قراءة في رواية “بيروت ٧٥” للكاتبة غادة السمّان
مقدمة
كل من يتصفح حياة غادة السمان وأعمالها، يجد أنّ الكثير من أعمالها القصصية والروائية، تلفت الانتباه، حتى من عناوينها، إلى مدى اهتمام هذه الكاتبة بمدينة بيروت، ولكن ليس بيروت المظهر أو ما يُسمّى، “باريس الشرق”، وإنما بيروت الواقع والصراع الطبقي الاجتماعي والسياسي، بيروت القاع والصراع مع الفقر والمرض، بيروت التي تفترس أولئك الذين يستهويهم الشكل والمال والشهرة فيأتوها طامحين طامعين بتحقيق أحلامهم التي سرعان ما تتحول إلى أوهام تودي بحياتهم أو بعقولهم، وكلا الأمرين موت.
رواية “بيروت 75” كرحلة إلى الضياع والجنون والموت، منذ لحظة انطلاقها تشعرك أن الرحلة محفوفة، ليس بالمخاطر بقدر ما هي محفوفة بصراعات غريبة متشعبة تشعب الشخصيات فيها. ومنذ لحظة اختفاء النسوة المحجبات الثلاث، على الحدود السورية اللبنانية، بعد بكائهن الغريب والمثير في “التاكسي”، تشعر أنك بدأت رحلة الجنون والضياع، ولذلك ما إن تتدرج في قراءتك نحو نهاية الرواية، حتى تبدو لك هذه النهاية، التي آل إليها كل من ياسمين وفرح، بطلي الرواية الرئيسين، نهاية طبيعية جدا لأحداث تدور في هذه المدينة المشحونة المجنونة، حيث تقتل ياسمين ويجنّ فرح الذي عندما يهرب من مستشفى المجانين يسرق اللافتة المعلقة على مدخل المستشفى ويذهب بها إلى مدخل بيروت فينتزع اللافتة المكتوب عليها “بيروت” ويثبّت مكانها اللافتة التي انتزعها عن مدخل المستشفى، “مستشفى المجانين”. ليعبّر بذلك: أولا، عن شعوره بالوحدة والضياع، وثانيا، عن غرابة عالم بيروت وجنونه، بل وعن اغتراب بيروت نفسها عن نفسها. بيروت التي تفترس داخليها، بيروت المفاهيم المقلوبة، بيروت التي يبدو فيها الأموات هم الأحياء، والأحياء هم الأموات، والمجانين هم العقلاء، والعقلاء هم المجانين.
هذه الرواية تعكس بصدق شديد إرهاصات ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت بعد بضعة أشهر فقط من صدور الرواية. وقد أبدت فيها الكاتبة حساسيتها الشديدة لما يجري على الساحة اللبنانية عامة، وفي بيروت بشكل خاص. وعبّرت عن صدق مجسّاتها من خلال العرافة التي لا شكّ أنّها تمثل غادة السمان نفسها التي تنبّأت بالحرب والتي عنما سئلت: في روايتك “بيروت 75″ تنبّأت بالخراب الذي حدث في لبنان، من أين تأتي غادة بحس العرافة؟”، فأجابت: ” … ما فعلته قبل أن أكتب “بيروت 75″، ذهبت إلى المناطق اللبنانية كلها، حيث الفقر والمعاناة، … كما ذهبت إلى مستشفيات المجانين والسجون وعايشت معذبي مجتمعنا، وركبت القوارب مع الصيادين ليلا وعايشت مآسيهم، وبعد ذلك كله جاءت نبوءة عرافتي في رواية “بيروت 75”. ولا أنكر أنها أدهشتني وأخافتني وأنا أسطرها … وما من نبوءة بدون تحسس وجوه المتألمين كما يتحسس الأعمى كتابا بلغة برايل … ولحظتها كتبت نبوءة العرافة … حين صرخت برعب “أرى كثيرا من الدم” وبعدها بأشهر انفجرت الحرب اللبنانية”. (منصر، 2009، حوار مع غادة السمان)،
في هذه الدراسة سأقدم بعد هذه المقدمة، نبذة عن حياة غادة السمان وأعمالها، ثم ملخصا للنص “بيروت 75″، موضوع هذه الدراسة، ثم تحليلا سريعا لأسلوبها ولغة النص فيها، ثم أنهي بخلاصة لا بدّ منها.
الكاتبة: غادة السمّان
كاتبة سورية ولدت في دمشق عام 1942. كان والدها محبا للعلم والأدب ومولعا بالتراث العربي، ما منح شخصيتها الأدبية والانسانية أبعادا متعددة ومتنوعة. أصدرت مجموعتها القصصية الأولى “عيناك قدري” عام 1962، وكواحدة من الكاتبات النسويات، اللواتي ظهرن في تلك الفترة، هي الوحيدة التي استمرت وقدمت أدبا مختلفا ومتميزا خرجت به من الإطار الضيق لمشاكل المرأة إلى آفاق اجتماعية ونفسية وإنسانية. في بيروت التي كانت مركزا للإشعاع الثقافي برز اسم غادة السمان في عالم الصحافة بعد حصولها على الليسانس في الأدب الإنجليزي، والماجستير في مسرح اللامعقول من الجامعة الأمريكية. وقد ظهر أثر ذلك في مجموعتها القصصية الثانية “لا بحر في بيروت” عام 1965.
تنقلت الكاتبة بين العواصم الأوربية كمراسلة صحفية واستغلت ذلك لاكتشاف العالم والتعرف على مناهل الأدب والثقافة، ما ساهم في صقل شخصيتها الأدبية، وظهر أثر ذلك في مجموعتها الثالثة “ليل الغرباء” (1966) حيث أظهرت نضجا كبيرا ما هيّأ لها اعتراف كبار النقاد أمثال محمود أمين العالم بها وبتميزها.
شكّلت هزيمة حزيران 1967 صدمة كبيرة للكاتبة وجيلها، فكتبت مقالها الشهير “أحمل عاري إلى لندن”، وكانت من القلائل الذين حذروا من استخدام مصطلح “النكسة” لما له من أثر تخديري سيئ على الشعب العربي. ولذلك توقفت لفترة ما بعد الهزيمة عن الكتابة لكنها تابعت عملها في الصحافة ما زادها قربا من الواقع الاجتماعي فكونت مقالاتها الصحفية سمادا دسما لمواد ادبية ستكتبها لاحقا. في عام 1973 أصدرت مجموعتها الرابعة “رحيل المرافئ القديمة” والتي اعتبرها البعض الأهم بين أعمالها حيث قدمت، بقالب أدبي بارع، المأزق الذي يعيشه المثقف العربي والهوة السحيقة بين فكره وسلوكه. وفي أواخر 1974 أصدرت روايتها “بيروت 75” والتي غاصت فيها بعيدا عن القناع الجميل لسويسرا الشرق إلى حيث القاع المشوّه المحتقن، وقالت على لسان العرافة في الرواية “أرى الدم .. أرى كثيرا من الدم” وما لبثت أن نشبت الحرب الأهلية بضعة أشهر بعد صدور الرواية. بعد روايتيها “كوابيس بيروت” 1977، و”ليلة المليار” 1986، هناك من اعتبرها واحدة من أهم الروائيين العرب بغض النظر عن جنسهم. واعتبرها بعض النقاد الكاتبة الأهم حتى من نجيب محفوظ.
غالي شكري (1990) مثلا، يميّزها عن كل من عاصرها من الكاتبات العرب ويضعها في مستوى الكتاب الكبار حين يقول: “هكذا يتحتم على النقاد أن يروها على حقيقتها، ألا يقعوا في حبائل الخداع أو البدعة التي ننفرد بها: ما يسمّى بالأدب النسائي. لا علاقة لغادة بما تكتبه أكثرية الأخريات، وإنما علاقتها التي يمكن الحديث عنها، بالأدب العربي الحديث، بكتابات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وحنا مينة وغائب طعمة وفؤاد التكرلي ويوسف الأشقر وغسان كنفاني وإميل حبيبي وحليم بركات وغيرهم ممن يستحيل وصف أدبهم بأنه أدب رجالي، بل هو أدب فحسب، هو أدبنا، وجداننا وعقلنا … في هذا النطاق تجيء روايتها الجديدة والكبيرة والأولى، “بيروت 75″”. (شكري، ص 102).
وفيما يتعلق بظاهرة الجنس في أدب غادة السمان ترى دي كابوا (1992) نقلا عن عفيف فراج في كتابه “الحرية في أدب المرأة” وقد كتب عن إحدى بطلات قصصها “التي مارست الحب على رمل الصحراء كرمز لالتصاقها بأرض الوطن الأصلي واتحادها بالهوية الجديدة … وهكذا يصبح الجنس في الفن رمزا لما هو أكبر من حجم الجسد، فالمشاهد الجنسية رغم ما تكشفه من نزعة “ديونيزية” إلا أنّها ليست موجودة لذاتها ولا أحد يستطيع أن يصنفها في خانة الإثارة” (ص، 79). وهكذا تصبح ظاهرة الجنس، التي أشغلت الكثيرين، تشهد لها أنّ الجنس في أدبها كان دائما في خدمة السياق الروائي والبعد الدرامي للشخصيات ولم تنزلق أبدا إلى تقديم أدب إباحي كما فعل غيرها من الكاتبات، فمثلا، العجز الجنسي الذي يصيب بطل “ليلة المليار” المثقف هو رمز درامي كثيف لعجز المثقفين العرب عموما في مواجهة أزمات الأنظمة وانهيار الحلم العربي الجميل.
تزوجت غادة في أواخر الستينات، كان زواجهما آنذاك بمثابة الصدمة لاختلاف في الطباع الشخصية بينها وبين زوجها الدكتور بشير الداعوق، لكنه استمر وقد برهنت غادة على أن المرأة الكاتبة المبدعة يمكن أيضا أن تكون زوجة وفية تقف مع زوجها وهو يصارع السرطان حتى اللحظة الاخيرة من حياته.
تجمع غادة في أسلوبها الأدبي بين تيار الوعي في الكتابة ومقاطع الفيديو-تيب مع نبض شعري مميز خاص بها. صدر لها عدة كتب نقدية وبعدة لغات، كما ترجمت بعض اعمالها إلى سبع عشرة لغة حية. عام 1997 أصدرت روايتها “الرواية المستحيلة: فسيفساء دمشقية” وهي بمثابة سيرة ذاتية، و”سهرة تنكرية للموتى” عام 2003 والتي عادت فيها للتنبؤ بأن الأوضاع في لبنان معرضة للانفجار. عند النظر إلى إنتاج غادة السمان الأدبي نجد أنه غزير ومتنوع، فقد كتبت القصة القصيرة والرواية والمسرحية والشعر والنقد الأدبي وأدب الرحلات والمقالة الصحفية.
النص: ملخص “بيروت 75”
في شارع دمشقي تبدأ الرواية، الرحلة إلى بيروت، حيث يستقل البطل فرح سيارة تكسي ويرحل عن دمشق بصحبة ياسمينة التي لا يعرفها، وثلاث نسوة محجبات، إلى بيروت التي يرى فيها حلمه كما جاء على لسانه في الصفحات الأولى: “كلهن وكلهم يحلم ببيروت، لست وحدي، لكنني وحدي ذاهب لاقتحامها”.
في النقطة الحدودية بين سوريا ولبنان تختفي النسوة المحجبات، وفي الطريق بعد ذلك وفي محطات مختلفة ينضم إلى الرحلة أبو الملا وأبو مصطفى السمّاك وطعّان، ثلاث شخصيات بيروتية مقهورة تسكنها المخاوف والأحزان. تطلعنا الكاتبة على أوجاع تلك الشخصيات من خلال توظيفها لتقنيات تيار الوعي، فنلمس معاناتها من خلال أصواتها الداخلية، وعند الوصول إلى مدخل بيروت ونهاية الرحلة في التاكسي تتشعب طرق الشخصيات لتتحرك كل شخصية بمعزل عن الأخرى. ليجد القارئ نفسه أمام رواية مكونة من خمس قصص تبدو مستقلة ولكنها تتوازى وتتقاطع في تشكيلها للفعل، الرواية.
بعد الوصول إلى بيروت وتفرق الشخصيات تبدأ رحلتنا مع ياسمينة، تلك الفتاة الدمشقية، التي كانت مدرّسة في مدرسة الراهبات، تمتلك موهبة شعرية، تحلم بالمجد والشهرة والثراء، وترى بيروت المكان المناسب والمناخ الخصب لتحقيق أحلامها.
في بيروت نعيش مع ياسمينة لحظات الحب والحرية من خلال علاقتها بنمر السكيني، الشاب الثري الذي ترى فيه كل أحلامها والذي تتلاشى شخصيتها أمام شخصيته وعالمه، فتنتهي بها هذه العلاقة إلى حزن ويأس بعد أن تحول نمر عنها، وقدمها إلى صديقه نيشان. في اللقاء مع نيشان تصحو من رحلة جنونها لتعود إلى رشدها فتجد الموت بانتظارها على يد أخيها الذي قتلها بذريعة الدفاع عن الشرف. ثم يأتي دور فرح الشاب القروي الموظف في المكتبة الوطنية بدمشق، الذي يمتلك صوتاً جميلاً، ويحلم أن يكون مطرباً مشهوراً، ولا سبيل لتحقيق حلمه إلا في بيروت. وهناك تبدأ رحلة ضياعه الحقيقية في البحث عن قريبه، ولما وجده، وجد نفسه مضطرا لبيع نفسه للشيطان، المتمثل بهذا القريب الثري، نيشان. ومقابل أن يصبح مطرباً مشهوراً، يضطره الأمر للتخلي عن رجولته وكرامته في سبيل تلك الشهرة. في داخله كان فرح رافضاً لهذا الواقع، وتمثّل رفضه بانتقاله إلى عالم اللاوعي، إلى عالم الكوابيس وأحلام اليقظة، ثم دخوله إلى مشفى المجانين وهروبه منه، لتنتهي رحلة ضياعه بموت حلمه وعودته إلى دمشق مهزوماً مكسوراً يجرّ أذيال الخيبة. قصتا فرح وياسمينة كانتا أهم قصتين في الرواية، ولكن الكاتبة أرادت أن تغوص أكثر في أعماق المجتمع اللبناني حيث الفئات الاجتماعية المسحوقة التي تعاني القهر والاستلاب وتحلم بالخلاص الذي يقودها في النهاية إلى موت أسطوري. ولتكشف لنا الكاتبة معاناة تلك الطبقة المسحوقة، جاءت بالشخصيات الثلاث الأخرى. أولها أبو مصطفى الصياد الذي عاش حياته وهو يحلم في العثور على المصباح السحري، ظناً منه أنه حبل النجاة والخلاص من الفقر والقهر له ولأسرته المؤلفة من اثني عشر شخصاً. فهو يخرج كل ليلة ليبحث في أعماق البحر عن ذلك المصباح لعله يعلق في شباكه، وفي إحدى الليالي يعتزم اصطياد المصباح فيشعل حزمة ديناميت ويرميها، ويرمي بنفسه معها لتتفجر ويتمزق معها جسده، ويكون بهذا قد أنهى رحلة عذابه وشقائه.
وأبو الملا، حارس الآثار الذي سرق تمثالاً لم يُنقَلْ بعد إلى المتحف ليبيعه وينهي به رحلة فقره ويفتدي بثمنه بناته الثلاث الخادمات في قصور الأغنياء، لكن هذا التمثال الصغير يتحول في وهم أبي الملا إلى رجل عملاق يخنقه. أما الحقيقة فأنه قد مات بالنوبة القلبية فقد كان مريضا القلب.
وأخيرا طعّان، الصيدلاني المذعور الهارب من الثأر، فقد قتل إنساناً خطأً، متوهماً أنه يطارده ليكون السبب في إعدامه، وهو الذي كان يتحرق للعودة إلى الوطن ليفتح صيدلية في بعلبك، حيث يفاجأ أنه مطلوب دون غيره للثأر لأنه يحمل شهادة، إنه القانون العشائري الذي يقضي أن يكون الثأر لقتيل متعلم بقتيل يوازيه، وهم العدالة القاتلة.
كما رأينا، تتكون هذه الرواية من خمس قصص تبدو مستقلة ولكنها ليست كذلك، فهي تتوازى وتتقاطع، كما قلت، فنلمح، من خلال وجوه شخوصها، شخوص الرواية وحركاتهم التي تشكل الفعل على امتداد الرواية، وجه بيروت البشع قبيل الحرب الأهلية، حيث يكون الحدث الذي يشغل الشخصيات جميعا هو حدث مشترك يتمثل بالبحث عن الخلاص من دائرة القهر الاجتماعي والسياسي.
الأسلوب
“افتحوا النوافذ لنسمة جديدة … لأسلوب جديد … دعوني أستفيد من الفرص المدهشة في عالمنا العربي الذي ينوء تحت ركام التراث: عدم وجود تراث للرواية العربية”. هذه العبارة تنقلها نجلاء الاختيار (1991) عن (نبيل سليمان، 1982، الرواية السورية)، والتي ترد فيها غادة السمان على النقاد الذين اتهموها بأنها تكتب القصة وتقدمها على أنها رواية. (ص 50).
نقاد كثيرون كتبوا عن غادة السمان وعن تجربتها في الكتابة بشكل عام وعن تجربتها الروائية بشكل خاص. ومعظمهم أظهر تحمسا ملحوظا لهذه التجربة. ولكن، ربما يظل الناقد غالي شكري (1990)، في كتابه عنها “غادة السمان بلا أجنحة” هو الأكثر تحمّسا بين المتحمسين، فقد سبق لنا أن ذكرنا أنه يضعها بين كبار الروائيين العرب في الأدب العربي الحديث. وعند حديثه عن رواية “بيروت 75” وعن أسلوب غادة السمان فيها، يرى “أنها رواية تشق مجراها الخاص ضمن التيار العربي العظيم … فهي لا تستجدي منجزات الرواية “الطليعية” في الغرب أحدث موداتها، وهي لا تنسخ واحدا أو أكثر من الرواد العرب. وإنما هي تسند ظهرها على تراثها الحديث بأكمله وتشد قامتها إلى سماء العصر وتغرس قدميها في طين أرضها ثم تتنفس وتشم وتسمع وتذوق وتلمس بكل ما أوتيت من حواس الذات الأصيلة” (ص، 102-103). وهي في اعتمادها للزمن الموضوعي في روايتها “تنطلق من أبسط قواعد الحكاية اكثرها رسوخا في تراثنا الروائي المعاصر، وهي قواعد “الحدوتة” التي لها بداية ووسط ونهاية … والحدوتة بدورها لا تتخلى عن السرد، (حتى وأن كانت هنا وهناك) تداعب الحوار والمسرح السحري والسينما الجديدة، ولكن السرد يظل الأداة الرئيسية للحدوتة … وتتيح التجربة في “بيروت 75″ للسرد فرصة السيادة” (ن. م. 103). ما من شك أنّه بعد الحدوتة والسرد تأتي الشخصيات وارتباطها بزمن الأحداث ومكانها لتملأ فضاء الرواية سواء لاحظنا مكانة الراوي أو لم نلحظها إذ أن الكاتبة أعطت للشخصيات فرصة كبيرة للتحدث عن نفسها وإن كانت ذلك غالبا من خلال صوتها الداخلي الذي يجعلنا نحس أثناء قراءتنا للرواية وكأننا “أمام مونولوج طويل متعدد الوجوه” (ن. م. 103) مستمر من بداية الرواية إلى منتهاها.
البداية والنهاية:
إذا استثنينا البداية الفنية للسرد كما اختارتها الكاتبة، بداية السرد الذي يبدأ مع أول جملة في الرواية “الشمس شرسة وملتهبة” (بيروت، ص 5)، ونظرنا إلى الرواية على أنها حلم، حلم قديم ومستمر كما يرى غالي شكري (1990) “نحن أمام صبية وشاب من دمشق يشتركان في رقة الحال ورق الشعور، ماضيهما متقارب، والحلم بالمستقبل يكاد يكون واحدا، بل إنّ اسميهما – ووسامتهما – جزء لا ينفصل عن حلم الأب والأمّ، فهي “ياسمينة” وهو “فرح” وكأنّ الحلم قديم قدم الجذور” (ص 107)، يتضح لنا أنّ الحلم لم يبدأ مع بداية السرد وإنما كان سابقا له، وإذا رأينا هذا الحلم يتحول إلى نبوءة تظهر ملامحها من بداية الرواية مع النساء المحجبات الثلاث اللاتي يصعدن إلى التاكسي، ولكنها لا تنتهي بنهايتها، نرى أنّ الحدث لا يبدأ ببداية الرواية ولا ينتهي بنهايتها. فهو حدث له جذوره الضاربة قبل بداية الزمن الموضوعي للرواية ويمتد إلى ما بعد نهايته كذلك. فكأننا، من حيث الدلالة على الأقل، أمام رواية لا بداية لها ولا نهاية، وكأنما هي امتداد لامتداد مستمر إلى ما بعد نهايتها الفنية. أو “لأنّ الحدث الرئيسي “يتكون” على طول الرواية فإنه لا ينتهي بنهايتها، ولأنه لا ينتهي تصبح الرواية نبوءة” (ن. م. 133). وهذه النبوءة هي فعل ديناميكي لا ينتهي بنقطة النهاية بعد الكلمة الأخيرة في الرواية” (ن. م. 112). ويتفق معنا في ذلك شبيل (1987) الذي يرى أنّ منطلق الرواية ليس في الحقيقة “بداية” بالمعني الكامل وإنما هي نقطة تمفصل، لأنها منعرج في طريق البطل (ص، 71)، وكذلك حسب رأيه، لا نهاية لـ”بيروت 75″ لأنّ رواية “كوابيس بيروت” هي امتداد لها بحيث تشكل الروايتان رواية واحدة إذ يقول: “وهكذا، واعتمادا على هذه الأدلة المنتقاة، نستطيع أن نقول إنّ “بيروت 75” و “كوابيس بيروت” تمثلان في الحقيقة رواية واحدة” (ص، 42-45).
أما من الناحية الفنية فالكاتبة تبدأ روايتها في فصلها الأول بمقدمة أو افتتاحية (Prologue) كثفت فيها النبوءة التي ستلازم القارئ إلى ما وراء حدود الرواية الفنية. وقد تأتّى لها ذلك بحسّ فني عال سواء كان من خلال اختيارها للشخصيات، كل الشخصيات التي شاركت في الرحلة إلى بيروت، أو من خلال طريقة تقديمها، أو من خلال اختيار حدث الانطلاق، السفر أو الرحيل الذي تجسد بالسائق وسيارة التاكسي كوسيلة للسفر أو كمكان مغلق حوصر فيه المشاركون على امتداد الرحلة. من خلال الشخصيات فإنّ النسوة الثلاث المحجبات، بزيّهنّ الأسود وبكائهنّ المثير واختفائهنّ المفاجئ على الحدود السورية اللبنانية قد أشرن إلى بداية النبوءة. وقد أكدّ ذلك ما جاء على لسان البطلين: ياسمينة وفرح. أما ياسمينة فلم يصدق تفكيرها بشأن النسوة حين فكرت: “لعلهن ذاهبات إلى مأتم قريب لهن قضى نحبه في بيروت” (بيروت، 7)، وقد كانت الكاتبة شديدة الذكاء عندما اختارت ألا يصدق تفكير ياسمينة، لأنها أرادت بذلك أن تبرز تفكير فرح، الذي يؤكد أنّ النسوة ما هن إلا محرك للنبوءة، عندما تساءل: “لماذا ينتحبن هكذا؟ تراني ذاهبا إلى موتي وعرافات القدر يشيعنني ويبكينني؟” (بيروت، 7).
الحبكة:
الشكلانيين الروس ميّزوا بين الحكاية والحبكة، ورأوا في الحكاية المادة الخام للحبكة، أمّا الحبكة فهي تنظم أحداث الحكاية وتربط بينها بنظام معين. والبنيويون (أتباع دي سوسير) طوّروا مفهوم الشكلانيين الروس للحبكة ورأوا فيها النصّ كلّه: الحكاية والسرد والخطاب القصصي (هيبي، 2009، ص 39). يستنتج من ذلك أنني ممن يرون أن النص، أي نص قصصي، هو الحبكة أو أنّ الحبكة هي النص بكليته، بغض النظر عن تشعب الأحداث وتعدد الشخصيات وتعدد خطوطها القصصية، وأنّ هذا لا علاقة له بكون الحبكة “محبوكة” أو غير “محبوكة”، قوية أو ضعيفة، متماسكة أو مفككة لسبب أو لآخر، وأنّ هذه المقولات حـول الحبكة ما هي إلا آراء واجتهادات قابلة للنقاش إذ تختلف معاييرها مـن ناقد لآخر وتتعلق كذلك بمدى فهم الناقد لمراد الروائي في أسلوبه أو في توظيفه للتقنيات المختلفة في عمله الروائي. وكمثال لما تقدم، في رواية “بيروت 75″، هنالك من يرى إنّ حجم الرواية (بيروت 75، 108 صفحات)، لا يتسع لهذا الكم الكبير من الشخصيات، خمس شخصيات أساسية بينها بطلان أحدهما أساسي، وشخصيات ثانوية أخرى كثيرة، مما يجعل الحبكة تضيق عليها فتفقدها تماسكها. لمثل هؤلاء النقاد وغيرهم يقول غالي شكري (1990) أن غادة السمان توفر لهم الكثير كمادة للنقد ولكن نقدهم لا يفيد العمل الأدبي بشيء لأنهم لا يفهمون جوهر عملها الفني الذي تلمّسته بدءا من افتتاحيتها في الفصل الأول وانطلاقا إلى العمل كله مرتكزة في ذلك على أربع ركائز مهمة جدا: اختيارها للنماذج البشرية وخاصة الشخصيات الخمس الأساسية منها والتي سنوسع الحديث عنها في الباب التالي عن الشخصيات. ثمّ أسلوب تقديم هذه الشخصيات وهو التركيب الروائي الذي تتوصل إليه غادة السمان عبر مجموعة قديمة وحديثة من أدوات التعبير سرعان ما تتحول إلى ادوات للتفجير، تفجير الحدث الذي يبلور مصير الشخصيات المفردة في مصير شامل يخصّنا جميعا. وذلك هو جوهر النبوءة التي صاغت بناء الرواية منذ البدء في نسيج “الحلم” وعناصر المونولوج الداخلي المتقطع وتداخل الأزمنة بشكل مثير، واستخدام اللفظ وتركيب الجملة وتوظيف الفقرة في سياق كابوسي موحد القسمات متنوع الملامح. ثمّ بداية الحدث الروائي، السفر وما له من دلالات كفعل للإرادة البشرية في مواجهة للثبات المفروض عليها. وأخيرا كون السائق تجسيدا مطلقا لمعنى السفر (شكري، 107-114). ما يعني أنّ الفهم الحقيقي لما أرادته غادة السمان في “بيروت 75” لا يدع مجالا للشك أنها أجادت في نسج حبكتها، وأنّ ضيق المساحة أو الحجم وكثرة الشخصيات وتشعب الأحداث، كلها مجتمعة شكلت امتحانا لغادة السمان مرّته بنجاح وبتميّز لافتين.
الشخصـيات:
“تنهـج غـادة السمان في روايـتها نهـجا يشابـه – مـن بعـيد – ذلـك النهـج الذي عـرفـناه في “الصخب والعـنف” لولـيم فولكنر … إنه القـالـب الذي يعتمد على تمحور مجمـوعـة مـن الشخصيات حـول حـدث مشترك، سواء كانـت الشخصية الواحـدة تـمـثل “وجـهة نظر” مغايرة لبقـية الشخصيات … أو كـل شخصية تمـثل عنصرا في الحـدث الروائي يتكـامـل مع بقية العناصر، أي بقية الشخصيات” (ن. م. ص 114-115).
هناك من يعتبر حشر هذا الكم الهائل من الشخصيات مأخذا على غادة السمان، ولكن إذا انتبهنا إلى ما أشرنا إليه سابقا، أي إلى طريقة عرض هذه الشخصيات كما أشار إلى ذلك غالي شكري (ن. م. ص 109-112)، نرى أنّ كل شخصية من الشخصيات: الخمس الأساسية والأخرى الثانوية حتى التي تبدو هامشية منها، إنما جاءت لتلعب دورها المرسوم لها بإتقان شديد، بدءا بفرح وياسمينة وانتهاء بأقل الشخصيات ظهورا، الأمر الذي يبرز بالتالي المجتمع البيروتي بطبقاته المختلفة والمتعددة، البرجوازية المتوسطة بغناها الفاحش وأخلاقياتها المنحطة، والبرجوازية الصغيرة المسحوقة وفقرها المدقع والتي تضطر، غالبا نتيجة ظروفها المادية الصعبة، للتخلي عن أخلاقياتها الأصيلة واذدنابها للأغنياء المتسلطين في سبيل توفير لقمة العيش والحماية. وهذا بدوره يبرز الصراع الطبقي بين هذه الطبقات، الساحقة والمسحوقة. خمس شخصيات أساسية تقدمها غادة السمان في رحلة إلى بيروت، تهتم باثنتين منها بشكل خاص “ياسمينة وفرح” تلعبان دور البطولة مع وضوح أنّ البطولة الأساسية لـ “فرح” الذي يمتد حضوره على امتداد الرواية من لحظتها الأولى إلى نهايتها. البداية، الرحلة أو السفر من دمشق والمحطات التالية، تمثل الانتقال من الواقع والانطلاق إلى بيروت، الحلم الذي يتحول إلى وهم أو كابوس لدي جميع الشخصيات. محطات الانطلاق مختلفة لأنّها تمثل اختلاف الواقع الذي جاءت منه كل شخصية رغم أنها تتفق في انتمائها الطبقي للفئات المسحوقة، ولكنها تنتهي جميعا إلى نهاية واحدة، الموت أو الجنون، وكله موت. كل واحدة من هذه الشخصيات تنسلخ عن واقعها في لحظة انعتاق من الماضي واستعدادا لاستقبال مرحلة جديدة (شبيل، 1987، ص 71)، أو هو انطلاق لهدف ما: المال والشهرة في حالتي ياسمينة وفرح، الهروب من القتل في حالة طعّان، العودة من عند المرابي في حالة بو مصطفى والعودة بعد ترك ابنته للعمل في قصور أحد الأثرياء في حالة أبي الملا. (ن. م. 72).
هذه الشخصيات، الخمس الأساسية ولكن بشكل خاص ياسمينة وفرح، كما يرى النابلسي (1990) هي شخصيات تمثيلية غالبا ما تكون شخصية رئيسية في العمل الفني وتقوم بحكم رئاستها بالتعبير عن عواطفها وأحاسيسها وأفكارها تعبيرا تاما ومفصلا، وتقوم بالتمثيل في العمل الفني بحرية تامة … وعندما تظهر (مثل هذه) الشخصية التمثيلية في القصة أو الرواية، فإنّ شخصية المبدع تختفي، وتكون العلاقة بين الشخصية التمثيلية وشخصية الكاتب تضادية (ص 266-267). هذا الوصف يتلاءم كثيرا مع شخصيات غادة السمان في “بيروت 75” وخاصة مع ياسمينة وفرح الذين تتركنا غادة السمان أو الراوي لنكتشفهما من خلال أفكارهما وذكرياتهما وحوارهما الداخلي، أي من خلال الصوت الذي ندركه ولا نسمعه لأنّ الكاتبة تأتي به مما يسمى منطقة ما قبل الكلام، وباختصار، من خلال تقنيات تيار الوعي التي توظفها في الرواية. وما أكثر الأمثلة على هذه الأصوات على امتداد الرواية وما أسهل الوصول إليها، إذ استعملت فيها الكاتبة تقنية الخط البارز وهي تقنية يُلجأ إليها قسرا احيانا. وكمثال لما تقدم فها هو فرح ومنذ الصفحة الأولى للرواية يعرفنا على نفسه من خلال تفكيره أو صوته الذي لا نسمعه “كلهن وكلهم يحلم ببيروت. لست وحدي، ولكني وحدي ذاهب لاقتحامها” (بيروت، ص 5) ومثال آخر يجمع بين تفكيري ياسمينة وفرح ولكن بأصوات داخلية غير مسموعة: “يفكر فرح (لن اعود إلا ثريا مشهورا) … وتحلم ياسمينة “لن أعود إلا ثرية مشهورة” …” (بيروت، ص 7). وأخيرا، في هذه الرواية، النبوءة، او هذا المشروع الإنساني الذي بنته غادة السمان لاكتشاف الحقيقة، حيث يبدو الالتزام طريقا لانهائيا لتحدي العبث، ويبدو الانتماء فعلا دائم الصيرورة للخلاص من الموت، في هذه الرواية لا تكون النماذج البشرية تلخيصا حارا لوجهات نظر تتعارض أو تلتقي مع بعضها البعض، وليست وجهات نظر تتكامل مع بعضها البعض، ولكنها مجموعة من “الأفعال” التي يشتبك سلوكها ويتقاطع حتى أنّ “مشاريعها” المتباينة الصوت والصدى، والمتباينة التحدي والاستجابة، تصب في النهاية عند خاتمة “المصير” المشترك الذي هو متوقع وليس متوقعا، معا وفي آن واحد. (شكري، ص 116-117).
حاولت بإيجاز عرض الأسلوب الذي قدمت به الشخصيات دون التطرق إليها بشكل خاص ودون اقتحام دلالاتها بعمق لأنّ ذلك يستدعي مجالا أوسع بكثير من حدود هذه الدراسة. وهو الأسلوب الذي سأعتمده في تقديم بقية مركبات الرواية كجزء من مركبات أسلوبها.
الزمن:
توفر علينا غادة السمان الكثير إذا أردنا أن نفكر بزمن الكتابة، فلقد عوّدتنا أن تسجل بداية ونهاية زمن كتابتها للنص بعد انتهائها منه. وهذا ما فعلته أيضا في الصفحة الأخيرة من “بيروت 75”. زمن الكتابة هو زمن خارج النص ولا يهمنا كثيرا في فهم النص وحصر دلالاته. ولكنه في رأيي وفي “بيروت 75” بالذات، يعني الكثير، فإذا انتبهنا إلى سرعة كتابة النص والانتهاء منه كمسوّدة، خمسة عشر يوما، من 9/10/1974 حتى 23/10/ 1974، وإلى سرعة المراجعة والتعديل التي لم تتعدّ الشهر، من 24/10/1974 – 22/11/1974، نجد أنّ هذه السرعة تشي بأن غادة السمان كانت تسابق الزمن لكي تنهي عملها قبل تحقق نبوءتها، وكأنه ليس في الأمر نبوءة ولا ما شابهها، وإنما معايشة غادة، لواقع بيروت قبيل الحرب وفهمها العميق له، جعلها بحسّها المرهف وحساسيتها الشديدة لكل ما يحدث، أشدّ بصرا وبصيرة من زرقاء اليمامة بحيث “رصدت في واقع الامر الحال العربي” (النابلسي، ص 200)، فتأكدت من هذا الحال أنّ البقية ستأتي سريعا. بضعة أشهر مرت فقط على الانتهاء من كتابة النص واندلعت الحرب الأهلية عام 1975. سرعة الكتابة وهاجس غادة السمان بإن أمرا جللا سيحدث، أدّى إلى أن تعتمد زمنا موضوعيا قصيرا، بضعة أشهر، وقد استخدمت اللغة بشكل جيد للتعبير عن الزمن. فإذا انتبهنا إلى العبارات التي استخدمتها كلازمة في بدايات بعض فصول الرواية نجد أنّ الفصل الأول بدأته بعبارة “الشمس شرسة وملتهبة” (بيروت، ص 5) ما يعني أنّ الوقت صيف، بينما الفصل الأخير افتتحته بعبارة “برد. برد. برد يخترقني حتى قاع عظامي” (بيروت، ص 107) ما يعني أنّ الوقت شتاء. أي أن الرواية تمتد أحداثها من الصيف إلى الشتاء. حتى ليمكننا أن نحدّد العام الذي جرت فيه الأحداث لو أردنا وذلك عن طريق ربط الأحداث بأحداث سابقة للسفر، قصف الطائرات الإسرائيلية لدمشق، “وتذكرت (ياسمينة) كيف كانت تمطر طائراتهم (إسرائيل) موتا فوق دمشق منذ اقل من عام” (بيروت، ص 16)، أو أحداث تالية لأحداث الرواية (اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بعد بضعة أشهر). ومعظم النقاد متفقون على هذا التحديد. لا يقلّ أهمية تعامل غادة السمان مع الزمن النفسي حيث تلجأ إلى تقنيات تيار الوعي لوقف الزمن أحيانا ولتكسيره أحيانا أخرى. فقد كانت تلجأ إلى وقف الزمن أحيانا للوصف السردي أو السرد الوصفي كما يسميه شاكر النابلسي (1990 ص 257-258) مقتبسا لذلك الفقرة التالية من الرواية: “سار قليلا ثم انهار على كوم من الشِباك. ترك وجهه يغرق فيها. وكانت متعة عجيبة أن يشمّ رائحة حبالها المالحة تخترق رأسه، ويسمع خلالها أصوات آلاف الأمواج التي طالما تلاعبت بهذه الشبكة. ويمتلئ رأسه برائحة رطوبة لزجة زنخة، ممزوجة برائحة أعشاب البحر، وترقص فوق صفحة وجهه كل الأسماك التي أدت رقصة الموت داخل الشبكة. وعبثا حاولت التسرب من شقوقها الضيقة لتعود إلى البحر، إلى الحرية والحياة … رغم دواره كان صوت الأمواج ساحرا وآسرا، وظلّ مستمتعا بنسيم الليل المحمل بالإيحاءات، المثير لذكريات غامضة شبه منسية كان يعيها في طفولته بشكل أفضل.” (بيروت، ص 30).
وتلجأ لوقف الزمن عن طريق الحوار الذاتي والأمثلة ممتدة على امتداد الرواية، وسأكتفي بمثال واحد على لسان مصطفى وهو ما جاء بين قوسين وبالخط البارز: “سأله أحدهم: “كم الساعة؟” أدهشه أن يسأله عن الساعة. أن يسأل أحد عن أي شيء. (أنا خارج الزمان والمكان. مرميا فوق شباك الصيد، امتطيها كما لو صاروخا يطير بي عبر العصور، عبر المحيط، لأزداد التقاطا لشارات أكثر من عصر وجيل ومكان، واقترابا من الحقيقة المنسية في أعماقي) … يعود الصوت يسأل ملحاحا: “كم الساعة يا مصطفى؟” (هنا لا زمان … لا عصر … لا كوكب محددا … من الممكن أن يكون تاريخ هذا المشهد قبل التاريخ أو بعد ألف عام … هكذا كان البحر والسماء ابدا وهكذا سيظلان … الأنشودة نفسها … الزمن ذاته) …” (بيروت، ص 31-32). وتلجأ الكاتبة، كما ذكرنا، إلى تكسير الزمن بتوظيفها لتقنيتي الاسترجاع والاستباق أو ما يمكن تسميته: الاستذكار والاستشراف. ولكن الاستذكار (الاسترجاع) في رواية “بيروت 75″، كما يرى إبراهيم جنداري جمعة الجميلي (2004)، لا يشغل مساحة مكانية واسعة على خارطة النص الروائي وسبب ذلك يعود إلى طبيعة هذه الرواية فهي صغيرة الحجم – 109 صفحة – وطبيعة أحداثها وشخصياتها أيضاً المنشغلة تماماً بحاضرها من دون الالتفات كثيراً إلى الماضي. أما الاستشراف (الاستباق) فشاكر النابلسي (1990)، يعتبر كل الرواية، “بيروت 75” رواية استشرافية ذات زمن استباقي، يختلط برؤيا استباقية أيضا. (ص، 299). وتأكيدا لذلك فمن الصفحات الأولى للرواية نرى هذا الاستشراف (الاستباق) عندما راح فرح يبحث في نفسه عن احتمالات لمعرفة دافع ياسمينة للسفر، خاصة وأنه لا يعرفها، ويلتقيها لأول مرة، صدفة، كمسافرة معه في سيارة واحدة إلى بيروت “تراها تلميذة في بيروت؟ إنها أكبر من ذلك. لعلها في الخامسة والعشرين. تراها ذاهبة لتشتري ثيابها كالبورجوازيات الدمشقيات؟ لكن أمها تبدو رقيقة الحال. تراها مثلي تفتش عن المجد” (بيروت، ص 8).
المكان:
يمكننا أن نصرف النظر عن المكان خارج بيروت لأنّ الرحلة إليها كان من الممكن أن تكون من أي مكان ويكفي أن نذكر أنها رحلة من مكان قمعي، سواء كانت دمشق، او غيرها، التي تقمع ياسمينة وفرح فتجعلهما ينظران إلى بيروت كحلم أو كمكان فيه تتحقق الأحلام، من دون أن يدركا أنهما ينطلقان أو يهربان إلى مكان أكثر قمعا.
بيروت كلها كمكان للأحداث تظهر في الرواية مكان قمعيا يتربّص بالشخصيات. ولكن يجب أن ننتبه أنّ غادة تقسم بيروت إلى أمكنة مفتوحة وأخرى مغلقة. وهي بذلك إنما تعبّر عن نفسيات الشخصيات. في الأماكن المفتوحة تجد الشخصيات راحة نفسية وانطلاقا ونظرة متفائلة إلى الحياة، بينما في الأماكن المغلقة يكون القمع والانقباض والنظرة المتشائمة أو السوداوية إلى الحياة. وهذا ينسحب على معظم الشخصيات في أغلب الأحيان. وإن كان هذا ليس قاعدة، إذ يمكن للمكان المفتوح أن يكون عدائيا أو المكان المغلق أن يكون حميميا. ولكن إذا تابعنا حالة ياسمينة مثلا سنجدها على “يخت”، في البحر، المكان المفتوح، سنجدها أكثر حرية وسعادة وحبا وانطلاقا وانفتاحا على الحياة. يبدو ذلك جليا في سعادتها ومتعتها في ممارسة الجنس مع نمر. وياسمينة هذه هي غير ياسمينة التي نلتقيها في شقة نمر، المكان المغلق، فهناك نجد ياسمينة القلقة، المحاصرة، المتشائمة، الخائفة، التي تحاصرها الجدران ويقتلها الشك والانتظار. فلنتابع هذا المقطع لياسمينة في شقة نمر في حوارها مع السلحفاة التي تمثل جزءا من ذاتها: “حين يأتي لن أسأله أين كان، ولن أعاتب، ولن أقول شيئاً … سأتابع خطة الانتظار والصمت … بانتظار سقوط المقصلة فوق رقبتي… أحس أنها هناك وأنها ستسقط ولكنني لا أستطيع مناقشته في ذلك ما دام ينكر باستمرار … كل ما أملكه هو أن أنتظر إعدامي كي أسأله بعد ذلك لماذا؟!” (بيروت، ص51). ونكتفي بالسؤال: هل هذه ياسمينة التي شاهدناها في عرض البحر على “يخت” نمر؟ وأغتنم الفرصة هنا لأذكر أن هذا المقطع يشكل بشكل جيد استشرافا آخر استباقيّا لنهاية ياسمينة وموتها قتلا على يد أخيها. من هنا، وبالنظر إلى الزمان والمكان معا، لا يمكننا أن نرى فيهما وعاءين مجردين للأفعال والأحداث، وإنما هما جزء لا يتجزّأ من الأفعال والأحداث، وذلك لأنهما جزء لا يتجزّأ من الشخصيات كذلك، جزء حيّ يؤثر ويتأثر، يدفع بالشخصية إلى الأمام أحيانا، ويشدّها إلى الخلف أحيانا أخرى، وهذا الأمر كتقنية فنية يمكن الكاتبة من استخدام الضمائر المختلفة والانتقال فيما بينها بحرية وسهولة.
الأحداث:
لا شك أنّ المتتبع لمسار الأحداث في “بيروت 75” يجد بسهولة أنّ الحدث المركزي فيها هو السفر إلى بيروت والبحث عن المال والشهرة فيها، أو بكلمات أخرى، الخلاص من الواقع الذي انسلخت عنه كل واحدة من الشخصيات الأساسية وخاصة ياسمينة وفرح. فكلاهما (ياسمينة وفرح) فكر بعد انطلاق سيارة الأجرة واختفاء دمشق: “يفكر فرح (لن اعود إلا ثريا مشهورا) … وتحلم ياسمينة “لن أعود إلا ثرية مشهورة” …” (بيروت، ص 7)، ما يؤكد عملية البحث عن المال والشهرة. ولكن، عند التعمق في هذا الحدث وما أدّى إليه من أحداث وصراعات، نجد أنه كان وعاءً لأحداث خارجية وداخلية، كشف عن صراعات خارجية وداخلية كذلك. وهذه الأحداث والصراعات هي التي شكلت البنية الحقيقية للرواية. فياسمينة وفرح كممثلين للطبقات المسحوقة، أثناء بحثهما عن المال والشهرة في بيروت، اصطدما بنمر ونيشان (ياسمينة بنمر وفرح بنيشان) كممثلين للطبقات الغنية مالا وسلطة، المنحطة سلوكا وأخلاقا. هذا الصدام ولد الصراع الخارجي بين الطبقتين، وتطوره على غير ما يحبان (ياسمينة وفرح) أدّى إلى الصراع الداخلي الذي عبر عن اكتشافهما للوهم الذي عايشاه ما أدّى إلى استشرافهما المصير القاتم الذي ينتظرهما. فياسمينة تقول: “سأتابع خطة الانتظار والصمت … بانتظار سقوط المقصلة فوق رقبتي… أحس أنها هناك وأنها ستسقط” (بيروت، ص51)، ثم تسقط المقصلة فعلا إذ يقتلها أخوها. وفرح يبدأ صراعه الداخلي ويستشرف نهايته حتى قبل أن يلتقي نيشان إذ يقول ويكرر “آه كم أنا ضائع ووحيد” (بيروت، ص 17-19). وفي مكان آخر: “أني أتعذب باستمرار وأشعر بأنّ رجلين يقتتلان داخل جسدي” (الصراع الداخلي)، (بيروت، ص 92)، ثم ينتهي إلى الموت المعنوي، الكوابيس والجنون.
الراوي:
الراوي هو تقنية إشكالية أشغلت الكثير من المنظرين في تعريفها وتحديد أسمائها وبيان أنواعها ووظائفها. ولا يسعنا هنا أن نتوقف عند كل ملابساتها. ولكن لا بد من الإشارة إلى نوعين من الراوي أو طرق العرض أو السرد، أي ما يخدم دراستنا. الراوي الاول، كما يرى النابلسي (1990) نقلا عن “تودروف” وغيره من النقاد الشكلانيين، هو الذي يقف في قمة مسرح الأحداث، ليرى كل شيء أمامه من علٍ، سواء بالنسبة للشخصيات أو الأحداث، ويكون … على علم واسع وعميق بتفاصيل الشخصيات والأحداث، ومسيطرا على مواقع الحدث سيطرة تامة، والراوي الثاني يقف في موقع مواز لموقف الشخصيات … لا يعرف أكثر مما تعرف، ولا يعرف أقلّ مما تعرف، وإنما يعرف ما تعرف بالضبط، وبنفس المقدار والدقة، وهذا ما يطلق عليه “تودروف” الرؤية الموازية. (ص 263-164). الراوي الأول كما يرى شبيل (1987) هو صاحب الرؤية من الخلف، وفي هذه الحالة يعرف أكثر مما تعرفه الشخصية، حتى عن نفسها، والثاني هو صاحب الرؤية المصاحبة، وفي هذه الحالة فإنّ الراوي لا يعرف أكثر مما يعرفه الأبطال أنفسهم. (ص 161-163). ويتابع شبيل أنه يرى أن رواية “بيروت 75” تندرج ضمن الرؤية الأولى، أي الرؤية من الخلف. (ص 164). بينما النابلسي يرى أنّ رؤية غادة للشخصيات والأحداث، في الرواية نفسها، كانت مأخوذة من موقع مواز للشخصيات (ص 265)، وهو يورد مثالا جيدا لذلك من الرواية سأذكره لاحقا. في الحقيقة يمكن القول إن كليهما محقان. فغادة السمان توظف في روايتها النوعين المذكورين من الراوي أو الرؤية، أي الراوي العالم بكل شيء والذي يعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات أي ما أسميناه صاحب الرؤية من الخلف أو من علٍ. وكذلك توظف الراوي صاحب الرؤية المصاحبة أو الموازية، أي الراوي الذي يعرف بالضبط ما تعرفه الشخصيات. وفي هاتين الحالتين، الراوي بالطبع يسرد بتقنية ضمير الغائب. ولكن لا بدّ أن نذكر أنّ الراوي يفسح المجال أحيانا لأصوات بعض الشخصيات لتأتينا مباشرة لتقدم وجهة نظرها سواء كان ذلك من خلال بعض المقاطع المشهديّة القليلة في الرواية والتي تعتمد على الحوار المباشر بين الشخصيات كالحوار بين ياسمينة ونمر في صفحة 52 من الرواية، أو الحوار بين المحامي وطعان في صفحة 81 منها. كذلك يمكن أن نسمع الصوت المباشر للشخصية أو نعيه من خلال حواره الذاتي، كفرح من خلال كوابيسه المتعددة في الصفحات الأخيرة للرواية. (ص 95-108).
كرواية تعتمد كثيرا على الاستشراف (الاستباق)، من الطبيعي أن يكون الراوي يعرف أكثر من الشخصيات. والعبارات التي يبدأ بها السرد مثلا في بعص الفصول مثل “آه كم أنا ضائع ووحيد” و”انفجر الرعد كصرخة تهديد غامضة” و”تمطر تمطر” تشي بأنّ الراوي يعرف ما ينتظر شخصياته. ولكن يمكننا أن نجد هذه المعرفة التي تفوق معرفة الشخصيات فيما هو أبسط من ذلك. مثلا، “عادت من شقة أخيها. لم يكن في حقيبتها نقود، فقد كفّ نمر منذ أسابيع عن إغداق المال عليها كجزء من خطته للتخلص منها وتسليمها لسواه” (بيروت، ص 87)، في هذه العبارة من المؤكد أنّ ياسمينة تعرف ما يعرفه الراوي أو الراوي يعرف ما تعرفه ياسمينة من أنه ليس في حقيبتها نقود وأنّ نمر كف عن إغداقه عليها، ولكنها (ياسمينة) ربما تعرف وربما لا، أنّ نمر يخطط للتخلص منها وبالتأكيد لا تعرف أو لم تكن تعرف في تلك اللحظة أنه سيسلمها لسواه، فيما كان الراوي يعرف ذلك، ما يعني أنّ هذه العبارة تصلح مثلا لنوعي الراوي المذكورين.
ورغم ما تقدم، سأورد النموذج الذي اعتمد عليه النابلسي كمثل للرؤية الموازية حيث الراوي لا يعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات:
“أجل أنها شهية في الفراش. شهية لكثرة شهيتها إلى جسدي! ليست خريجة معاهد الجنس في ستوكهلم، ولكنها تملك حدسا مذهلا إزاء جسد الرجل، كأنها تدربت على ذلك أعواما، إنها تتقن ارتشافي كجارية تدربت طويلا في قصور الأمويين، ربما كان ذلك في دمها! ربما كانت النساء الدمشقيات، كما يشاع عنهن، يتوارثن تلك المعرفة في دمهن، أمّا بعد أمّ! معرفة الاستمتاع بالرجل وإمتاعه” (بيروت، 74). من الواضح في هذه الفقرة أن الراوي (أو الكاتب) يتساءل كما تتساءل الشخصيات مما يؤكد أنه لا يعرف أكثر منها. بقي أن نذكر أن غادة السمان بتوظيفها للراوي بنوعيه المذكورين وباعتمادها على أكثر من وجهة نظر وإفساحها المجال للشخصيات أن تنقل وجهة نظرها أحيانا وبشكل مباشر، ما يعني سهولة تنقل الكاتبة بين الضمائر، أظهرت قدرة متميزة في مجال العمل الروائي، ويؤكد ذلك تطورها الكبير الذي أظهرته في روايتها التالية “كوابيس بيروت” والتي يعدها بعض النقاد امتدادا لـ “بيروت 75”.
اللغة
عندما نتحدث عن اللغة في أية رواية عربية، وخاصة تلك الروايات التي تتلمس عناصر الحداثة على اختلافها، يجب أن ننتبه إلى أنّ اللغة لم تعد فقط تلك اللغة المطابقة لواقع الحال، أي مجرد وسيلة لتأدية المعنى المباشر الذي ينتهي بانتهاء الجملة أو العبارة التي بنيت من أجل تأديته، إنما اللغة التي يُواجهنا بها الكتّاب الآن، كعنصر حداثي في الرواية العربية الحديثة، هي لغة أخرى لها وظيفة جمالية ترتبط بقدرتها على إيصال المعنى غير المباشر سواء كان مجاورا أو مغايرا. إنها لغة تقول للقارئ أثناء أو بعد قراءته للنص: “الآن جاء دورك”، أي إنّ الأمر يتطلب من القارئ دورا فعالا وقدرة على كشف رموز اللغة وإيحاءاتها وتعدد دلالاتها وانزياحاتها، بل وإعادة كتابتها. هذه اللغة المغايرة للغة المألوف واليومي هي ما يسميه النقاد والباحثون: اللغة الشعرية. ولكن يجب الانتباه أيضا، إلى أنه ليست كل لغة الرواية لغة شعرية، وإنما هي لغة يبدع فيها الكاتب المزاوجة بين لغة المألوف واليومي وبين اللغة الشعرية. وعند قراءتنا لأعمال غادة السمان الروائية نجد أنّ حظها من شعرية اللغة كان وافرا لدرجة أنّ هنالك من يدعي أنها استطاعت خلق لغة خاصة بها يمكننا أن نسميها: “لغة غادة السمان”. هذا الأمر ينسحب على رواية “بيروت 75″، موضوع بحثنا، حتى وإن كان حظها من هذه اللغة أقلّ إذا قارناها بغيرها، وخاصة رواية “كوابيس بيروت” التي يعتبرها البعض امتدادا لها. وتكفي وقفة قصيرة مع العنوان “بيروت 75” لنأخذ عينة صغيرة تشي بما ينتظرنا. وإذا تساءلنا: لماذا (75) وليس (74) أو (76) أو غيرها؟ عندها يبدأ الضغط الذي تريده غادة السمان على عقولنا. ولكن سريعا سيأتي الانفجار، عندما نعرف أنّ الرواية كتبت أواخر عام 1974 لتتسارع أحداثها وتسابق الزمن، ولتتنبأ بالقادم عام 1975، الحرب الأهلية في لبنان.
لغة السرد:
لا شك أنّ عمل غادة السمان في الصحافة ترك أثرا كبيرا في لغتها الروائية، مما جعلها، كما يرى النابلسي (1990)، تتدفق تدفقا عفويا، شأنها في ذلك شأن الكتاب الكبار أمثال يوسف إدريس وغيره ممن شكلوا لغتهم تشكيلا يوميا عفويا متدفقا لأنهم أرادوا الوصول، من خلال هذا التشكيل، إلى القاعدة العريضة والواسعة من الناس والقراء على اختلاف طبقاتهم وثقافتهم (ص، 247) وذلك هو ما أرادته الكاتبة، أن تنزل إلى القاع لتكتب عنه وله. ولكنّ هذا الأمر لم يمنعها من المزاوجة بين لغة اليومي المألوف واللغة الشعرية المكثفة بجملها القصيرة والسريعة التي، وكما يرى غالي شكري (1990)، تحول اللغة من أداة تعبير إلى فعل تفجير، فالرعد لا يثير “الخوف” بل “يهدد”، والمطر لا “يغسل” القلوب أو الشوارع ولكنه “نزف”، والبرد لا ” يخترق العظام” بل يجسم “الموت”. من هنا كان التواتر الشعري المكثف والرتيب في عبارات قصيرة مركزة مثل: وانفجر الرعد بصرخة تهديد غامضة، أو تمطر تمطر أو برد برد كأصوات الكورس اليوناني وكغمغمات العرّاف والبخور المتصاعدة من مجمرته لحظة “الاتصال” بالقوى العليا بغية التنبؤ بما سيكون. (ص، 135).
تستعمل الكاتبة الجمل القصيرة بكثرة لأنها كما ذكرت أقرب إلى التفجير منها إلى التعبير ويمكن أن نرى ذلك بوضوح في الجمل التي استعملتها كلازمة في بداية الكثير من فصول الرواية، مثل: “الشمس شرسة وملتهبة” (بيروت، 5). و”انفجر الرعد كصرخة تهديد غامضة …” (ن. م. 49)، و”تمطر تمطر” (ن. م. 71). على أنّ هذا الاستعمال للجمل القصيرة لا يظهر كلازمة في افتتاحيات فقط، وإنما في أماكن متعددة من الرواية، مثل “القمر صار قرصا محمرا داميا. رغيفا ملطخا بالدم. الرجال يشدّون الشباك من الماء….” (ن. م. 35).
بعض العبارات التي أشرنا إليها تتكرر في عدة مواقع من الرواية، ما يشير إلى أنّ الكاتبة تعتمد التكرار أحيانا. وعندما ندقق النظر في هذا التكرار نجد أنه جاء للتأكيد والتذكير، تأكيد ما توحي به العبارة والتذكير به، لأنّ الكاتبة تريدنا أن نأخذ على محمل الجدّ كل رسالة تحملها العبارة أو الرواية.
أما أيمان القاضي (1992)، فلا تبعد كثيرا عما ذكرناه. فلغة غادة في نظرها، لغة تفارق اللغة الواقعية التقليدية الهادئة، فهي لغة جملها قصيرة، متلاحقة متوترة، مكثفة، غنية بالإيحاء، تشارك في صياغة الحدث، وإشاعة جو ملائم للنسق الروائي، وهي لغة تطلب الرمز، وتوظف الأسطورة، وتعمد إلى التكرار، … وتأتي بتشابيه جديدة، فغادة السمان تبتعد في لغتها عن المألوف وتستخدم مفردات الحلم والكابوس، خاصة في كوابيس فرح في رواية “بيروت 75” بتوترها ولامعقوليتها، بكثافتها ودلالاتها الخصبة. (ص، 356).
على أنّ غادة السمان تستعمل أيضا الجمل الطويلة عندما يكون الإيقاع السردي للحدث بطيئا أو عندما تكون الصورة ثابتة أو قليلة الحركة، بطيئة التفاعل، وذات تأمل عميق (النابلسي، ص،251). ومثال ذلك: “عاد فرح إلى “فندق العسل” ليلملم حاجاته القليلة وثيابه الرثة استعدادا للانتقال إلى الفندق الذي حجز له نيشان غرفة فيه … تأمل أشياءه الفقيرة القليلة وجمعها داخل الحقيبة، ثم ترك الحقيبة وخرج من دونها …” (بيروت، 45).
ومن ناحية أخرى، فإنّ لغة غادة السمان هي لغة تعجّ بالوصف والتشبيه، فهي توظفهما بكثرة في الرواية، إلا أنّ وصفها ليس وصفا تقليديا ولا التشبيه تشبيها عاديا كذلك. إنه تشبيه فيه الكثير من الإيحاء، “كان في صوت نيشان شيء شرس وصارم مثل فرقعة السياط في “السيرك” على أجساد الحيوانات” (بيروت، 44). أنه تشبيه يفقد الإنسان إنسانيته وينطوي على كثير من العنف والخوف. وكذلك الوصف فهو أبعد من أن يكون قد جاء فقط لإظهار ملامح الشخصية أو ما شابه، بل هو كما أشرنا، أداة تفجير لا تعبير. فلننظر إلى النسوة المحجبات كما رآهن فرح، “يخيل إليه أن لا وجوه تحت الحجاب الأسود. مجرد افواه منفتحة داخل جمجمة لا يكسوها لحم ولا جلد، وإنما حفر إضافية ينبعث منها النواح الخافت ببطء، كما يتصاعد الغبار والأنين من فوهات منجم انهار في الليلة الفائتة …” (بيروت، 7). فهذه ليست وجوها لنسوة يزيدهن الحجاب فتنة وجمالا، كما تراهنّ القاضي (1992)، بل هي جماجم مخيفة تنذر بالموت الذي يتربص فرح وياسمينة في بيروت. إنهن نذير شؤم ولذلك ألبستهن الكاتبة السواد من الرأس وحتى أخمص القدمين. (ص، 357).
إذن، فلغة السرد عند غادة السمان لغة رغم بساطتها وشدّة تدفقها فهي لغة شاعرية مكثفة، شديدة التكثيف أحيانا، فيها من الإيحاء ما يجعل عبارة قصيرة تلخص قصة كاملة. وكمثال لهذا التكثيف نجده عندما يتابع الراوي السرد بعد حوار نمر مع ياسمينة “بدا غاضبا ومهتاجا (نمر)، وأمسك بزجاجة العطر الفارغة وتلهى بها قليلا بصمت، ثم ألقى بها إلى سلة المهملات” (بيروت، 53)، إلا تلخص هذه العبارة قصة ياسمينة كلها مع نمر، أو قصة الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة مع الأغنياء الذين يحلل لهم غناهم كل الموبقات والمحرمات، أو باختصار، قصة الطبقة المسحوقة مع الطبقة الساحقة؟
لغة الحوار:
توظف الكاتبة في روايتها نوعين من الحوار: الحوار الداخلي (المونولوج) كإحدى تقنيات تيار الوعي، والذي يتداخل مع السرد ليوقف حركته أو يعيقها، وليوقف حركة الزمن أو يكسره ليستبطن أعماق الشخصيات وخاصة ياسمينة وفرح. والحوار بين الشخصيات الذي بدوره يوقف حركة السرد أو يعيقها، ولكنه يقوم بمهمة أخرى كإبراز الصراع بين الشخصيات التي تمثل طبقات المجتمع المتصارعة. الحوار الداخلي (المونولوج) لغته لا تشذّ عما ذكرته سابقا عن لغة السرد، فهي في كثير من جوانبها تتعدى لغة المألوف إلى اللغة الشاعرية المليئة بالرمز والإيحاء وتعدد الدلالات، نشعر من خلالها بأنّ الشخصيات عبر حوارها الداخلي توحي إلينا أكثر مما تقوله، فهي تشير إلى صراعاتها مع حاضرها وماضيها وشعورها بما يخبئه لها المستقبل. سأكتفي بمثلين: ياسمينة التي لا تعرف ما تخبئه لها بيروت تفكر وهي في السيارة “آه الشمس، كم هي حارة وممتعة! إنها تزيدني التهابا وشوقا للرحيل … أحب لسعها فوق وجهي” (بيروت، 6). وهنا نتساءل: الرحيل إلى أين؟ إلى القدر المحتوم؟ ألا توحي بذلك كلمة “تلسع” وقد أنذرنا الراوي منذ البداية أنّ “الشمس شرسة” (ن. م. 5). كأنّ ياسمينة تخفي في طبقات اللاشعور عندها، المصير الذي توحي إليه الكلمات. وفرح كذلك عندما يفكر بصمت داخل السيارة، أليست كلماته توحي إلينا بمصيره الذي يخفيه في طبقات اللاشعور عنده: “لماذا ينتحبن هكذا؟ تراني ذاهبا إلى موتي وعرافات القدر يشيعنني ويبكينني؟” (بيروت، 7). أو “آه كم أنا وحيد وضائع” (ن. م. 17).
أما عن لغة الحوار بين الشخصيات، يقول شاكر النابلسي (1990): “إنّ غادة لا تلجأ إلى اللغة العامية في حوارها قط، كما أنها لا تلجأ إلى اللغة الفصحى المقعرة، ولكنها تلجأ إلى لغة ثالثة، هي أقرب إلى لغة الصحافة”. أي أنها لم تحذ حذو بعض الكتاب الكبار، إدريس وغيره، الذين استعملوا العامية في حوارهم، فقد جاءت بلغة ثالثة جمعت بين سهولة العامية وجلال الفصحى. (ص، 255). وكمثال نوجّه إلى الحوار الذي دار بين نمر وياسمينة (بيروت، 52) وهو حوار يبرز الصراع بينهما كممثلين لطبقتيهما: البورجوازية الصغيرة المسحوقة، والبورجوازية المتوسطة أو الكبيرة الساحقة التي تتغلف بالأخلاقيات المزيفة بغية تمرير سياستها. عندما يقول نمر لياسمينة: “لم تفسدك بيروت. كلكن تتهمن بيروت. بذور الفساد هي في أعماقك …” (ن. م.)، وبورجوازية نمر هذه تكشر عن أنيابها عندما يسقط القناع المزيف عن وجهها البشع. يقول نمر لياسمينة في المشهد قبل أن يخرج غاضبا: “أيتها الوقحة … اخرسي!” (ن. م. 52). وبعدها، كما أشرنا سابقا، يمسك بزجاجة العطر الفارعة ويلقيها بسلة المهملات كإشارة إلى رمي ياسمينة التي أصبحت عبئا عليه. ومثال آخر لهذا الحوار هو ما ورد في صفحة 81، الحوار بين طعان ومحاميه. إنه حوار يلخص مأساة طعان الذي قتلته بيروت مرتين: مرة بوجهها البشع المتمثل بحكم برجوازيّتها القذرة، ومرة، ولأنها كذلك، لم تستطع أن تحميه من الحكم العشائري.
خلاصة
لقد كتبت حول أدب غادة السمان دراسات كثيرة، وهي، وإن حاولت جميعها أن تنصفها، في الحقيقة لم توفّها حقها. وهذا الكلام ينسحب على رواية “بيروت 75” كذلك. وما كتبته في هذه الدراسة، حول أسلوبها ولغتها هو غيض من فيض ما يمكن أن يقال. بالتأكيد كان من الممكن قول أكثر من ذلك بكثير لو يتسع المجال في هذه الدراسة السريعة. كنت، مثلا، أود أن أتطرق إلى بعض النظريات التي وضعها النقاد والباحثون حول مركبات الأسلوب المختلفة قبل أن ألجأ إلى كل مركب ومركب من مركبات الأسلوب عند غادة في روايتها “بيروت 75″، إلا أنّ المجال لا يتسع.
وخلاصة القول، لقد بدأنا حديثنا عن أسلوب غادة السمان بعبارتها “افتحوا النوافذ لنسمة جديدة … لأسلوب جديد … دعوني أستفيد من الفرص المدهشة في عالمنا العربي الذي ينوء تحت ركام التراث: عدم وجود تراث للرواية العربية”. هذه العبارة تشي بأمرين: الأول أنّ غادة تعي أنها مقبلة على أسلوب جديد لا تريد فيه أن تكون مقلدة بالمفهوم التقليدي للتقليد، لأحد من السابقين أو المعاصرين. وهذا يقودنا إلى الأمر الثاني وهو لجوء غادة إلى أسلوب التجريب الذي لجأ إليه بعض كبار الروائيين العرب المعاصرين. وفي الحالين فقد استطاعت غادة أن تمرّ التجربة بنجاح. بأسلوبها هذا هيّأت الكاتبة للنقاد مادة وافرة تجعل الدراسات حول “بيروت 75” بشكل خاص، أو حول أعمال غادة الروائية بشكل عام لا تنتهي. وعليه فقد جاءت هذه الدراسة كمحاولة لفهم أسلوب غادة السمان ولفهم ما قاله النقاد حول هذا الأسلوب.
ثبت المراجع
· الإختيار، نجلاء نسيب. تحرير المرأة عبر أعمال سيمون دوبوفوار وغادة السمان 1965-1986، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1991.
· الجميلي، إبراهيم جنداري جمعة. المفارقات الزمنية في روايات غادة السمان، الموقف الأدبي، دمشق: أتحاد الكتاب العرب، 2004. في:
· دي كابوا، باولا. التمرّد والالتزام في أدب غادة السمان، بيروت، دار الطليعة، 1992.
· السمان، غادة. بيروت 75، بيروت: منشورات غادة السمان، ط: 7 2004.
· شبيل، عبد العزيز. الفن الروائي عند غادة السمان. سوسة (تونس): دار المعارف 1987.
· شكري، غالي. غادة السمان بلا أجنحة، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط: 3 1990.
· عواد، حنان. قضايا عربية في أدب غادة السمان في فترة ما بين 1962-1975، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1989.
· القاضي، إيمان. الرواية النسوية في بلاد الشام، دمشق، الأهالي للطباعة والنشر، 1992.
· منصر، زهية. ترقبوا أسراري العاطفية في مذكراتي، حوار مع غادة السمان. صحيفة “الشروق” الجزائرية، 2009. في:
· النابلسي، شاكر. فض ذاكرة امرأة، دراسة في أدب غادة السمان، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990.
· هيبي، محمد. القصة القصيرة بين البحث والتدريس، كابول: مطبعة الطيرة، 2009.