا في فضاء الرواية وتؤثّر على نفسية الراوي/البطل. وإذا كان الآخرون هم الذين أوجدوا له “الوينجز” في الواقع، إلّا أنّه هو الذي أوجدها في الرواية، لتضع حدّا لعجزه الجسدي، ما يُبين إصرار فادي، في الواقع وفي الرواية، على تجاوز الإعاقة والانطلاق فكرا وروحا، وجسدا أيضا. ومن هنا ليس عبثا اختار لها الاسم “وينجز” (اجنحة).
وإذا كان لا بد أن نتحدّث عن الشخصيات، وعن ألـ “وينجز” التي هي جزء من المكان، نقول بكل ثقة أن الكاتب استطاع هنا أن يُحوّل المكان إلى شخصية من شخصيات الرواية، فقد أنسنها وأعطاها القدرة على التحرّك، فلعبت دورا في حياته لا يقلّ عن أدوار بعض الشخصيات الأخرى، إن لم يفقه. فهي لم تكن تحمله وتنقله فقط، بل حملته وحمته وأنقذته من مواقف ما كان ليعرف كيف سيتصرّف فيها لولا وجودها.
وقد رسم لكل شخصية دورها الذي يُؤثّر سلبا أو إيجابا، على شخصية البطل ومسار تطوّرها، بالقدر الذي يليق بها وبتأثيرها عليه. وهذا ينطبق على كل الشخصيات، سواء أعطاها الكاتب حقّ الكلام المباشر، أو نقل هو كلامها بشكل غير مباشر. وبالطبع، ليس عبثا أنّه أولى أفراد العائلة، الأب والأم والأخ والأخت، اهتماما خاصا، وأفرد لكل منهم أكثر من فصل في الرواية. وأعطى لكل منهم حرية السرد في فصله ومن منظوره، ولكن وفق منظور الراوي، فإنّ صوته كان هو الطاغي. ولكن ظنّي انّه لم يفعل ذلك بقصد الهيمنة على الشخصيات وإنّما بقصد تكريمها وتقديرها والاعتراف بأهمية دورها. ذلك لأنّ كل واحد من الأشخاص الأربعة، لعب دورا حاسما ومميّزا في حياة البطل.
يبدو دور الشخصيات أيضا، من خلال الحوار الحيّ الذي أحسن الكاتب توظيفه باللغة التي تليق به. فلغة الرواية تأتي على مستويات متعدّدة، بين الفصحى في السرد والعامية في الحوار، حيث لغة الحوار تُطابق الشخصيات ومكانتها الاجتماعية والثقافية. وتعكس كذلك، وبشكل يدعو للإعجاب، كل العناصر التي تتركّب منها ثقافة الكاتب الواسعة: لغة القرية والتراث المتداول فيها، لغة التكنولوجيا الحديثة وما توصلت له من أجهزة وألعاب إلكترونية مختلفة مارسها البطل، ولغة مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها، ولغة السينما والتلفزيون والأفلام والمسلسلات الكثيرة التي شاهدها، وأخيرا، لغة الكتب الكثيرة التي قرأها بنهم.
يقول الناقد المصري يوسف الشاروني “القصة القصيرة تشبه دوامة على سطح النهر، بينما الرواية تُشبه النهر كلّه”. ووفقا لرواية فادي، أرى أنّها قد تشبه النهر، وقد تشبه مقطعا يطول أو يقصر منه، وذلك لأنّ القارئ في نهاية الرواية، يخرج وهو يشعر أنّها لم تنتهِ، وأنّ خطّ سير الشخصية لم يتكامل، وإنّما توقّف أو أبطأ لاتّخاذ مسار جديد. وهنا يأتي دور النهاية المفتوحة التي لا يُحيل الحلم فيها إلى التفاؤل فقط، وإنّما إلى الفرح بالإنجاز، وإلى الامتداد الذي يعدنا فادي بأنّه سيأتي.
يرسم الكاتب لكل شخصية خطّ سيرها الخاص بها، وهذا الخطّ يلتقي بالضرورة ويتقاطع مع خطوط أخرى لشخصيات أخرى. وخطّ سير شخصية البطل في رواية “رهين الجسد”، يُشبه جدولا صغيرا في منحدر، تكوّن من التقاء رافدين رئيسين مهمّين، هما الأب والأم. وسرعة التدفّق في هذا الجدول تُحدّدها كمية الماء التي ترفده بها الروافد الأخرى. ولذلك نرى أنّ حركة الماء في الجدول تزداد سرعتها كلما التقى مع رافد آخر. وهكذا هو الأمر بالنسبة للحركة الدرامية في الرواية، تزداد كلما التقى البطل بشخصية أخرى. وهذا ما حدث عندما التقى خطّ سير شخصية البطل بروافد أو بخطوط سير شخصيات الأخ والأخت والأصدقاء وغيرها من الشخصيات. وهذا التّدفّق السريع، ينعكس أيضا على لغة الرواية، فهي رغم أنّها لغة جميلة وتتلاءم في السرد مع الجوّ العام للرواية، وفي الحوار مع طبيعة شخصية البطل والشخصيات الأخرى، إلّا أنّها في كثير من الأحيان، تفتقر للعمق. والأمر لا يبدو غريبا، بل مطابقا للجدول الذي تحدّثت عنه، فمهما زاد تدفّقه يظلّ الجدول يفتقر للعمق. وهذا مطابق للفترة الزمنية التي اختارها الكاتب زمنا للرواية، فترتي الطفولة والمراهقة، إذ مهما كانت الأحداث متسارعة في الحياة في هذه الفترة، ومهما تناسبت الحركة الدرامية للرواية معها، إلّا أنّ الإنسان مهما كان ذكيا في هذه الفترة، يظل تفكيره سطحيا يفتقر للعمق. وهذا يلفت الانتباه إلى النهاية المفتوحة للرواية. ويذكرني بقول جبران عن السعادة في الحياة التي يُشبهها بالنهر:
ومـــا السـعادة في الدنـيا سـوى شـبحٍ يُرجى فإن صارَ جسماً ملّهُ البشرُ
كالنهر يركض نحو الســــهل مكـــتدحاً حـتى إذا جاءَهُ يـبـطــي ويـعـتـكــرُ
وهكذا هي الحياة، قد تُبطئ أحيانا وتعتكر، ولكن إلى حين، لأنّ الإبطاء والاعتكار، قد يكونا نهاية مرحلة ننطلق منها نحو مرحلة تالية. وهذا تذكير للكاتب الذي أراه كتب جزءا من الرواية، إن فكّر بجزء آخر، أقول له: جاء دور جريان النهر في السهل، حيث الهدوء والعمق بعد السطح والاعتكار، الهدوء الذي يُحيل إلى التروّي والعمق، والعمق بلا شكّ، يتطلّب قدرة أكبر على الغوص، في بحر اللغة وأسرار الرواية.
وختاما، وبلا أيّة مجاملة، فادي أبو شقارة كاتب وروائي حقّق في أولى غزواته، نصرا مبينا ونجاحا باهرا. و”رهين الجسد”، رواية تستحقّ القراءة والدراسة بجدارة، تستحقّ كل ما كُتب وما سيكتب عنها. فقد ألقت وبجرأة متناهية، حجرا كبيرا في مياهنا الراكدة، وفي مستنقع عاداتنا وتقاليدنا، وفضحت إعاقتنا الفكرية والجسدية معا.