“قراءة في مجموعته القصصية، “مديح لخازوق آخر
د. محمد هيبي
مقدّمة
سهيل كيوان، كاتب عربي فلسطيني من قرية مجد الكروم الجليلية، يعمل في الصحافة، بدأ الكتابة منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، وله أعمال كثيرة في المجالات الأدبية المختلفة، مثل الرواية والقصة القصيرة وأدب الأطفال والمسرح والنقد الأدبي. وله في كل مجال، خاصة في الرواية والقصة القصيرة، أكثر من عمل جدير بالقراءة والدرس. هناك نبذة عن حياة الكاتب وأعماله في مطلع المجموعة التي نحن بصدد الكتابة عنها.[1]
في هذا المقال سوف نتتبّع أعمال كيوان القصصية في مجموعته “مديح لخازوق آخر”، الصادرة في حيفا عن دار راية للنشر عام 2013، والتي أهداها للشاعر الأردني، أمجد ناصر، “إلى الصديق أمجد ناصر … شاعرا وإنسانا” (ص 9)، ربما لصداقة تربط بينهما، ولكن بكلّ تأكيد للتناص بين العنوانين، والتماسا للعذر، أنّه استعار بعض مفردات عنوان باكورة أمجد ناصر الشعرية، “مديح لمقهى آخر”، الصادرة عن دار “ابن رشد” في بيروت عام 1979. وقد يكون التماس العذر نابعا أيضا من استعارة بعض كنائيّات المقهى، تشابها واختلافا، ونَسَبِها أو تحميلها للخازوق الفردي والجمعي الذي يرانا سهيل كيوان، نحن قبائل الهازوكي، قاعدين عليه، كما ورد ذلك في أقصوصته “مديح لخازوق آخر” (ص 46).[2] لأنّ الإهداء في الأصل كان لهذه القصة التي استعار كيوان عنوانها للكتاب، بدليل أنّ الإهداء يتكرّر في مطلعها. فإذا كان أمجد ناصر، في سبعينات القرن الماضي، رأى أنّ المقهى يجمعنا سلبا وإيجابا بأشكالنا وشرائحنا الاجتماعية المختلفة، ولأسبابنا الفردية والجمعية، فكيوان يرى اليوم أنّ الخازوق بأشكاله المختلفة أيضا، يجمعنا كذلك بأشكالنا وشرائحنا المختلفة، حيث أصبح الخازوق رمزا للمقدّس الذي يوحّدنا، ولا وحدة لنا إلّا به. وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فقد يتطلّب الأمر من كيوان، التماسا آخر للعذر لدى الشاعر العراقي، مظفّر النواب، الذي على حدّ قوله في قصيدته، “بحّار البحّارين”، أصبحنا جميعا نستأنس بالخازوق حيث قال:
“خوزق … خوزق
صرخ المصنوعون من الجوع وقام الخازوق الباسل
خوزق … خوزق
هاتوا ملك السفلس
هذا ملك يستأنس بالخازوق
وذلك حزب يتخوزق مختارا
لا إكراه ولا بطيخ بمحض إرادته
يا سيّد … فاحمل سعفتك الآن نبيّا
حرّك بيت العقرب تخرج مكرهة
يا حاكمنا – صاحب طائفة الخلقيّين –
يُوشّي الجُمل الربانية في الشعر بمفردة
يخجل منها المعجم
ماذا أعمل؟!
إنّ أشدّ بذاءات العالم يزداد تألّقها فوق لحاكم”.[3]
فهل قرّر كيوان أن يحمل سعفته نبيّا، ويُحرّك بيت العقرب ويشتبك مع المجتمع بكل شرائحه وأمراضه وأوجاعه، في زمن افتقدنا فيه البطولة، كما يظهر ذلك واضحا في معظم قصص المجموعة إن لم يكن كلّها؟ وهل لأجل هذا احترف السخرية وآثرها على الفنّ، فـ “الانزلاق من حدود القصّة الفنّيّة إلى حدود الطرائف والنوادر”،[4] الذي تخوّف منه إبراهيم طه، قد حدث فعلا في كثير من قصص هذه المجموعة على الأقلّ. وكذلك من الوعي أو اللاوعي، انزلقت البطولة إلى اللابطولة، إلّا إذا اعتبرنا الاشتباك الساخر مع الواقع هدفا معلنا أو غير معلن كرّسه الكاتب لتحقيق بطولته أو بطولة الراوي الذي يتماهى معه في معظم قصصه؟ وهذا ما لا أظنّه! فالكتابة عامة والكتابة الساخرة بشكل خاص، هما أداة وتقنيّة عند كيوان، يكشف بهما ويفضح ويُشوّه أو يبرز المشوَّه، ويُفكّك ليبني، وأشكّ أن يكونا هدفا.
لم أقرأ مجموعات كيوان السابقة، لذلك اعتمد على ما ذكره إبراهيم طه، في أكثر من مقال له حول أدب كيوان بشكل عام، وحول هذه المجموعة وسابقتها، “تحت سطح الحبر” (2005) بشكل خاص، حيث يراه فيهما كاتبا ساخرا سليط اللسان،[5] يلجأ إلى ما سمّاه طه “الأدب المجهري … وهو أدب يُوظّف المجهر كأداة إنتاجية مركزية، أداة لإعادة صياغة الواقع. والمجهر الذي نعنيه (كما يقول طه) هو هذا الذي يستخدم المرايا المحدّبة لتكبير الصورة وتضخيمها إلى حدود التشويه”.[6] وهذا هو أيضا نهج كيوان في مجموعته، “مديح لخازوق آخر”، في قصصها الأربع والثلاثين، التي ينطلق فيها من مجتمعه/مجتمعنا العربي، المحلي والعام، ويشتبك معه بأسلوب لاذع السّخرية، ليس بقصد كشف أوجاعه وفضح عيوبه فقط، وإنّما بقصد تفكيكه وإعادة صياغته من جديد، بشكل يروق للكاتب والقارئ على حدّ سواء. فالقارئ في نظر كيوان هو جزء من هذا الواقع، سواء وقع ضحيّة لعيوبه، أو ساهم في صناعتها، أو كليهما معا.
العناوين والسخرية
يُلاحظ القارئ أنّ سخرية كيوان لا تقتصر على النصّ القصصي، وإنّما تبدأ من عنوانه. عنوان الكتاب، “مديح لخازوق آخر”، وهو عنوان إحدى قصص المجموعة أيضا، ينضح سخرية، بدءا بالفكاهة وانتهاء بالسخرية السوداء التي نكتشف حدودها عند قراءة النص، فقد نضحك في بدايتها، وقد ننتهي إلى الضحك والبكاء معا في نهاية النص، كتعبير عن مدى الألم الذي يُعانيه المجتمع. ولا يختلف الأمر في كثير من عناوين قصص المجموعة، فالسخرية بارزة فيها، يدركها القارئ قبل ولوج النصّ.
كما أسلفت، عنوان المجموعة استعاره مع التحوير المناسب، من عنوان المجموعة الشعرية الأولى، “مديح لمقهى آخر”، للشاعر أمجد ناصر. وإذا كان المقهى يجمعنا لأسباب تتعدّد سلبا وإيجابا، فإن المضحك المبكي، بما فيه من مفارقة، هو أن يجمعنا الخازوق الذي أصبح عُرفا وتقليدا مقدّسا في حياتنا، وقد أصبح هو المقياس لكل ما يملأ حياتنا من نشاطات اجتماعية وغيرها، نتهاداه في الأفراح والأتراح ونجعله مهرا للعروس وهدية نستجدي بها رضى أمّها وأبيها وأقاربها. وأصبح لكل واحد منّا خازوقه، أو مجموعة خوازيقه التي تجتمع لتشكّل الخازوق الأكبر الذي تقعد عليه أمّة قبائل الهازوكي كلّها.
هذه السخرية في عنوان القصة الذي اختاره الكاتب عنوانا لمجموعته، تنسحب على معظم عناوين نصوص المجموعة، وخاصة تلك التي يستعيرها من العامية، أو من عناوين بعض الأغاني المعروفة، سواء أبقاها كما هي. مثل “نبتدي منين الحكاية” (ص 60)، “عيون الألب” (ص 79)، “دقّي دقّي يا ربابة” (ص 84)، أو أدخل عليها بعض التغيير مثل: “أنا والكلاب وهواك” (ص 176)، حيث استبدل العذاب بالكلاب. هذه العناوين وغيرها، تظهر فيها السخرية أثناء قراءتها مباشرة، أي قبل ولوج النصّ. بينما هناك عدد من العناوين لا تظهر فيها السخرية إلّا بعد قراءة النصّ، رغم أنّنا قد نستشعرها إذا كنّا على معرفة ولو قليلة بشخصية الكاتب، مثل “قل مبروك لقبرص” (ص 90)، “قرّرت الزواج بأربع نساء” (ص 97)، “رحيل مناضل كبير” (ص 103)، مع فائق الاحترام” (ص 111) وغيرها الكثير.
يبدو في العناوين التي يختارها كيوان، لجوؤه إلى التناص، كما ظهر ذلك في معظم العناوين التي ذكرتها في الفقرة السابقة. ومن اللافت أنّ التناص في بعض العناوين قد يكون مزدوجا فيه أكثر من إحالة. وقد يكون في ذلك زيادة في إعلان النية على النقد والسخرية.
قصة “مرحبا وأخواتها” (ص 168) يُحيل عنوانها إلى “كان وأخواتها” التي نتعلّمها في دروس قواعد اللغة في مراحل التعليم الأولى. وقد يكون هذا ما رمى إليه الكاتب فعلا، التعليم، لأنّ الراوي في القصة، يُعطينا درسا في قواعد “المرحبا” مع دعمها بأمثلة ناقدة للواقع ساخرة منه. ولكن للحقيقة، ذكّرني العنوان أيضا برواية عنوانها “كان وأخواتها” (1986)، للكاتب المغربي، عبد القادر الشاوي. وهي من روايات السجن، كتبها الشاوي أثناء وجوده في السجن ونُشرت قبل خروجه منه، ولاقت رواجا في الأسبوع الأول لنشرها، ثم تمّت مصادرتها ومنع توزيعها. فيها يروي الكاتب تجربته في السجن ويُضمّنها نقدا قاسيا للواقع السياسي المغربي. كما يوجّه نقدا حادّا لليسار المغربي الذي ينتمي إليه، ما جعلني أرى بعض التشابه في التّوجّه بين الكاتبين، أذ يشتمّ القارئ اشتباك كيوان مع اليسار المحلّي على الأقلّ.
وبالإضافة إلى ما تقدّم، فعناوين نصوص المجموعة، كغيرها من العناوين، بما لها من وظائف وما تحمله من دلالات، هي نصوص موازية، حيث يُحدّد العنوان هويّة النصّ ويُشكّل نواته ومرآته، أو يختزله ويحمل خلاصته. وفي كل الأحوال يحمل العنوان تلميحا إلى بعض أو كلّ ما ينتظرنا في النصّ. ومهما حمل العنوان من دلالات، فقد يكون أهمّها جذب القارئ لولوج النصّ وتفاعله معه.
العلاقة بين الاجتماعي والسياسي في مضامين كيوان.
يقول إبراهيم طه: “إنّ التبئير والتحديق في أوجاع المجتمع، على النحو الذي نراه في قصص كيوان، مرتهن أصلا بعمق هذه الأوجاع، وهي على مسارين اثنين: اجتماعيّ وسياسيّ. وهذا الجمع بين المسارين المذكورين يعني أنّ أدبنا ليس مقصورا على السياسة دون غيرها رغم أهميّتها القصوى”.[7]
رغم صحّة ما تقدّم وبالإضافة إليه، نرى أنّ كيوان يجمع في نصوصه بين عيوب المجتمع وأوجاعه الاجتماعية والسياسية، وبتركيز بارز على السياسي، بحيث يكون المضمون اجتماعيا وسياسيا معا، وإما أن يبدأ اجتماعيا ليتحوّل إلى السياسي ولو في نهاية القصة. ما يشي بأنّ كيوان يُؤمن بأنّ عيوب المجتمع وأوجاعه السياسية، هي التي تُكرّس عيوبه وأوجاعه الاجتماعية وتحول دون شفائه منها.
في قصة “مديح لخازوق آخر”، وبالإضافة إلى ما ذكرته حول عنوانها الذي اختاره الكاتب عنوانا لكتابه، المضحك المبكي، وما يُظهر مدى ألم الذي ينتقل من الكاتب أو النصّ إلى القارئ، هو أنّ أمّة كاملة لم تعد تكتفي أو حتى تُعجَب بخوازيقها المحليّة من صناعة أيديها، فأهملتها وراحت تستورد خوازيقها من الخارج كإشارة إلى عيوب تحوّل المجتمع من منتج إلى مستهلك، ومن مستقلّ إلى تابع. تبدأ السخرية بشكل طبيعي متوقّع من مجرد الحديث عن الخازوق، ثم تأخذ شكلا آخر مثيرا للضحك، عند الحديث عن التقاليد الغريبة لقبائل الهازوكي، وعن دور الخازوق الذي أصبح مقدّسا في حياتها. والقارئ حتى هذه اللحظة يظنّ أنّ هناك مثل هذه القبائل البدائية، ربما تعيش في غابات أفريقيا أو غيرها، وربما يذهب القارئ للبحث عنها في المصادر المتاحة قبل الانتهاء من قراءة النصّ، كما فعلت أنا ولم أجدها. ولكن يحدث التحوّل في ذهن القارئ في الفقرة الثالثة قبل الأخيرة، حيث الحديث عن تصنيع الخوازيق وتجارتها، إذ يُهمل أفراد القبيلة صناعة الخوازيق المحلية التقليدية، وتدخل الصين والهند وحتى المستوطنات الإسرائيلية في الأرض المحتلة، كأسواق محتملة، تفرض علينا ترك خوازيقنا واستيراد خوازيقها. المشكلة بدأت كمشكلة اجتماعية واقتصادية مقلقة، إلّا أنّ قلق كيوان ينتج أكثر عن تدخّل السياسة التي تُجمّل المشكلة في الظاهر، بينما هي في الحقيقة تكرّسها وتعمّقها. حدث التحوّل من الاجتماعي إلى السياسي، من خلال ذكر المستوطنات الإسرائيلية وقمة “شرم الشيخ” وما يتحمله الفرد والمجتمع بسببهما. فخوازيق (منتجات) المستوطنات الإسرائيلية لا يُمكن أن تكون مقبولة، بل مفروضة، وقد تُساهم قمة جبل الشيخ وغيرها في تسويقها في العالم العربي، حامي حمى القضية الفلسطينية وقبائل الهازوكي!
هذا التحوّل في المضمون، يتكرّر في نصوص كيوان، لدرجة أنّه يبدو كظاهرة. ويحدث عادة من الخاص إلى العام (من الأنا إلى الـ “نحن”) أو من الضيّق إلى الواسع (فضاء الحارة والقرية إلى فضاء الدولة والعالم)، أو من الاجتماعي وغيره إلى السياسي. بواسطة هذا التحوّل يصل كيوان إلى لبّ القضية التي يطرحها، وتصل سخريته ذروتها حيث تعتصر الألم وتتفجّر حدّ الضحك والبكاء معا. ويحدث ذلك في نهاية النصّ، حين نكتشف أنّنا نحن ولا أحد غيرنا، نحن قبائل الهازوكي، “أولى الأمم المبعوثة من أجداثها” (ص 50) التي تعقد اجتماعات قممها في شرم الشيخ وتعلن بعد كل اجتماع عن خازوق جديد “تعلو له صرخات وصيحات وتهاليل المتخوزقين … من غزة لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر وتطوان!” (ص 51). ولا يخفى على القارئ أن التناص في العبارات المذكورة، هدفه الإشارة إلينا، نحن أمّة العرب. وهنا أيضا، يكتشف القارئ أنّ مفردة “الهازوكي” ما هي إلّا تحوير لمفردة “الخازوق” منسوبا إلينا.
في أولى قصص المجموعة، “إعلان حرب على الدولة” (ص 11)، ينتظر القارئ من البطل المتسلّح بقضيب حديد، أن ينتزع البطولة الكاملة من دولة بكامل عتادها، متمثلة بـ “جندي صوّب بندقيّته إليه (ص 12)، ولكن يُفاجأ القارئ ببطل لا تشغل تفكيره المواجهة ولا نية له فيها أصلا، فضلا عن أنّ المعركة غير متكافئة، وقضيب الحديد الذي تسلّح به، كان يحمله ليهشّ به على الكلاب، “لأنّه يخشى الكلاب السائبة في الخلاء” (ص 11)، وليس له فيه مآرب أخرى، أثناء ممارسته رياضة المشي. إلّا أنّ الكاتب في هذا النص، كما في غيره، يلجأ إلى التّحوّل المفاجئ، من فضاء قريته إلى فضاء الدولة كلّها، ومن المواجهة مع الجندي إلى الاشتباك مع مجتمع الدولة بكل شرائحه السياسية والاجتماعية، وصحافته المسموعة والمقروءة والمرئية، العبرية والعربية، ويمارس بجدارة، بطولته الخاصّة، السخرية، بدءا على لسان البطل في القصة ليُسوّغ الانتقال إلى لسان الراوي، وإن لم يكن في الحقيقة فارق كبير بينهما، فهما وجهان لشخصية واحدة، أو شخصية واحدة جزّأها الكاتب وتتماهى معه غالبا.
تبدأ السخرية من نكوص البطل أمام الجندي، ومن عدم تفكير البطل بالمواجهة، لأنّه لم تكن لديه أصلا، أيّة نيّة للمواجهة، ولكنّها تأخذ اتجاها آخر هو ما أراده الكاتب، السخرية من وضع مُحدّد وإن بدا فيه الكثير من التعميم، وهو ماذا كان سيحدث لو أطلق الجندي النار على البطل الذي قال: “وأنا أنتظر الرصاصة … يا إلهي تصوّر ما كان يمكن أن يحدث” (ص 13)، أي السخرية من ردّة فعل المذكورين أعلاه وتصرّفهم عند سماع الخبر: ردّة فعل الدولة وأجهزتها وبرلمانها بأعضائه اليهود والعرب، والإعلام المرئي والمسموع والمقروء، داخلها وخارجها، بكل أطيافه العبرية والعربية، ورجال الصحافة والأدب والثقافة، المتطرّفين والمعتدلين، وتعليق الجمهور على الخبر، وعلى تصرّف الجندي البطل وتصرّف البطل “المخرّب”، ولا ينسى ردة فعل أبي البطل (الشهيد) وأمّه وزوجته وأهل بلده، وقد يمتد الحديث عن ردّ الفعل من السياسة المحلية إلى السياسة الإقليمية والعالمية. ويصل الكاتب إلى ذروة السخرية في أعادة الأمام الذي اتّخذ ما حدث للبطل الشهيد، موضوعا لخطبة الجمعة، أعادته عن معبر “جسر الشيخ حسين أثناء سفره لأداء العمرة، ليس لأي سبب، وفقط لأنّه متهرّب من دفع ضريبة التلفزيون” (ص 17). في هذه العبارة التي يُنهي بها الكاتب قصته، أراه يبصق في وجه المذكورين جميعا، الدولة وخبث سياستها، والمجتمع العربي، المحلّي والعام، وعجزه عن مواجهتها، بل خضوعه لأهوائها.
هذه الصور المشبعة والمتلاحقة في قصص كيوان، تترك القارئ تقتله الحيرة بين ما سيطلقه من ضحك وما سيذرفه من دموع الألم والحسرة. وهذه الصورة التي أفلح كيوان في رسمها في قصة قصيرة لكنّها مشبعة، لمجتمع بضيق قريته وسعة الدولة والعالم العربي والمنطقة على الأقلّ، عالم مهزوم يعيش معركة مستمرّة، القوى فيها غير متكافئة، لا عسكريا ولا سياسيا ولا … ولا … ولذلك يجد نفسه على مستوى الفرد الذي يحمل همّ المجموعة أو المجتمع كلّه، لا حول له ولا قوة إلّا بالكلام، ولا خلاص له إلّا بالتهكّم والسخرية.
لا ينفصل الهمّ العام لدى كيوان عن الهمّ السياسي بحال من الأحوال. فحتى لو بدت أو بدأت المشكلة في قصصه، كمشكلة اجتماعية أو اقتصادية، فلا بد لها في النهاية من هذا التحوّل الذي يُظهر ارتباطها بالسياسة. هذا ما شهدناه في القصّتين المذكورتين، وما سنشهده في كثير من قصص المجموعة، حيث يُوظّف هذا التحوّل في المضمون، من الخاص إلى العام، أو من الضيّق إلى الواسع، ليبين لنا أنّ الأزمة التي يعيشها المجتمع، هي بالأساس أزمة سياسية تفرض نفسها على كل نواحي حياته، الاجتماعية بشكل خاص، كمجتمع مهزوم أمام نفسه وأمام آلة سياسية وعسكرية واقتصادية هائلة تدخل وتتدخّل في كل نواحي حياته.
في قصة “عيون الألب” (ص 79)، وهو عنوان أغنية لمطربة مشهورة، نجاة الصغيرة، يتوقّع، القارئ، خاصة ذلك الذي سمع الأغنية بصوت صاحبتها الناعم، يتوقّع قصّة رومانسية وجوّا حالما مليئا بعلاقات إنسانية بريئة. ولكنّ الكاتب يُفاجئنا كعادته، بأنّ الحديث عن السياسة والانتخابات، وأنّ الحبّ أصبح مرتبطا بالسياسة. وما دام الأمر كذلك، فلا بدّ أنّه أصبح ملوّثا كالسياسة وأكثر. يبدو ذلك واضحا في توجّه المرأة التي فضّلت “بوس الواوا” على “عيون الألب”، حيث قالت للراوي الذي هاتفها لإحياء ماضٍ عاشاه معا: “بعدك عايش في زمن “عيون الألب” يا روح أمّك! بدّك تبوس الواوا تعال … وإذا ما بدّك … الله وعلي معك! أنا ما عندي وقت لقصص العشّاق واللف والدوران” (ص 83). هذا الردّ، يُحيل القارئ إلى التحوّل السياسي والأخلاقي في المجتمع، حيث الفرق بين الأغنيتين، هو أنّ كل واحدة منهما تُشير إلى منظومة أخلاقية مختلفة، فبينما “عيون الألب” تُصوّر حبّا صادقا في أجواء رومانسية بريئة، تُصوّر “بوس الواوا” توجّها جنسيا صارخا وفاضحا حدّ العهر. والتحوّل من الأولى إلى الثانية، فيه دلالة إلى التحوّل الأخلاقي والخراب اللذين أصابا المجتمع بفعل السياسة التي ساهمت في تشويه المجتمع وتخريبه.
في قصة “مع فائق الاحترام” (ص 110)، يبدو وكأنّ جهود المعلّم التي بذلها بإخلاص، ولسنوات طويلة في سبيل طلابه، ستشفع له عندما يشعر بأنّ قدرته على العطاء قد استنفذت، وصار وضعه وأمانته يُحتّمان عليه الخروج إلى التقاعد المبكّر. وعندما يُقدّم طلبا لذلك، تبدو الوزارة والإدارة كأنّهما تستندان إلى قضية مبدئية وأخلاقية نابعة من تقديرها لجهوده وتفانيه المخلص في عمله. فالوزارة ترفض طلبه متذرّعة بـ “ما زلنا بحاجة لعطائك، فأنت من خيرة المدرّسين عندنا – مع فائق الاحترام” (ص 110). والمدير يرفض مساعدته في الأمر متذرّعا بـ “أنت من أفضل المدرّسين عندنا، ما زلنا بحاجة لخدماتك وطبعا مع فائق الاحترام” (ص 111). وبعد فشل كل محاولات المعلّم، يجد العكس، وأنّ طلبه يُرفض عقابا له على إخلاصه وتفانيه في عمله. وهذا ما يُفهم أيضا من مصارحة المدير له، “أنت مخلص أكثر من اللازم … وكي أطلب إحالتك إلى التقاعد المبكر عليك أن تكون سيئا … بل شديد السوء” (ص 112). وطبعا المدير يُمثل الوزارة، والوزارة تُمثّل السلطة، ولها سياسة. وما معنى أن تُحيل المعلّم للتقاعد فقط أذا كان سيئا؟ يعني أذا نفّذ سياستها في التعامل مع طلابه، وساهم في خلق جيل لا يحترم معلميه، بل على استعداد لضربهم وإهانتهم، وفي تحويل المجتمع من حالة احترام المعلّم والمربّي كما كانت في الماضي تجيء على لسان أولياء الأمور، “أرجوك يا أستاذ … إلك اللحمات وإلي العظمات” (ص 111)، إلى حالة ازدراء للمعلم واحتقار لدوره ومكانته، كما يُعبّر عنها اليوم، أولياء الأمور الذين لا يزورن المدرسة إلّا لضرورة الانتقام من المعلم، “أين مربي الأجيال! … سأجعله عبرة للأجيال!” (ص 111).
قصة “زيتون مُملّح ومسَبّح وفالق نيعه” (ص 130)، تبدأ الحديث عن عادة “البعارة” التي يقوم بها عادة الصغار الذين يخرجون بعد عملية قطف الزيتون، لالتقاط حبّات الزيتون المنسيّة على التراب أو بين الأشواك أو على الأغصان، ليبيعوها ويستثمروا ثمنها بمتع تحرمهم منها أوضاع أهاليهم الاقتصادية. وتتحوّل “البعارة” أحيانا إلى السرقة. وعندما تصل شكوى إلى المربي في المدرسة فيُذكّر الأولاد بأنّ السارق يُعاقب لأنّ الأديان تُحرّم السرقة، خاصة ما جاء في الوصايا العشر التي “نزلت على موسى كليم الله وموسى هو نبي اليهود” (ص 135). هنا يحدث التحوّل من قضية اجتماعية وأخلاقية، إلى قضية سياسية، فالطلاب الذين كبروا وانقرضت “البعارة”، صاروا يتبعّرون الأخبار ويتساءلون: “باسم أيّ دين ونبي يسرق المستوطنون زيتون الفلسطينيين!” (ص 136). لتنتهي القصة بالحديث عن تصرّفات المستوطنين الذين يقومون بكل الموبقات ضدّ الفلسطينيين، بما في ذلك سرقة زيتونهم واقتلاعه، بلا رادع ديني أو أخلاقي. ولكن الأهمّ من ذلك، وما يرمي إليه الكاتب، هو أنّ تصرّفات المستوطنين هي في الحقيقة تجسيد لسياسة القهر التي تُخالف كل الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، والتي تنتهجها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. وكل ذلك أمام المجتمعين: العربي حامي فلسطين، والدولي حامي الحقوق والقيم الإنسانية، اللذين لا يُحرّكان ساكنا.
وهكذا فكل مضمون اجتماعي، ديني، أخلاقي، اقتصادي أو حتى عاطفي لدى كيوان، وفي نظري بحقّ، يرتبط بالسياسة التي تنتهجها السلطة، مدفوعة بمصالحها الاقتصادية والسياسية والأخلاقية التي تتنافى محليّا مع مصلحة الأقليّة العربية في إسرائيل ومصلحة الشعب الفلسطيني المحتلّ، وتتنافى كذلك مع الخُلق والقيم الإنسانية بشكل عام.
في قصة “قل مبروك لقبرص” (ص 90)، تظهر نقمة سهيل كيوان من كل شرائح المجتمع التي لا يُمكنها أن تلتقي في عمل جماعي واحد يصبّ في مصلحة القرية كلّها، كانعكاس لفعل السياسة عليها والتي تدأب على خلافها وتفسيخها، بحيث لا تجتمع مثلا، على مواجهة العصابة التي تعيث فسادا في القرية. فالكل يدعي تفهّمه للوضع وضرورة مواجهته بحزم، لكن عندما يجتمعون للتداول واتخاذ قرارات حاسمة وخطوات عملية جادة، ينفضّ اجتماعهم عن لاشيء، لأنّ كل واحد “يُغنّي على ليلاه”، ويبقى البطل الذي دُعي للاجتماع كغيره، وحيدا مستسلما لهذا الوضع حائرا ماذا يفعل!
في هذه القصة يصبّ كيوان نقمته على كل الأطر في المجتمع، وخاصة السياسية، وخاصة الحزب الشيوعي الذي انتمى إليه ذات يوم وانفصل عنه. يبدو ذلك في الاجتماع في السخرية من الرفيق الذي أهمل القضية الأساس، العصابة، واقتراح “رفع تحية من هنا (مكان الاجتماع) إلى الرفيق خريستوفياس من حزب آكيل (الحزب الشيوعي القبرصي) الذي فاز برئاسة قبرص” (ص 93). وكما يبدو، فإنّ في استسلام الراوي للرفيق، ومباركته لقبرص، وتساؤله في نهاية القصة، “ولكن العصابة … يا أخي من سيقاتل العصابة؟” (ص 96)، تبريرا لانسحاب الكاتب من الحزب الشيوعي الذي تخلّى في نظره، عن دوره في الدفاع عن الجماهير وقضاياه الأساسية.
صحيح أنّ نقمة كيوان على الحزب الشيوعي واتّهامه بالسلبية والتخلّي عن دوره الأساس، أمر واضحة في هذه القصة، وقد ظهرت ذلك أيضا في أكثر من قصة، ولكن للأمانة والحقيقة، هو ناقم على كل الأطر السياسية العربية في البلاد. ويبدو ذلك واضحا في سخريته من مواقفهم في قصة “إعلان حرب على الدولة” (ص 11)، حين تساءل حول موقفه من قتل الجندي لمواطن عربي: “ولكن ماذا يقول أعضاء الكنيست العرب عن أسباب زيادة تطرّف جمهورهم! أما زالوا يرفضون فكرة ليبرمان (وزير في حكومة إسرائيل) بضرورة العزل بيننا وبينهم … نحن هنا وهم هناك!” (ص 14). وما يؤكّد شمولية نقمة كيوان أيضا، وأنّ عدم رضاه يشمل كل الأطر السياسة العربية، بما في ذلك حزب “التجمع” الذي ترك الحزب الشيوعي وانتقل إليه في ذلك الوقت، هو ذكره للنائبة العربية في القصة، والتي يسخر مما تخيّل أنّها ستقوله: “الدولة بأعمالها غير المسؤولة ستجرّ المنطقة إلى الكوارث” (ص 14)، علما بأنّ النائبة العربية الوحيدة عن القوائم العربية في البرلمان، قبل صدور هذه المجموعة، وظنّي أثناء كتابة القصة، كانت النائبة “حنين زعبي” عن حزب “التجمع الوطني” الذي كان، ولا أدري إذا ما زال ينتمي إليه الكاتب.
والحقيقة، هذا الغضب الذي يُوزّعه كيوان على الجميع، حتى لو لم تتّفق معه فكريّا أو سياسيا على الأقلّ، ليس بعيدا عن شخصيته الناقدة وشدّة ملاحظته لدقائق الأمور، وشجاعته في اتّخاذ الموقف مهما كان متطرفا، وحتى لو ظلّ وحيدا في الميدان يتسلّح بقلمه وسخريته. ولكن، هذا الموقف لا يخلو من خطورة تكمن في أنّ كيوان يكتب مدفوعا بإيديولوجيا شخصية لا تقلّ خطورة عن الأيديولوجيات الأخرى، خاصة السياسية التي ينتقدها أو يُهاجمها بسخريته.
في قصة “أنا والكلاب وهواك” (ص 176)، الموضوع سياسي بالأساس، ولا علاقة له بعلاقات الجيرة الاجتماعية. فالكاتب يُركّز على العالم العربي وعلاقاته المهينة مع إسرائيل، ولكن قدّمها بشكل غير مباشر، بشكل أمثولة تتحدّث عن حيّ سكنيّ وما يدور فيه من علاقات اجتماعية. ومن باب التمويه، وظّف كيوان بعض المصطلحات التي تُحيل إلى كون المشكلة اجتماعية، مثل الحيّ والجار والبيت والحدود والسياج والقطط والكلاب. ولكن، كل هذه المفردات، أو المصطلحات، كلّ في سياقها، لا تخلو من إحالة سياسية، لأنّ الدخيل على الحيّ هو عميل من الضفة الغربية. والإحالة تبدو واضحة في تسميته لنوع الكلب، فالدوبرمان هو ليبرمان وما يمثّله من سلطة إسرائيل، وفي ذكره للزعيم كإشارة إلى الرئيس المصري حسني مبارك ممثلا للزعامة العربية المتخاذلة مع إسرائيل التي تعمل يوميا على إهانتهم وإذلالهم. وهنا تحمل القطط الفارسية دلالة أخرى، حيث فيها إشارة للخطر الإيراني. أما الاجتماع فيُشير إلى اجتماعات القمة العربية. وغير ذلك هناك الكثير من الإشارات التي تُحيل إلى أنّ القصة تطرح موضوعا سياسيا، هو العلاقات العربية الإسرائيلية، تسخر منها ومن مواقف الزعماء العرب، وسياستهم الخاضعة لإملاءات إسرائيل كما يتضح ذلك من أغنية الزعيم في آخر النصّ، “أنا والكلاب وهواك … يا ماسك كراسينا” (ص 182).
وبهذا النهج، ومن فضاءات مجتمعنا المحلي والعربي عامة، وسواء اعتمد كيوان التحوّل المذكور أعلاه أو لم يعتمده، نجده يشتبك بجرأة وشجاعة، في حربه الساخرة التي لا بطولة فيها إذا صحّ التعبير، إلّا لسخريته التي لا هوادة فيها، حيث يشتبك مع مجتمعه العربي وعجزه وانهزاميته أمام سياسة دولة لا قيمة للإنسان فيها إلّا بمدي خضوعه لها وخدمته لمصالحها. تنطلق حربه من مجتمعه الضيّق في بيته وحارته وقريته، مرورا بالدولة التي رغم مواطنته فيها، تعتبره عدوّا يجب تدجينه أو استئصاله، وصولا إلى المجتمع العربي الواسع الذي يمتدّ من الخليج إلى المحيط. وفي طريقه، لا يتورّع من أن يشتبك أحيانا، مع المجتمع الإنساني كاملا أو مجزوءا، ساخرا من سياسته التي لا تستند إلى منطق. وهذه السخرية وما فيها من شعور بالنقمة لدى كيوان، تسعى لتقويض المجتمع وإعادة صياغته من جديد.
المرأة في قصص المجموعة
لا تختلف المرأة في قصص المجموعة عن باقي الشخصيات، فهي قلّما تُذكر لذاتها، وإنما تُذكر لأنّها جزء من المجتمع، ضحيّة من ضحاياه، أو تعكس عيوبه وتساهم في صنعها وترسيخها بغض النظر عن مستواها الثقافي. وهذا ما يظهر مثلا من دور ابنة الراوي في قصة “نبتدي منين الحكاية” (ص 60). فابنته تُحبّ سماع الأغاني العبرية ولا تعرف أنّ موسيقاها سُرقت عن الأغاني العربية. وحتى عندما سمعت هذه الحقيقة من أبيها:
- إفهمي … هذا لحن لَطَشُه (زوهر أرغوب) من عبد الحليم … (لطشه – سرقه).
تُصرّ على عنادها وتقول:
- ولماذا لا يكون عبد الحليم هو الذي لطش هذا اللحن من زوهر أرغوف!
أي أن الكاتب يرمي إلى أنّ ابنة الراوي تُمثل الجيل الجديد الذي فقد انتماءه، يجهل لغته وتراثه وتاريخه، وحين يُصرّ الأب على التّمسّك بعلمه وثقافته بقوة وعمق، تّصر هي على جهلها وتمسّكها بشكل سطحي بقشور ثقافتها الجديدة، كما ظهر ذلك في ذكر الأب للاسم “أرغوب” مصرّا على اللفظ العرب للاسم، بينما قالت ابنته “أرغوف”، وكأنّها تتباهى بإتقانها للهجة العبرية كما ينطقها اليهود الغربيون الذين ينطقون الباء في العبرية كما ينطق حرف (V) في اللغة الانجليزية.
والحقيقة أنّ ابنة الراوي لا تُمثل النساء فقط، وإنّما تُمثّل الجيل الجديد في المجتمع، من ذكور وإناث. والقصة تُعبّر عن تخوّف الكاتب من انزلاق الجيل الجديد إلى مثل هذا الوضع من اللامبالاة التي بدأت تظهر بشكل مقلق. وتظهر في القصة بشكل واضح، محاولة الكاتب/الراوي الوقوف في وجه هذه الأزمة ومن امتدادها.
وإذا كان الكاتب قد طرح في القصة المذكورة أعلاه، سلبية دور المرأة فيما يحدث في المجتمع، إلّا أنّ هناك قصة، أعتقد أنّها مميزة بين قصص المجموعة، خاصة عند الحديث عن دور المرأة ومكانتها. فبالإضافة إلى أنّ الراوي يترك زمام السرد للمرأة في معظم القصة، يُصوّرها أيضا وهي تمسك بزمام الأمور في الحياة. وفي الوقت نفسه يسخر من الرجل الذي يتعلّق عند سطح الجنس في علاقته بالمرأة، بينما تتعلّق هي بجوهر الأمور وتحكّمها بها وبنفسها. وذلك يظهر واضحا في قول الرجل وردّ المرأة التي أخذته إلى أرض “أرض البوسة” وحدثته عنها وعن سبب تسميتها. قال هو: “هل قطعنا كل هذه المسافة من أجل “بوسة”؟ فقالت هي: “على هونك … القبلة في هذا الزمن أصبحت أمرا عاديا إذا تمّت بالاتفاق” (ص 19).
في هذه القصة نجد المرأة كما يُريدها كيوان في المجتمع، ليست مجرد أنثى أو آلة للجنس، وإنّما امرأة قوية، واعية، مثقّفة، تتمسك بأرضها وتاريخها وتراثها. وقد نرى فيها النموذج النقيض لصورة ابنة الراوي في القصة السابقة.
الزمن في قصص المجموعة
بغض النظر عن كيفية تعامل سهيل كيوان مع الزمن الداخلي في كل قصة من قصصه بشكل خاص، يظلّ الزمن العام الذي ترتبط به قصص المجموعة وتُحيل إليه، هو زمن عربي مهزوم، محكوم بالهزائم العربية الصغيرة والكبيرة، المتوالية منذ النكبة، وأحيانا قبلها، وحتى حاضر القصّ، على الصعيدين العربي المحلّي والعربي العام. وإن دلّ ذلك على شيء، فإنّما يدلّ على تفاعل كيوان مع كل ما حدث وما زال يحدث في المجتمع العربي، المحلّي والعام، وأنّه يُعاني من التحوّلات السلبية، الاجتماعية والسياسية بشكل خاص، التي تدفعه للتعبير عن امتعاضه مما يحدث أو نقمته عليه، وعلى اللامبالاة التي تحكم تصرّفات الإنسان العربي على كافة الأصعدة، من المواطن العادي وحتى القائد الاجتماعي أو السياسي، الذي تحكم تصرّفاته شعارات جوفاء لا تُساهم في حلّ أيّة قضية من قضايا المجتمع، على المستوى الاجتماعي أو السياسي، بل تُرسّخها أو تزيدها تعقيدا.
يرسم كيوان شخصية العربي الفلسطيني الذي بقي في أرضه، منفيّا فيها، يعيش زمنا غير زمنه، يُحاول مضطرا التأقلم معه ليُحافظ على وجوده، لأنّ مجرّد البقاء فضيلة، كما رأى ذلك بعض الكتّاب الفلسطينيين وعبّروا عنه في قصصهم بعد النكبة أو بعد هزيمة حزيران 1967، فما بالك بمن بقي في أرضه بينما الشعور بالمنفى يأبى لا يُفارقه. فنكوص المواطن العربي أمام الجندي في قصة، إعلان حرب على الدولة” (ص 11) يعكس بوضوح الزمن العربي المهزوم، وانشغال العربي بعد حفاظه على حياته، بما لا يُغني ولا يسمن من جوع، الشعارات، أو تمثيل ماذا كان سيحدث لو واجه ذلك المواطن الجندي الذي اغتصب الأرض. فالزمن الداخلي الخاص بالحدث المركزي في القصة، زمن ممارسة رياضة المشي، هو “في كل صباح وقبل ذهابه إلى مكتبه” (ص 11)، ولكنّه يأخذ خصوصية أكثر ودلالة أعمق، حين يتوقف البطل عن ممارسة الرياضة “خلال الحرب على غزّة” (ص 11)، ليعود إلى ممارستها بعد “ما سمّي وقف إطلاق النار” (ص 12)، وإلى التفكير بماذا كان سيحدث لو قتله الجندي: هل سيُقدّم أو يُؤخّر، مقتل مواطن من مجد الكروم، بعد كل ما حدث في غزّة ولم يُحرّك الصغار ولا الكبار ساكنا، واكتفوا بالتصريحات التي لا تُعبّر إلى عن الهزيمة، هزيمة الإنسان العربي وزمنه.
وهل يمكن أن نتخيل زمنا عامّا آخر في قصة “عيون الألب” مهما اختلف الزمن الداخلي الخاص بأحداث القصة؟ الزمن الداخلي فيها هو زمن غير محدّد خلال النهار أثناء ممارسة حقّ التصويت في غرفة صندوق الاقتراع. وهذا اللاتعيين يشي بعدم الأهمية. لأنّ الزمن الأهمّ هو الزمن الذي نقرأه في أسماء الأغاني، فالثانية منها، “بوس الواوا” صدرت قبل زمن الكتابة بسنوات قليلة، بينما الأولى، “عيون الألب”، صدرت فيما يُمكن اعتباره إذا صحّ التعبير، الزمن الجميل، اجتماعيا على الأقلّ. والانتقال من الأولى إلى الثانية، يحيل إلى ذلك التحوّل الاجتماعي والخراب الأخلاقي الذي ساهمت فيه السياسة المتمثّلة بعملية الانتخابات، ما يُحيل إلى الزمن العربي العام، المهزوم. وقد يكون الاختلاف في القصّتين المذكورتين، في شكل الهزيمة فقط. حيث تبرز في الأولى الهزيمة السياسية، بينما في الثانية تبرز الهزيمة الاجتماعية والسياسية معا، كهزيمتين مشتبكتين متعالقتين.
وعليه فقد تختلف الأزمنة الداخلية من قصة إلى أخرى، ولكنّ قصص المجموعة في معظمها تلتقي في الزمن العربي العام، المأزوم والمهزوم، على جميع الأصعدة، وخاصة المحلّي والعام، والاجتماعي والسياسي.
الفضاءات
تتعدّد الفضاءات والأمكنة كذلك في قصص المجموعة. وقد لا يخفى على القارئ أنّ قرية الكاتب التي يذكرها كثيرا في قصصه، وأحيانا بالاسم، مجد الكروم، هي المكان الذي يحتضن معظم الأحداث، أو هي الفضاء الذي يبدأ فيه الحدث ومنه ينطلق إلى أمكنة أخرى قريبة أو بعيدة. ولكن ليست الجغرافيا ومساحتها فقط هما اللتان تقرّران، وإنما ما للجغرافيا من دلالات وإيحاءات تُحيل القارئ إليها، ومن بينها ما يفرضه المكان من حالة نفسية لدى الشخصية ولدى القارئ كذلك، والتي قد تتأثّر وتتغيّر بتغيّر المكان وتأثيره.
ورغم تتعدّد الفضاءات والأمكنة، استوقفني ذلك الحدّ الفاصل بين مكانين، مغلق ومفتوح، وما تركته صعوبة اختراقه في نفس البطل من شعور بالعجز في قصة “إعلان حرب على الدولة” (ص 11). يقول يوري لوتمان: “تنظم البنية المكانية للنص بالإضافة إلى مفهوم “العلو – الانخفاض” سمة أساسية هي التضاد “مغلق – مفتوح” … وفي حالة النظر إلى البنية المكانية من هذا لمنطلق يكتسب الحدّ، بوصفه عنصرا مكانيا، أهمية كبيرة. فيقسم الحدّ المكاني إلى شقّين متغايرين لا يمكن أن يتداخلا. ويتميّز الحدّ بخاصية أساسية هي استحالة اختراقه. وتمثّل الطريقة التي يفصل بها الحدّ بين شقّيّ النصّ خاصية من خصائص النصّ الجوهرية. وقد يكون هذا الفصل فصلا بين الأهل والأغراب، أو الأحياء والأموات، أو الفقراء والأغنياء. ولكن الأهمّ من ذلك كله هو أنّه لا بدّ للحدّ الذي يفصل بين شقّيّ المكان أن يكون حصينا لا يُمكن اختراقه، وأن تختلف البنية الداخلية لكل شقّين فيه.[8]
واستنادا على ما تقدّم، وسواء كان ذلك قد نتج عن وعي أو تفجّر من اللاوعي، استوقفني في القصة المذكورة، ذلك الحدّ الفاصل الذي شكّل حاجزا بين مكانين نقيضين رغم قربهما، أحدهما مفتوح والآخر مغلق ولا مجال للتّداخل بينهما، لذلك تراجع البطل عند الحدّ الفاصل بينهما لعجزه عن اختراقه. أعني ذلك الحدّ الفاصل، جغرافياً ونفسياً، بين البطل الذي كان يُمارس رياضة المشي، وبين الجنديّ الذي كان يحمل بندقيته في مدخل معسكر للجيش. فقد شعرنا أنّ البطل الذي عاد لممارسة رياضة المشي بعد الحرب على غزّة، لم يفعل ذلك في المكان المفتوح، كروم الزيتون أو غابة الزيتون كما سمّاها، ليُعاود ممارسة رياضته فحسب، وإنّما ليتخلّص من حالته النفسية المتردّية التي زرعتها في نفسه، الحرب على غزة. وبالطبع، لم يكن يتوقّع ما حدث له في نقطة معيّنة من مساره. يقول الراوي عن البطل: “في نهاية غابة الزيتون خرج إلى شارع فرعيّ يوصل إلى معسكر للجيش في قلب الجبل من جهة، وإلى شارع رئيس من الجهة الأخرى، كان يهجس بالإحداث والصور المفزعة، التي لم يعد يتحمّلها، لم يكن منتبها لما أمامه، انتقل من المشي إلى الركض باتجاه مفترق الطرق وهو في شبه غيبوبة، وفجأة انتبه، توقّف كأنّما ارتطم بجدار، كان على مسافة حوالي عشرين مترا منه جندي صوّب بندقيّته إليه وقد اختلف لونه، وبلحظة استوعب صديقي ما حدث، فقد ظنّ الجنديُّ أنّه يركض باتجاهه وبيده قضيب الحديد” (ص 12). هذه اللحظة التي سبقت تغيير المسار كانت لحظة حاسمة، وقف فيها البطل بين الحياة والموت، حين توقّف ولو لجزء من اللحظة، في مكان حاسم هو الحدّ الذي يتحدّث عنه لوتمان، الفاصل بين المكانين، المفتوح والمغلق. هناك حيث “فجأة انتبه، توقّف كأنّما ارتطم بجدار”. وليس ما أريد الإشارة إليه هنا، هو ما كان سيحدث لو لم يستوعب البطل تصويب الجنديّ لبندقيته واختلاف لونه، وتابع سيره باتّجاه الجنديّ مخترقا بذلك الحدّ الفاصل. المهمّ هو ما حدث لأنّ البطل استوعب وغيّر مساره! فهل تنتهي المسألة عند هذا الحدّ؟ يقول البطل: “التقت عيناي بعينيه (الجندي)، ربما كان هذا قبل أن يطلق النار بجزء من الثانية (وهو الوقت الذي كان واقفا فيه في الحدّ الفاصل بين الفعل واللافعل)، انسحب الدم من وجهي، حاولت أن أبتسم وغيّرت وجهتي” (ص 12). قد يُحيلنا انسحاب الدم ومحاولة الابتسام، إلى تغيير الوجهة، وهذا ما حدث على أرض الواقع، ولكن انسحاب الدم يُعبّر أيضا عن حالة نفسية اعتصرها الألم، ولهذا أتت محاولة الابتسام تعبيرا ساخرا عما فكّر فيه البطل تلك اللحظة ولم يقله. وربما هربا من قوله، لجأ إلى التفكير بـ “ما كان يُمكن أن يحدث” (ص 13)، ليس على الصعيد الشخصي، فما كان سيحدث على الصعيد الشخصي معروف، الموت برصاص الجندي وخراب عالمه ككل من تسوّل له نفسه أن يخترق هذا الحدّ غير القابل للاختراق بين المكان المفتوح والمغلق أو بالعكس، وربما لنفس السبب تقوّض عالم “أمينة” حيث عالم بين القصرين في ثلاثية نجيب محفوظ “ينقسم إلى “الدار” و”القاهرة، والحدّ الذي يجب ألّا يخترق بينهما، هو باب الدار، وأمينة تنتمي إلى عالم الدار، ويوم تُقرّر الخروج وتخرق القاعدة، يتقوض عالمها”.[9] حين قطعت عتبة البيت، الحدّ الفاصل بين المكان المغلق، وخرجت إلى المدينة، المكان المفتوح. ولكن الاختراق هنا، في قصّتنا، لم يحدث. والتحوّل الذي حدث ليس في مسار المشي فقط، وإنما بما كان سيحدث على صعيد ردّ الفعل على مستوى السياسة والإعلام في الدولة، هربا مما لم يقله البطل. فما هي حقيقة ما فكّر به البطل تلك اللحظة ولكنّه غيّبه في نفسه وتركه للقارئ؟ محاولة الابتسام كانت ردّ فعل ساخر، والسخرية التي وظّفها في ردّ الفعل على موته، هي في الحقيقة السخرية من الواقع والشعور بالعجز اللذين عاشهما في اللحظة والنقطة الحاسمتين. ولكنّ ما لم يقله، هو أنّه استحضر في ذهنه ونفسه، النكبة وما خلّفته من مفارقات. والمفارقة التي أدّت إلى التحوّل وفجّرت ألمه وسخريته تلك اللحظة، هي أنّ المكان المغلق أمامه، كان ذات يوم، امتدادا للمكان المفتوح، امتدادا لأراضي القرية من سهول وجبال، والتي كان البطل أو سلفه قبل الوضع الجديد طليقا، يسرح فيها ويمرح بلا قيود. والآن، قد أصبح المفتوح مغلقا أمامه، يتعذّر عليه وعلى كل أهل قريته دخوله، رغم كونهم أصحاب الأرض الحقيقيين. وقد حدث ذلك الوضع الجديد، بفعل اغتصاب الأرض في النكبة، أو اغتصابها ومصادرتها بعد النكبة، بذريعة الأمن والأغراض العسكرية.
ما حدث في القصة عامة، وبشكل خاص في الحدّ الفاصل بين المكانين: المغلق حيث يقف الجندي، والمفتوح حيث يسير البطل، يُؤكّد الارتباط الوثيق للمكان بالحرية، لأنّ الحرية بالأساس هي حرية الحركة. والتغيير على أرض الواقع، ونشوء الحدّ الفاصل، قيّد حرية البطل وأصحاب الأرض عامة. وصار المكان مرتبطا بحسرة لا تُفارق عقولهم ونفوسهم.
تقول سيزا قاسم: “يرتبط المكان ارتباطا لصيقا بمفهوم الحرية، ومما لا شك فيه أنّ الحرية – في أكثر صورها بدائية – هي حرية الحركة. والعلاقة بين الإنسان والمكان علاقة جدلية بين المكان والحرية … وهي مجموع الأفعال التي يقوم بها الإنسان دون أن يصطدم بحواجز أو عقبات، أي بقوى ناتجة عن الوسط الخارجي، لا يقدر على قهرها أو تجاوزها”. [10] أوليس هذا ما حدث لبطل القصة المذكورة حين اصطدم بالجندي وفقد حريته بالحركة، وكاد يفقد حياته أيضا؟
الشخصيّات
ما يميّز قصص سهيل كيوان ويؤكّد اشتباكه الساخر مع واقعه ومجتمعه، هو اختياره لشخصيات واقعية قد انتزعها غالبا من واقع قريته أو محيطها، وأحيانا تكون معروفة لنا سواء ذكر اسمها أو لم يذكره. ونعرفها أيضا من خلال الكلام عنها بلسانه كراوٍ، أي بضمير الأنا المشارك أحيانا والشاهد غير المشارك أحيانا أخرى. ذلك لأنّ الراوي، سواء أسند الكاتب البطولة له أو لغيره، فهو يتماهى دائما مع شخصية الكاتب. وهذا ليس نابعا من فراغ، وإنّما من تحديق كيوان، الكاتب والراوي، في الناس وفيما يحدث لهم في واقعهم الضيّق أو المشتبك مع الواقع العربي العام. وينبع كذلك من تحمّله مسؤولية تعامله الساخر معه. حيث سبق وذكرنا أنّ كيوان يحمل مرآته المحدّبة ويكبّر الأشخاص والأشياء ويُشبعها حدّ التشويه. ولكنّ ذلك لا يمنعه أحيانا، من أن يعطي للشخصية فرصة الحديث عن نفسها والتعبير عن مشاعرها، وإن كنّا غالبا نجد فيها ملامح كيوان الساخرة.
هذا مثلا ما وجدناه في القصة آنفة الذكر، “إعلان حرب على الدولة” حيث يروي ما حدث لصديقه وابن قريته الذي يُمارس رياضة المشي والذي قصّ على الراوي ما حدث له. فضاء القصة هو ما ساعدنا على تحديد العلاقة بين الراوي والبطل، فغابة الزيتون التي يذكرها، ما هي في الواقع إلّا كروم زيتون مجد الكروم وإن لم يذكرها بالاسم.
وهذا أيضا ما نجده في قصة “ثأر … الآن!” (ص 25). فعبد الرحمن الذي ادعى الراوي أنّه ابن قريته للتمويه، ما هو إلّا شخص من إحدى القرى المجاورة (أعرفه أنا شخصيا وقد رأيت الفيلم الذي شارك فيه)، شارك في فيلم عبري بدور ضئيل جدا، خذل الراوي وأبناء قريته الذين تجمّعوا صغارا وكبارا لمشاهدة العرض، ظنّا منهم أن مشاركة عبد الرحمن سترفع رؤوسهم وسيّقدم عرضا يليق بعروبته وكمال جسمه، بينما صار عبد الرحمن ودوره في الفيلم، مثار سخرية الراوي وكل من حضر لمشاهدة الفيلم، حيث في مشهد قصير جدا، “شابّ نحيل لا يصل إلى كتف عبد الرحمن” (ص 29)، تمكن من التنكيل به والتغلّب عليه وطرحه أرضا، وهو الذي “نافس أهل المدن من عرب ويهود، تفوّق وصار بطل الجسد الكامل” (ص 25). لا شكّ أن كيوان رأى الشخصيتين وما حدث بينهما من تنكيل الشابّ اليهودي النحيل بعبد الرحمن العربي كامل الجسد، أمثولة للوضع السياسي والعسكري بين دولة اليهود الصغيرة والوطن العربي الكبير. ولذلك، لا يتفجّر غضب كيوان وألمه وسخريته على عبد الرحمن ومشهد الصغير في فيلم، إلّا لكون هذا المشهد صورة مختزلة للمشهد الكبير. وهذا ما يجعل شخصيات كيوان عامة، لا تُمثّل نفسها فقط، وإنّما تُمثّل مجتمعها بكل أبعاده.
قصة “العمرة”، تبدأ بشخص يأتي من قرية مجاورة ويسأل والد الراوي: “هذا بيت سهيل (الكاتب)؟” (ص 52). ولا يقف الراوي/سهيل عند هذا الحدّ، بل يذكر اسم الشخصية واسم قريتها، حيث يقول الشخص الذي حضر: “يا رجل هل نسيتني! أنا أبو حسين سواعد من عرب الكمّانة” (ص 53). وبغضّ النظر عن موضوع الحديث الذي دار بينهما، وهو تسديد الدين لضرورة أداء العمرة، فإنّ الشخصيات التي يختارها كيوان، هي شخصيات جاهزة من حيث الحضور في الواقع، والأهمّ كما ذكرت، أنّها لا تُمثّل نفسها فقط، بل تمثّل المجتمع الصغير والكبير، أو الخاص والعام، ببساطته وجهله، وتُبيّن اجتهاد كيوان في تقويضه لبنائه من جديد.
ومن الجدير بالذكر حول البطولة وشخصيات الأبطال في قصص كيوان، أنّ أبطاله من الناحية الفنيّة في القصة، غالبا ليسوا أبطالا وإنّما يتّسمون باللابطولة (Anti-hero)، ويأتي ذلك انعكاسا للواقع المهزوم، على المستوى العربي المحلّي والعام، وحتى على المستوى الإنساني، الذي يعيش واقعا ولّى فيه زمن البطولات، وفقد الأبطال دورهم ونكصوا أمام هموم الحياة أو قهر السلطة وغيرهما. ولهذا نجد في معظم القصص، أنّ البطل يتراجع أمام تحقيق أهدافه، كما نكص المواطن الذي يُمارس رياضة المشي أمام الجندي (إعلان حرب على الدولة)، وكما نكص عبد الرحمن، بطل كمال الأجسام، أما شابّ نحيل (ثأر … الآن!)، فجلب الخزي والعار لأهل قريته الذين حملوا بسبب ما حدث له (وهو لا يُمثّل نفسه فقط)، حملوا لعقود طويلة، الشعور بضرورة الثأر. وكذلك في قصة “نبتدي منين الحكاية”، يظهر الأمر أيضا في صعوبة إقناع الراوي الذي يُمثّل الجيل القديم، لابنته التي تُمثل الجيل الجديد، بأنّ المطربين اليهود الذين تحبّ سماعهم، قد سرقوا الألحان العربية، فكيف سيقنعها أنّهم قبل سرقة الأغاني، سرقوا الأرض وما عليها؟ وفي قصة “قل مبروك لقبرص”، يظهر تراجع الراوي في الاجتماع أمام الرفيق، في تساؤله اليائس، “ولكن العصابة … يا أخي من سيُقاتل العصابة؟” (ص 96)، وذلك بعد أن رضخ لطلبه وقال “مبروك لقبرص”. ربما فعل ذلك تيمّنا بأن يتجاوب الرفيق معه، ولكن بما أن القصة انتهت بالعبارة المذكورة أعلاه، فالجواب معروف. وتجدر الإشارة إلى الراوي، ومن ورائه الكاتب، حين قال: “… يا أخي”، ولم يقل “يا رفيقي”، أنّ كيوان يؤكّد بها خروجه من الحزب الشيوعي، ولكنّ ذلك لا يعني خروجه من الحياة الاجتماعية والسياسية وبعده عما يدور في المجتمع.
إذا كان لا بدّ من رؤية بطولة كاملة في قصص كيوان، فظنّي كما لمّحت سابقا، أنّ القارئ سيفكّر بإسنادها إلى الكاتب، أو الراوي المتماهي معه دائما، إذا صحّ أن نعتبر السخرية هدفا لهما، ذلك لأنّ السخرية، إذا صحّ اعتبارها هدفا، تظلّ هي الهدف الوحيد الذي تمكّن الكاتب وراويه من تحقيقه كاملا بلا نقصان، وعليه يُصبح أحدهما بطلا كامل البطولة. أقول ذلك وأنا أعي أنّ الكتابة والسخرية هما أداتين بيد الكاتب، وليستا هدفا من أهدافه. ويُؤكّد ذلك بأنّه يوظّفهما في تفكيك العالم وتقويضه، بغية إعادة صياغته. ولكن بلا شكّ، توظيف السخرية في أدب كيوان، يدلّ بشكل واضح على شجاعته وجرأته.
وجهات النظر أو زوايا السرد
قلّما يلتفت سهيل كيوان لتوظيف الراوي كلّي المعرفة، وهذا يتّفق مع طروحاته الساخرة، ومع وجهة نظره وتحديقه المستمرّ في المجتمع وما يحدث فيه. ويتّفق ذلك أيضا مع نيته المسبقة بالتعامل الساخر مع المجتمع. وأغلب الظنّ أنّ ذلك ينبع من اعترافه الواعي أو اللاواعي، الذي نستشفّه من كتاباته عامة وقصص هذه المجموعة خاصة، بأنّه لا يملك من الأدوات في مواجهة المجتمع، إلّا الكتابة والسخرية اللتين يعبّر بهما عن غضبه وحزنه بل ونقمته على المجتمع وما يحدث فيه. بهاتين الأداتين، الكتابة والسخرية، يفضح المجتمع ويُفكّكه بغية إعادة صياغته من جديد. وعليه، نجده دائما يتكلّم بضمير الأنا كشاهد مشارك، سواء أسند البطولة للراوي أو لغيره من الشخصيات التي يتحدّث عنها. وهذا الموقف يتّفق أيضا مع مفهوم اللابطولة الذي يتكرّر في قصصه، إذا استثنينا، كما أسلفت، السخرية كبطل أو كهدف يُحقّقه الكاتب وراويه كاملا، فيجعل منهما بطلا كامل البطولة.
لا يتوانى كيوان في إعطاء الفرصة لشخصياته أن تتحدّث عن نفسها، سواء كان ذلك في السرد أو الحوار معه أو فيما بينها، وذلك لتحقيق ديمقراطية النصّ التي يسعى الكاتب إلى تحقيقها في الواقع. إلّا أنّ الراوي ومن ورائه الكاتب، يظلّ ممسكا بخيوط السرد، ربما ليُبيّن أن المجتمع لم يصل بعد إلى الدرجة التي يريدها من الوعي وتحمّل المسؤولية، وإلّا لما كان هنالك سبب للكتابة، أو للسخرية على الأقلّ.
اللغة والسخرية
يعتمد كيوان اللغة الفصحى في سرده، وقد حرص على أن تكون بسيطة قريبة جدا من الواقع. ولكنّه أدخل إلى لغته ملامح أخرى يحتاجها في أسلوبه الساخر في قصصه، ولكي تقوم اللغة بدورها الفاعل في تفعيل القارئ واستفزازه. لذلك لا يكتفي كيوان ببساطة اللغة وقربها من الواقع، وإنّما يشحنها بملامح مختلفة عدّدها إبراهيم طه في مقاله حول السخرية في أدب كيوان. من هذه الملامح: تفصيح اللهجة المحكية، نحت مفردات جديدة تكون غالبا منحوتة من اللغة العامية، التلاعب بالألفاظ، القرص السريع الموجع، الأخبار والنوادر والطرائف التي تحدث عادة في الواقع الفلسطيني، وأخيرا الشفافية التي تنتج عن تلك الأخبار والنوادر والطرائف، وتُشير إلى واقع محدّد، وقدر كبير من المرارة. [11]
لغة كيوان بما فيها من الملامح آنفة الذكر، هي لغة مشحونة، تُعبّر من جهة عن مرارة الكاتب وشدّة تذمّره مما يحدث في المجتمع، خاصة على الساحتين: الاجتماعية والسياسية، ومن جهة أخرى تشحن القارئ وتستفزّه، ليس للضحك ومتعة القراءة فحسب، وإنّما للألم والغضب والاقتناع بضرورة التحرّك من اجل التغيير. وعليه فإنّنا نجد كيوان لا يكتفي في قصصه بالسخرية من الآخر، وإنّما يُوجّه سخريته بشكل مزدوج، إلى الآخر وإلى الذات، فهو لا يتجاهل دوره كفرد شريك في المجتمع، يعاني من العجز نفسه، فيقع هدفا للسخرية نفسها.
قائمة المصادر والمراجع
المصادر
- سهيل كيوان، مديح لخازوق آخر، حيفا: دار راية للنشر، 2013.
المراجع
- إبراهيم طه، الأدب المجهري، ضمن البعد الرابع، الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2016.
- إبراهيم طه، سلاطة اللسان في سخرية سهيل كيوان، ضمن البعد الرابع، الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2016.
- سيزا قاسم وآخرون، جماليات المكان، إعداد وترجمة سيزا قاسم، الدار البيضاء: دار قرطبة، ط 2،
- مظفّر النوّاب، الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق عصام عبد الفتاح، القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2009.
- يوري لوتمان، مشكلة المكان الفني، ترجمة سيزا قاسم، ضمن: سيزا قاسم وآخرون، جماليات المكان، الدار البيضاء: دار قرطبة، ط 2، ص 68-86.
[1] . سهيل كيوان، مديح لخازوق آخر، حيفا: دار راية للنشر، 2013. ص 7.
[2] . ترقيم الصفحات التي تبدأ فيها القصص كما يظهر في الفهرس، خطأ.
[3] . مظفّر النواب، الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق عصام عبد الفتاح، القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2009. ص 148-149.
[4] . إبراهيم طه، الأدب المجهري، ضمن البعد الرابع، الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2016. ص 271.
[5] . إبراهيم طه، سلاطة اللسان في سخرية سهيل كيوان، ضمن البعد الرابع، الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2016. ص 252.
[6] . إبراهيم طه، الأدب المجهري، ضمن البعد الرابع، الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2016. ص 264.
[7] . المصدر السابق، ص 270-271.
[8] . يوري لوتمان، مشكلة المكان الفني، ترجمة سيزا قاسم، ضمن: سيزا قاسم وآخرون، جماليات المكان، الدار البيضاء: دار قرطبة، ط 2، 1988. ص 81.
[9] . المصدر السابق ص 66.
[10] . المصدر السابق ص 62.
[11] . للاستزادة حول لغة كيوان والسخرية في أدبه، انظر إبراهيم طه، الأدب المجهري، ضمن البعد الرابع، الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2016. ص 264-271.