قراءة في روايته “وطني يكشف عُريي”.
قرأت المجموعتين القصصيّتين الأخيرتين للكاتب سعيد نفّاع: “سمائية البوعزيزي” (2014) و”رسالة مؤجّلة من عالم آخر” (2015). ولا أدري إذا كانت التسمية “مجموعة قصصية” تنطبق عليهما، إذا أخذنا بعين الاعتبار فنية القصة القصيرة بمفهومها الحديث. والكاتب نفسه، يعترف أنّ ما يقدّمه هو نصوص فيها قصص وحكايات وغير ذلك، وحتى أنّه قد خاطب القارئ في نهاية أحد النصوص بقوله “نصّ … سمّه قصة إن شئت!” (رسالة مؤجّلة، ص 106). هذا الأمر يعني أنّ سعيد نفّاع لم يكن همّه الأول، الشكل الفنّي للدفقة التي كانت تضغط على فكره ووجدانه، ولم يجد لها قناة إلّا القلم والكتابة. ولذلك قلّما نجده يهتم بفنيّة ما يطرحه أمامنا من قصص وحكايات أو خواطر وذكريات، وحتى مقالات أحيانا. فهو في جميعها الراوي الأنا الشاهد المشارك، أو غير المشارك الذي ينقل على ذمة راوٍ آخر أحيانا. وأيّ متابعة لطرق السرد عند سعيد نفّاع لن تبعده عن هذه الحالة، مما يضعنا أمام أحد أمرين: عدم معرفة سعيد نفاع بطرق السرد الفنيّة الحديثة، أو نفي هذه الطرق، واختيار طريق هو أقرب إلى الرواية الشعبية التي تعتمد أكثر على عفوية السرد وتلقائيته، فبرز الاهتمام بالمضمون على حساب الفن. فالراوي كليّ المعرفة مثلا، وبأشكاله وقدراته الفنيّة المختلفة، لا نكاد نعثر عليه في أيّ من نصوص سعيد نفاع. وكذلك الاهتمام بفنية العناصر المكوّنة للقصة الحديثة، من مكان وزمان وشخصيات وغيرها، في حين تبرز الأحداث وتترك للقارئ إمكانيات التفاعل معها وفهمها وتأويلها والاستفادة منها، سواء كان ذلك على مستوى متعة القراءة، أو على مستوى كون النصّ تحريضيا يهدف إلى ما هو أبعد من ذلك. وعليه لن يكون الشكل الفنّي هو ما يشغل القارئ في هذا المقام. وهنا، لا أخفي أن كلامي هذا بمثابة همسة مفضوحة في إذن الكاتب أنّ الشكل الفني لأيّ عمل إبداعي لم يعد وعاء يحمل المضمون فقط، وإنّما صار عنصرا بارزا ليس في حمل المضمون وإبراز جمالية النص وتوصيل المضمون بطرق لا تضمن متعة القراءة فقط، وإنما تضمن استفزاز القارئ وتحريضه، خاصة وأنّ هذا الأخير، استفزاز القارئ وتحريضه، هو من أهمّ أهداف سعيد نفّاع. ورغم ما ذكرته سابقا، لا تخلو المجموعتان من بعض نصوص تُقارب القصة القصيرة في بعض جوانبها ومكوّناتها الفنيّة.
وباختصار، فإنّ المجموعتين المذكورتين، هما في الحقيقة، مجموعة كبيرة من الدفقات الواعية أو غير الواعية التي دفقها قلم سعيد نفاع وفكره وهمّه الذي ينوء بحمله.
استلهم كاتبنا مضامينه من مصادر كثيرة، ليصبّ دفقاته في مصبّات تتنوّع هي الأخرى، بتنوّع القارئ. ولم يجانب الصواب أحد الكتّاب حين وصف سعيد نفّاع بأنّه “كاتب هاجسه القارئ”، فهو يُعوّل عليه كثيرا! وعليه فإنّنا نرى أن مصادر سعيد نفّاع تتنوّع بين الواقع الذي يعيشه، هو ومجتمعه وشعبه، اليوم، والذي عاشه مع شعبه ومجتمعه منذ ما قبل النكبة بعقود طويلة. ومن خلال تلك الحقب وأبعد منها، يستلهم كاتبنا الواقع والتاريخ والتراث والأسطورة، ليحكي لنا حكاياته التي لم يُطق سجنها في صدره، لعلّها تكون رسائل مؤجّلة تستفيد منها أجيالنا القادمة إن لم نستطع نحن أن نفعل ذلك في راهننا المأزوم.
لم يتوقّف سعيد نفاع عند إصدار مجموعتيه، بل فاجأنا رغم سجنه، بصدور روايته “وطني يكشف عُريي”، التي صدرت عن “دار الأماني” في عرعرة، لصاحبها الكاتب مفيد صيداوي الذي أخذ على عاتقه مهمّة إصدارها كأمانة وضعها سعيد نفّاع في عنقه قبل دخوله السجن. وقد حمل الصيداوي الأمانة وأدّى واجبه تجاهها وتجاه صاحبها وتجاه الأدب والقارئ على خير وجه. وأنا على ثقة أنّ صديقي سعيد نفاع، عندما بلغه نبأ صدور روايته، تضاعفت قدرته على احتمال ظلم السجّان وقيد السجن وظلامه، رغم معرفتنا الأكيدة، أنّه كان كذلك قبل دخوله السجن وقبل صدور الرواية. سعيد نفاع إنسان وطني عوده مرّ، وكاتب لم ينحنِ للريح وإملاءات السلطة قبل سجنه، ولن ينحني في السجن ولا بعده. كتاباته من جهة، واختياره السجن ورفضه الانحناء والتدجين من جهة أخرى، هما خير شاهد على ذلك.
رواية “وطني يكشف عُريي” هي خطوة إلى الأمام في إبداع سعيد نفّاع، أستطيع أن أقول إنّه اخترق بها خطّ التواضع الفنّي الذي لمسناه في مجموعتيه السابقتين. فهنا رغم النواقص، يوجد لدينا تعامل معين مع عناصر الرواية الفنيّة من زمان ومكان، وشخصيات وأحداث لا تخلو من ترابط، يسردها راوٍ كلّي المعرفة يحمل ملامح الكاتب ومواقفه، التي تظهر كذلك في ملامح بعض شخصيات الرواية.
ولا أدري لماذا اختار نفّاع أن يُذيّل عنوان روايته بعبارة من نحته، “روانصّية”؟ بحثت في الشبكة لأجد مصدرا يتحدّث عن هذا المصطلح المنحوت، فلم أجد له أثرا. لعلّه قصد بذلك أنّها نصّ لا يخضع لقوانين الرواية التي نعرفها. وقد اعترف في “بدل المقدّمة” الذي أعطاه عنوان آخر، “كلام علّه يكسو بعض عُريي” (ص 5)، أنّه لا يُبالي بالقوالب (الشكل الفنّي) التي أتعبته، وليكسو بعض عُريِه، راح يبحث عنها في كؤوس (قوالب) من سبقوه (من روائيين وغيرهم)، فاستعار كؤوسهم لصبّ بعض فصول روايته. ولعلّه لذلك قال: “ولم يشغله كثيرا رفض خفر السواحل عندما كان القارب يميل نحو إحداها لاجئا تعبا، مدّ يد العون، مبرّرا ذلك بغياب مفعولية جوازيهما، ولا حتى لالتقاط أنفاس بعد هول أنواء” (ص 44)، مذكّرا إيّانا بنهاية “حبّ في زمن الكوليرا” لمركيز. والبعض الذي لم تقبله تلك الكؤوس، صبّه، كما جاء على لسانه، “في آنية مشرّعة الفوهة” (ص 6)، أي مفتوحة على أن تكون مقبولة أو غير مقبولة. ومن هنا، يبدو لي أنّ نفّاع وإنّ كان يعي أنّ الأدب يسعى إلى الارتقاء بوعي القارئ وتطوير مداركه، ويعي أيضا ضرورة التجريب لما فيه من تجديد وتميّز في النصّ شكلا ومضمونا، إلّا أنّه لا يُحسن تطبيقه، ما جعله يسعى إلى الاعتماد على قوالب تجريبية سابقة لا بقصد نسخها، وإنّما للإفادة منها والخروج عليها عند اللزوم. ولكن، هل كل ذلك يستدعي تذييله للعنوان بـ “روانصّية”؟ ربما! ولكن ما أعرفه هو أنّ هذا التذييل شوّش تفكيري قبل قراءة الرواية وأثناءها. وقد لفت نظري صديق أعرف مني في مجال الرواية والنقد، إلى أنّ التذييل المذكور فيه محاولة للتهرّبمن النقد، بمعنى إذا عاب النقد الرواية،عندها يستطيعالكاتب أن يقول: “هذانصّ رواية وليسترواية.” وهذا الأمر واضح أيضا في قول الكاتب: “عزيزي القارئ، الكؤوس … إن سألتني عن الاسم الذي اخترته لقلت لك “روانصّية” (ص 6). وأراني لا أجانب الحقيقة فيما ذكرت، لأنّ سعيد نفّاع نفسه، يعترف بقصوره في مجال الشكل والقوالب الفنّية، ولا يُريدنا أن “نآخذه” عليها. ولكن، كما أنّ لسان سعيد نفّاع يسطع بالحقيقة ولا يرحم ولا يخشى في الحقّ لومة لائم، فإنّ النقد البنّاء الجادّ لا يرحم أيضا، ويجب أن يقول كلمته لكي يصعد سعيد نفّاع في أبداعه القادم، درجة أخرى كالتي صعدها إلى هذه “الروانصّية” التي تطمح إلى أن تكون الرواية.
في لغة الرواية ومعمارها الفنيّ أكثر من خلل، أدّى إلى ترهّل في الحبكة وبعض غموض في المضمون، ومع ذلك، فهي تُشكّل قفزة نوعية في سرد سعيد نفّاع الذي لم يستند في مجموعتيه السابقتين إلى شكل سرديّ فنّي واضح. وإن حدث ذلك في بعض النصوص، فغالبا من قبيل الصدفة، وليس المعرفة بالسرد الفنّي.
عنوان الرواية، “وطني يكشف عُريي”، يشي بما سيقْدِم عليه الكاتب من كشف وفضح وتعرية للمجتمع من خلال تعريته لبطلي الرواية، وهما “أنس البكري” و”راشد”. أمّا الشخصيات النسائية في الرواية، وخاصة “جوليا” و”نجلاء”، فقد وظفهما كعامل مساعد على التعرية، ولطرح مشكلة المرأة العربية وما تعانيه من ظلم المجتمع الذكوري المتخلّف الذي يراها ملكا للرجل، له الحقّ في أن يتعامل معها كما يشاء دون أدنى اعتبار لإنسانيتها وحريتها. ومن خلال ذلك، يُدرك القارئ موقف نفّاع الإيجابي من المرأة، وضرورة كونها شريكا ورفيقا للرجل، ولا يصلح المجتمع بدون أن يرقى إلى مثل هذا، فكرا وممارسة.
بعد تجاوز عتبات النص، يبدأ الكاتب روايته بفصل يُمكن أن نعتبره حاملا للسرد، وهو أقرب إلى الميتا قصّ، حيث يعترف فيه أنّ الحكاية التي تتمحور حولها ولدت مبتورة، لأنّ قصة “راشد” مع “جوليا”، التي هي لبّ الرواية، “عجز (أنس) رغم صراعه المستحيل معه أن يتمّ القصة، وانتهت القصة عند هذا الحدّ، على أن يكسو عُريه وراشد الذي أراده عرّابا لخيانة الوطن في العمل القادم” (ص 8). وفيما يعرضه الكاتب في هذا الفصل، غموض لا يكشفه تماما، ما تبقّى من نصّ الرواية. وتنتهي الرواية دون أن يعرف القارئ كيف انتهت قصة “راشد” و”جوليا” التي استمرّت من بداية الفصل الثاني (ص 9) حتى نهاية الفصل الثامن عشر (ص 118). بعدها يفاجئنا الكاتب أنّ للقصة تتمة (ص 119)، رغم أنّه أبلغنا سابقا أنّها لن تتم إلّا في عمل قادم. وحين نقرأ هذه التتمّة نجد أنّها جزء لا يتجزّأ من الرواية، حدث في زمنها الموضوعي والنفسي معا. هذه التتمة، بعضها يحكي قصة “أنس” وعلاقته بـ “جوليا”، والصراع الذي أورثته هذه العلاقة في نفس “أنس”: هل خان صديقه بتلك العلاقة أم لا؟ وبعده يأخذ “أنس” صديقه “راشد” ليُشاهد المسرحية التي كتبها وكشف عُريه فيها فاغتنم فرصة صعود “أنس”، إلى المنصّة، وهرب إلى البحر ثم تبعه “أنس”. وهناك كان يجب أن تنتهي القصة كما أبلغنا في الفصل الأول إلّا أنّها لم تنته، إذ يفاجئنا الكاتب مرة أخرى بفصلين يفضحان الخيانة بين الأصدقاء، وبفصل أخير بعنوان “الخاتمة”، يتحدّث عن ضبابية الحالة التي عاشها الصديقان بعد الاعتراف. وينتهي الفصل بعبارة تؤكّد هذه الضبابية ولا تقلّ ضبابية عنها، “وظلّت القصة يتيمة”. وفقط بعد أن ننهي قراءة الفصلين الأخيرين من الرواية، نتأكّد أنّ الخيانة بكل أشكالها والتي خيّم شبحها على الرواية كلّها: خيانة الزوج وخيانة الحبيب وخيانة الصديق وخيانة الوطن، هي الهمّ الذي يشغل سعيد نفّاع ويقّض مضجعه، لأنّ الخيانة كما يراها نفّاع، متأصلة في مجتمعنا بشكل مقلق، وهي لا تتجزّأ، لأنّ خيانة واحدة مما تقدّم ذكره، سوف تجرّ وراءها كل الأشكال الأخرى. هذا فضلا عن أنّ علاقات حميمية تربط بين الخونة وغير الخونة، وكأنّ الخيانة غير موجودة، أو كأنّها شيء لا بدّ منه ليستكمل هذا المجتمع صورته التي يستغربها الكاتب ويفضحها.
تتحدّث الرواية من خلال شخصياتها وعلاقاتها، عن الأقلية العربية داخل إسرائيل، ونسيج العلاقات بين مركّباتها، وتستغرب كيف يكون الحبّ والعلاقات الحميمية في مجتمع تقتله المظاهر وينخره سوس الخيانة؟ ويستغرب الكاتب في روايته أكثر: كيف تتعامل الشخصيات مع الخيانة وكأنّها أمر مفروغ منه، وكيف أنّ الخائن يرى خيانات الجميع ولا يرى خياناته؟ أو كيف يُدين خيانات الآخرين ويغفر خيانته؟ أو كيف تسمح له علاقاته بإدانة خيانات بعض الناس، والصفح عن خيانات بعض آخر؟ كل ذلك يجعلنا نعتقد أنّ الكاتب ينظر إلى الراهن المحليّ والعربي عامة، على أنّه راهن مخجل، خاصة عندما يقارنه مع التاريخي الذي يخجل من الراهن حين يقول: “سمعت بكاء مريرا شدّني مصدره وإذا بي أمام حشد ضخم ميّزت فيه خالدا (بن الوليد) وصلاح الدين والمختار والأطرش (سلطان باشا الأطرش) والقسام وجمال الدين وابن رشد وابن سينا والفارابي وأبا العلاء والمتنبي وأبا فراس يعفّرون رؤوسهم بالتراب” (ص 28). فنتساءل: لماذا يُعفّرون رؤوسهم بالتراب؟ أليس خجلا مما يحدث لنا اليوم؟
من خلال شخصية “أنس” ومسرحيته، يُعرّى الكاتب خيانة “راشد”، للوطن. كما يجعل الكاتب “أنس”، يعترف بخيانته لصديقه “راشد”، باعتباره أنّ عدم ردع صديقه عن خياناته هو خيانة. فهو لم يردّه عن خيانة الوطن، ولا عن خيانة زوجته عندما سكت عن علاقته بـ “جوليا”، ولا عن خيانته لعشيقته “جوليا”. ولم تُخبرنا الرواية عن موقفه من عقابها على خيانة لا ندري إذا قامت بها “جوليا أم لا!
وتظهر الخيانة أكثر من خلال شخصية “راشد” الذي خان الوطن فاهتمّ بقضاياه الشخصية ولم يهتمّ بقضية الوطن الذي اغتصب وشرّد أهله. وخان قريته التي تركها بعد أن أكمل دراسته وغادرها إلى حيفا منكرا فضلها عليه ناسيا حاجتها له. وخان زوجته وأولاده عندما تركها وتركهم ليسكن مع عشيقته في حيفا. وخان عشيقته التي وثقت به وباحت له بأكبر أسرارها. والأهمّ من ذلك إنّه لم يلتفت لأيّ من خياناته كما التفت لخسارته لعشيقته “جوليا” التي اعتبرها ملكا له، صَعُب عليه أن يخسره.
وتظهر الخيانة أيضا في اغتصاب الخال لـ “جوليا” ابنة أخته. وفي ذلك أيضا إشارة إلى سِفاح المحارم في المجتمعات الذكورية المتخلّفة. ويظهر أنّ هذه الظاهرة آخذة في الاتساع في مجتمعنا بشكل مقلق. فقد قرأت أكثر من رواية محلية اهتمّت بها.
ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فهناك خيانات تبقى غامضة ولا يُكشف أمرها. يظهر ذلك من خلال شخصية “جوليا” التي صرّحت برغبتها بزيارة صديق مجهول، وبعد حين برغبتها باستقبال ذلك الصديق في بيتها. والغريب أنّها في الحالين استأذنت “راشد”، والأغرب أنّه وافق رغم أنّه لم يكن راضيا. والقارئ لم يرَ الصديق في الرواية، ولم يعرف إذا كان مزعوما أو حقيقيا، ولم يعلم شيئا عمّا تمّ في الزيارتين اللتين كانتا كافيتين ليعتبر “راشد” عشيقته “جوليا” خائنة ويجب عقابها. وهنا يُعالج الكاتب قضيتين هامّتين: يفضح في الأولى كيف يتعامل المجتمع الذكوري المتخلّف مع المرأة عامة، سواء كانت زوجة أو عشيقة أو غير ذلك. ويفضح في الثانية: كيف يكفي الشكّ لنحكم بالإعدام قبل إثبات التهمة على من نشكّ به، وخاصة إذا كان المشكوك فيه امرأة في مجتمع قتلته ذكوريته ودمّره التخلّف.
وعود على بدء. “أنس” و”راشد” صديقان منذ الطفولة تربطهما علاقة قوية رغم ما بينهما من خلاف واختلاف وخيانات. “أنس” الذي عرّى صديقه، يعيش صراعا: هل خان هو صديقه أم لا، وأيّة خيانة، ما دام صديقه “راشد” غارقا في الخيانة بكل أشكالها؟ تبدأ الرواية من النهاية، “بولادة مسرحية كتبها (أنس) بعصارة قلبه، لولا أنّ العراب المختار دون علمه (راشد)، فرّ باكيا أبكاه جارّا إياه إلى البحر” (ص 7). فقد وجد المسرحية بعد رؤيتها على المسرح، تُعرّيه وتؤلمه، خاصة عندما علم أنّ كاتبها هو صديقه “أنس”. فرّ إلى البحر وتبعه “أنس”، وهناك حدثت المواجهة أو المحاسبة أو المعاتبة أو كما قال سعيد نفّاع “سمّها ما شئت”. والأهمّ أنّها لم تنتهِ إلى شيء حاسم.
ورغم أنّ الكاتب أنهى الرواية بفصلين كشف فيهما أشكالا من الخيانة كانت غامضة، إلّا أنّه ختم “الخاتمة” بـ “وظلّت القصة يتيمة” (ص 161). وهذا، كما يظهر لي، يُشير إلى تميّز مجتمعنا، حيث يبقي كل شيء مفتوحا، لأنّه أعجز من أن يُغلق أيّ شيء، سلبيا كان أو إيجابيا. فالعلاقات الحميمية ستستمرّ، والخيانة بأشكالها كذلك ستستمرّ. ولا يلوح، في أفق الكاتب على الأقلّ، بارقة أمل تعدنا بالتغيير الذي يسعى إليه.
وفي ختام هذه العجالة، سعيد نفّاع الذي خطا خطوة تستحقّ الذكر في عالم سرده، رغم أنّه ما زال بحاجة لخطوات كثير باتجاه فنيّة السرد وبناء أشكاله، إلّا أنّه يظلّ صاحب فكر، وفي جعبته الكثير مما يستحقّ أن يُدفق في قوالب فنيّة ترقى إلى مصافّ الإبداع. ولذلك، لن نلعن سعيد نفّاع الذي خاض تجربة أخرى، حقّقت قفزة ملموسة، وفيها من جرأة الاعتراف ما لا يقدر عليه كثر من المبدعين، بين مزدوجين وبدونهما.