يلجأ الروائي إلى استلهام التاريخ في رواياته، لحاجة في نفسه. وهذه الحاجة، قد تكون إمّا لإضاءة حقبة تاريخية معينة أو الاستضاءة بها، وإمّا لإسقاط الماضي على الراهن الذي نخشى فضحه مباشرة، فنلجأ إلى إبداع فضحه تخييلا. بمعنى آخر، يتّخذ الروائيون من الماضي وأحداثه وشخصياته، قناعا للراهن وأحداثه وشخصياته. وهذا بعض ما فعله حسين ياسين عندما استلهم تاريخ القدس وفلسطين في روايته الأولى، “ضحى”. أمّا كتابة الرواية للتاريخ فهي أمر مختلف تماما. كتابة التاريخ هدف أساسي من أهداف الرواية. فالرواية تكتب التاريخ الحقيقي أو تصحّح المزيّف. ولذلك فهي غالبا لا تكتب تاريخ الأقوياء والعظماء، بل تاريخ البسطاء والمهّمشين، الضعفاء والمستضعفين، تاريخ من أهملهم المؤرّخون. وقد صدق الروائي الكبير، عبد الرحمن منيف، حين قال: “الرواية تاريخ من لا تاريخ لهم”. لأنّها في رأيه، تكتب تاريخ البسطاء الذين همّشهم التاريخ رغم أنّهم هم صنّاعه الحقيقيّون.
المؤرّخون يكتبون تاريخ القادة السياسيين والعسكريين، ويجعلون منهم أبطالا، ويُهمّشون الجنود، المقاتلين الحقيقيين الذين ضحّوْا بدمائهم وأرواحهم وصنعوا النصر والتاريخ. بينما الرواية، تفعل العكس تماما، تهمّش القادة وتضع المقاتلين الحقيقيين في المركز، تصنع منهم أبطالا. وهي تنتصر أيضا للعمال والفلاحين البسطاء وتُهمّش مستغلّيهم. أو تنتصر للمرأة وتضعها في المركز وتُهمّش الرجل المتسلّط عليها في المجتمع الذكوري. وهكذا.
يقول الناقد الفلسطيني، فيصل درّاج، في كتابه، “الرواية وتأويل التاريخ: “كتبت الرواية العربية التاريخَ المعاصر الذي لم يكتبه المؤرّخون، متطلعة إلى تاريخ سويّ محتمل” (دراج، 2004، ص 6). وهنا، كان لا بدّ للروائي العربي على حدّ تعبير فيصل دراج أيضا، أن “يستدعى المؤرّخ ويطرده، وأن يقوم الروائي العربي بتصحيح ما جاء به المؤرّخ، أو بذكر ما امتنع عن قوله، مؤكّدا أنّ الكتابة الروائية هي “علم التاريخ” الوحيد، أو كتابة موضوعية تُسائل ما جرى، دون حذف أو إضافة” (دراج، ص 5-6
وهذا ما فعله حسين ياسين في روايته الثانية، “عليّ، أو حكاية رجل مستقيم”. هنا، هو لا يستلهم التاريخ، بل يكتبه. يكتب تاريخا لأبطال همّشهم المؤرّخون. وهنا تكمن عظمة الرواية عامة، وأهمية رواية حسين ياسين خاصة، حيث يضعنا ياسين فيها أمام حقبة أحداثها معروفة تاريخيا، ولكنّ مثقّفي السلطة من كتبة التاريخ المأجورين، هضموا حقّ أبطالها الحقيقيين، ومنهم “عليّ” ورفاقه الذين ضحّوا بدمائهم ضدّ دكتاتورية فرانكو، ولكن ليس ضدّ دكتاتورية فرانكو فقط، أو من أجل إسبانيا فقط، وإنّما ضدّ الظلم عامة، ومن أجل حرية الإنسان في فلسطين وإسبانيا وفي كل مكان في العالم. وعملهم هذا يُذكّر بالمناضل تشي جيفارا وعبارته الشهيرة: “أينما وُجد الظلم فهناك وطني”.
ليس غريبا أن يُهمِّش التاريخ دور هؤلاء الأبطال، فالثورة التي سقطوا فيها، لم يُكتب لها النصر، لأنّ كل أنياب الإمبريالية آنذاك تكالبت عليها وعليهم، وجرّبت أحدث أسلحتها ضدّهم وضدّ اليسار الذي خاض الحرب ضدّ الدكتاتورية والإمبريالية.
من الناحية الفنية، جمع حسين ياسين في روايته، “عليّ”، بين نوعين من الرواية، حيث تداخلت فيها الرواية الفنية بالرواية الوثيقة. وقد برع ياسين في النوعين. فقد استطاع تخييل عالم يتحرّك فيه بطل الرواية في مسارات مختلفة أو في مسار واحد تشعّب جغرافيا، فمن فلسطين، وتحديدا من قرية “الجيب” بين القدس ورام الله، إلى القدس، ثم إلى موسكو ثم إلى فرنسا حتى بلغ إسبانيا. ومن ناحية السرد تشكّل عالم البطل من مسارين متداخلين: مسار واقعي وآخر تخييلي. العالم التخييلي الذي بناه الكاتب، ينطلق من واقع فلسطيني يعرف حسين ياسين أنّه كان موجودا من حيث الجغرافيا والتاريخ، أو الحركة التاريخية بمركّباتها المختلفة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكنّ الكاتب لم يعش تلك الفترة ليحدّد معالمها، فلجأ إلى الوثائق التاريخية والتخييل. وقد أجاد في التخييل دون أنّ يُفرّط بالحقيقة التاريخية التي أراد رصدها وتوثيقها، والتي اهتمّ بها لدرجة أنّه قبل كتابة الرواية، لم يدّخر جهدا في البحث عن شهادات تاريخية كانت مغمورة، أو شهادات بشرية حيّة وموثوقة ما زال أصحابها يتنفّسون. وقد رافقه كاتب هذه السطور في بعض مراحل بحثه الذي طال لسنوات.
ومن حيث الشكل الفنّي أيضا، سبق النصَّ بعضُ العتبات، أهمّها اثنتان: الغلاف وكلمة الشكر، طبعا بدون التقليل من قيمة الإهداء. فأنا أعرف أنّ السيّدة رابحة ياسين، زوجة الكاتب، تستحق ذلك بجدارة. ولكن هذا سياق آخر، له ارتباطه بمسيرة البحث وليس بالنص نفسه.
في قراءة سيميائية للغلاف، نجده موفّقا جدا، في تصميمه وتركيب عناصره. هو، كأيّ نص، عبارة عن إشارة كبرى تضمّ إشارات صغرى، إذ أراه عالما فلسطينيا كاملا، يجمع بين الهمّ والألم والإبداع والحلم. من أبرز مكونات الغلاف أو إشاراته: “علي”، العنوان الرئيس، ثم العنوان الثانوي، “قصة رجل مستقيم”، ثم كلمة “رواية”، واللوحة، “نغم حزين” للرسام الفلسطيني المعروف، سليمان منصور، واسم الكاتب. وتربط بين هذه الإشارات جميعا، خلفية سوداء لها دلالتها وتكوّن مع الإشارات الأخرى دلالة أعمّ وأشمل.
“عليّ” كعنوان رئيس، اسم علم مذكر فيه الكثير من الغموض، يُشوّق القارئ ويُثير تساؤلاته: عن أيّ “عليّ” جاء الكاتب يُحدثنا؟ هناك أشخاص كثيرون حملوا وما زالوا يحملون هذا الاسم، فما الذي يُميّز هذا الـ “عليّ” عن غيره؟ وهذا التساؤل يدفع القارئ إلى ولوج النص. ولكن ليس قبل أن يقرأ العنوان الثانوي، “قصة رجل مستقيم”، فيتضاعف شوقه. هذا العنوان الثانوي تبدو مهمته الأولى شرح العنوان الأول لما فيه من غموض، ولكنّه في الحقيقة لا يشرح بقدر ما يُثير. قد لا يشدّنا “عليّ” واستقامته! فالرجال كُثر والاستقامة نادرة، ولذلك ما قد يغري القارئ أكثر، هو تعطّش الإنسان إلى الاستقامة، ومفاجأته بوجودها في زمن ضاعت فيه كل الحقوق وكل القيم، وأصبح الاستعلاء والاستعباد والتسلّط من جهة، والالتواء والانحناء والانبطاح من جهة أخرى، هي القيم السائدة.
وتأتي كلمة “رواية”، إعلانا مباشرا وجريئا من الكاتب للقارئ والناقد، يقول لهم: “حاكموني وحاكموا نصّي كروائيّ ورواية. أنا أقبل نقدكم وأتحمّل تبعاته. ويجيء اسم الكاتب في أسفل الغلاف كأنّه توقيع على اعترافه بالمسؤولية عن كل ما يتضمنه الكتاب من الغلاف إلى الغلاف.
واللوحة، “نغم حزين”، هي لوحة فلسطينية بامتياز، يبدو ذلك من الثوب الفلسطيني ومن الشبّابة الفلسطينية التي سيكتشف القارئ لاحقا أنّها لم تكن تفارق “عليّ”. وحزن النغم الحزين أو اللحن الفلسطيني يحيل إلى حزنين: ذاتيّ وعام: الذاتي هو أيضا ينقسم إلى حزنين: حزن الكاتب من ظلم التاريخ لعليّ ورفاقه وأمثالهم، وحزن البطل لأسباب ذاتية وعامة، يكتشفها القارئ بعد ولوج النص، وأنّها ترتبط بحياته الشخصية وبقضيته كجزء لا يتجزّأ من الهمّ الفلسطيني والإنساني.
أما الحزن العام فهو الحزن الفلسطيني الذي كان وما زال قابعا في نفس الكاتب والراوي كما في قلوبنا ونفوسنا جميعا. وربما لهذا جعل المصمم خلفية الغلاف سوداء، تُحيل إلى الليل الفلسطيني الذي يُحاصر الإنسان والإبداع، ويُحاصر فجر الحرية الفلسطيني الذي لا بدّ أن يبزغ كما يظهر ذلك في اللوحة. وكأنّي بكل فلسطيني يُدرك أنّ الحرية والإبداع متلازمان رغم علاقتهما الإشكالية. لا إبداع بلا حرية ولا حرية بلا إبداع.
والعتبة الثانية، “كلمة شكر”، فهي اعتراف بفضل الجندي المجهول الذي دعم الكاتب في مسيرة بحثه المضني التي قطعها بالبحث عن عليّ ورفاقه. ولذلك هذه الكلمة هي دليل حيّ على المسيرة، ودليل على أنّ المبحوث عنهم يستحقّون، وأن التاريخ يظلّ ناقصا إذا لم يعترف بهم ولم يتحدّث عنهم. وهي فرصة أن أشكر فيها صديقي، الكاتب حسين ياسين، أنّ اسم كاتب هذه السطور موجود في تلك الكلمة.
رواية “عليّ” مقسّمة إلى اثني عشر فصلا، مع عناوينها تدلّ غالبا على مراحل في حياة البطل. وتسير في مسار متعدّد أو متشعّب جغرافيا، وتوثّق لحقبة لا بد من تقسيمها لحقبتين مختلفتين، يربط بينهما البطل ورفاقه والظلم والاستعمار من جهة، ورحلة إبعاد البطل ورفاقه إلى إسبانيا من جهة أخرى.
بدأ حسين ياسين الرواية من وسطها، أي من المساحة الزمانية والمكانية الفاصلة بين مرحلتي نضاله، على ظهر السفينة التي نقلته من حيفا إلى فرنسا لينتقل من هناك عبر جبال البيرينيه إلى إسبانيا. هذا يعني أنّ ياسين يعرف جيدا ما يريد. فهو يريد تسليط الضوء على الحقبة الثانية، الحقبة الإسبانية التي سردها لنا سردا أفقيّا من لحظة صعوده ظهر السفينة التي ستقلّه ورفاقه إلى فرنسا. بينما آثر الكاتب أن يسرد لنا أحداث الحقبة الأولى، الحقبة الفلسطينية بكل مراحلها، عبر ما تيسّر له من تقنيّات تيار الوعي، مثل التداعي والاسترجاع والمونولوج والحلم وغيرها. والفرق بين بين المرحلتين في نظري، هو الفرق بين القلب والعقل. الحقبة الأولى هي الأقرب إلى قلب البطل. ودفاعه عن فلسطين جاء نتيجة علاقته العاطفية بها وبعد ذلك جاء العقل والفكر. بينما الحقبة الثانية جاءت نتيجة قرار عقلي وعقلاني اتخذه الكاتب والبطل، الكاتب بالكتابة عن البطل، وطبعا للفكر الشيوعي الذي يحمله حسين ياسين، دور كبير في ذلك، والبطل بتركه لفلسطين وذهابه للنضال في إسبانيا. هذا لم يكن ليحدث لولا تدخّل العقل والفكر الشيوعي. ولذلك، هذا القرار لا يمكن أن يكون قرارا عاطفيا. فقلب البطل كان دائما في فلسطين حتى بعد أن غادرها. فهي الحبيبة، وهي الوطن ووطن الحبيبة “وردة”. وعلاقته بفلسطين و”وردة” هي علاقة واحدة، علاقة الخاص بالعام والعام بالخاص، علاقة المشرّد عن أرضه ووطنه وحبيبته، وهي علاقة كل فلسطيني شُرّد عن فلسطين سابقا او لاحقا.
في الفصل الأخير سلّط حسين ياسين الضوء على الحقبة الإسبانية. صحيح أنّ هذا الفصل هو الأطول بين فصول الرواية، ولكنه من حيث الحجم، أي عدد الصفحات، لا يُشكل إلّا ربعها. (85 ص من 319)، وفي ذلك إشارة إلى أنّ هذه الحقبة كانت مهمة في حياة البطل، “عليّ”، رغم قصرها زمنيا، ولكنّها تظلّ جزءا صغيرا من نضاله من أجل فلسطين. وقد كان تسليط الضوء عليها، ليس لأنّ تاريخها مغمور، بل لأنّ فيها من ظلمهم التاريخ وهضم حقّهم وهمّشهم. كل الرفاق من كل الأمم الأخرى، الذين شاركوا في الحرب الإسبانية، وجدوا من يكتب عنهم، إلّا عليّا ورفاقه. وهذا تأكيد آخر على أهمية قيام الرواية العربية بطرد المؤرّخ الذي يُزيّف الحقائق أو يتجاهلها، واهميّة رواية حسن ياسين التي كتبت ما تجاهله المؤرّخون.
استغلّ حسين ياسين الفصل الأول والمساحة الزمنية الفاصلة بين الحقبتين، الفلسطينية والإسبانية، على ظهر السفينة، استغلالا إبداعيا رائعا. هو تعامل مع هذا الفصل على انّه عتبة من عتبات النص كما أوحت تسميته، “على عتبات النص”. وهو في الحقيقة لا يقصد ذلك، وإنّما اهتمامه بالحقبة الإسبانية وبتاريخ “عليّ” فيها، ملك عليه شعوره وتفكيره، لذلك اعتبر كلّ ما قبل الحقبة الإسبانية عتبة لها، وليس للنصّ نفسه. لذلك فالنص يبدأ مع بداية السرد على ظهر السفينة، (أي ص 9).
في الفصل الأول بشكل خاص وفي الرواية عامة، تتجلّى لغة حسين ياسين. لغة شعبية جميلة ببساطتها وتلقائيتها، مليئة بالأمثال الشعبية الفلسطينية، ترِد على لسان الشخصيات وتعكس علاقتها وعلاقة الكاتب النفسية والوطنية بفلسطين وبكل ما يحدث فيها. والكاتب لا يوردها لإثبات واقعية الرواية، وإنّما ليبيّن العلاقة الشرعية بين الأرض الفلسطينية وإنسانها العربي وتراثه الفلسطيني، ردّا واعتراضا على كل من يراها أرضا بلا شعب.
هذه اللغة حاولت أن تجد لها موضعا خاصّا بين مستويات اللغة. لم أقرأ لغة جميلة تُشبهها إلّا عند الكاتب محمد نفاع في روايته، “فاطمة”. ولكن، للحقيقة والإنصاف، نقدا وتاريخا، لغة محمد نفاع أجمل وأسلس وأكثر ارتباطا بالأرض، ومردّ ذلك في نظري إلى سببين: الأول هو أنّ محمد نفاع يسكن في فلسطين في غير قريته الجليلية، “بيت جن”، بينما حسين ياسين تنقّل في سكنه بين عرابة، مسقط رأسه، والاتحاد السوفييتي والقدس والناصرة. وهذا كان له أثره في لغته وعدم توازنها. والثاني هو خبرة محمد نفاع الأوسع في اللغة والسرد. وأرجو إلّا أكون مخطئا، فقد لاحظت في بعض الفصول أثرا للهجة السورية لم أجد ما يُبرّره. كما أن اللغة ترهلت في بعض المواضع لعدم ملاءمتها أحيانا، للطبيعة الاجتماعية والثقافية عند الشخصية التي تتحدّثها. والأمثلة كثيرة. لذلك مثلا، قد يتساءل القارئ: “من الذي يتحدّث، الكاتب حسين ياسين أم “بدرو” الإسباني عندما يقول “بدرو” (ص 250): “الفرس من خيالها والمرأة من رجالها”؟ أو عندما يقتبس “بدرو” جبران خليل جبران (ص 251): “لا تغرق في الحياة بحثا عن امرأة، اغرق في المرأة بحثا عن حياة”، أو عندما يقتبس “بدرو” أنكيدو صاحب جلجاميش (ص 253): فتاة البهجة عرّت صدرها … إلخ”. هذه اللغة ليست ملائمة لشخصية “بدرو”، وهي في الوقت نفسه، تعكس إقحام الكاتب نفسه ولغته وثقافته، في شؤون شخصياته فيُفقدها استقلاليتها، ويُفقد اللغة ملاءمتها والحبكة تماسكها، كما سأذكر لاحقا.
بما أنّني ذكرت جمالية اللغة وبعض نواقصها، لا بدّ أن أذكر أنّه رغم جمالية نصّ “عليّ”، وتماسك حبكته بشكل عام، فهو لم يخلُ من أخطاء سردية كان من الممكن للكاتب أن يتفاداها. ظهرت مثلا، في محاولة الكاتب للهيمنة على النصّ وشخصياته. صحيح أنّه غالبا أعطى للشخصيات حرية الكلام والحركة، وأوكل مهمة السرد للبطل، “عليّ”، وهذا شيء جيد وجميل يعطي للبطل موثوقيته وللنصّ مصداقيته. ولكنّ الكاتب خرق هذا الموقف الديمقراطي بهيمنته وتدخّله، كما ذكرت سابقا. ولكن جدير بالذكر أنّ مثل هذه الأخطاء المتعلّقة باللغة والحبكة، لا يتكرّر كثيرا في الرواية.
من حيث المضمون، الحقبة الأولى، في حياة البطل، “عليّ”، هي فترة نضاله ورفاقه في فلسطين، ضدّ الاستعمار الإنجليزي. وهي الحقبة التي تشكّلت فيها شخصيته كإنسان فلسطيني يحبّ أرضه ووطنه ويربطهما بحبّ المرأة كمعادل موضوعي للوطن، فحبّه لوردة هو حبّه لفلسطين، ولو لم تكن وردة واعية لقضية الأرض والوطن وتدفعه نحوهما، رغم خوفها عليه، لما حظيت باهتمام الكاتب والبطل. وليس عبثا أنّ البطل تشرّد عن الاثنتين، فهما في الحقيقة شيء واحد.
أما القدس والعمل فيها، فقد ساهما في تشكيل شخصيته الوطنية، بينما السجن الذي دخله “عليّ” وهو فتى صغير، فقد ساهم في تشكيل شخصيته الوطنية، ووضع حجر الأساس لشخصيته الفكرية، وذلك من خلال اللقاء مع السجناء الوطنيين والشيوعيين. وقد مرّت شخصيته الفكرية بمراحل عديدة، وذلك من لقائه مع الرفاق في السجن إلى انتسابه للحزب الشيوعي وتقدّمه فيه إلى أن أصبح عضوا في لجنته المركزية. ولكنّ شخصيته الفكرية الشيوعية والأممية فلم تتبلور إلّا أثناء وجوده في موسكو للدراسة في المدرسة الحزبية، وفي نضاله الأممي في إسبانيا بعد ذلك.
دخل “عليّ” السجن وهو فتى صغير، ثم توالى دخوله وخروجه منه. وفي كل مرة كان يُطلق سراح “عليّ” من السجن، كان يعود سيرته الأولى من النضال، إلى أن عافه الإنجليز هو ورفاقه العرب وبعض الرفاق اليهود، وليس غريبا بإيعاز من الرفاق اليهود الذين تغلّب عليهم نزعتهم الصهيونية وانحيازهم لمشروع الاستيطان الصهيوني، فقرّر الإنجليز التخلص منه ومن رفاقه بطريقة خبيثة: إرسالهم إلى إسبانيا. وهنا تبدأ الحقبة الثانية، التي رأى فيها “عليّ” استمرارا لنضاله ضدّ الظلم؛ أي أنّه لم يترك فلسطين لأنّه تعب من الدفاع عنها والنضال فيها، ولا لأنّه لم يفهم خبث الإنجليز، ولا لأنّه آمن بما قاله له الضابط الإنجليزي، “أنت ترتاح منّا، ونحن نرتاح منك؟” (ص 236)، وإنّما، كما أنّ للعلم رحلته من المعلوم إلى المجهول، ومن المعلوم المجهول إلى مجهول جديد بحسب تعبير دراج، فإنّ للرواية رحلتها أيضا. بدايتها هدف شاقّ ونهايتها نصر أكيد” (دراج، ص 19). وهكذا كانت رحلة “عليّ” من النضال من أجل فلسطين إلى السجن، ومن السجن إلى إسبانيا. وهذه الرحلة هدفها شاقّ ونصرها أكيد. صحيح أنّ “عليّ” ورفاقه لم ينتصروا على دكتاتورية “فرانكو” وحلفائها، ولكنّهم انتصروا بالسعي لتحقيق أهدافهم في مقاومتها. وفي جميع الأحوال، انتصرت الرواية بانتصار حسين ياسين لعليّ ورفاقه. من جهة، حين أخرجهم من هامش التاريخ ووضعهم في مركزه. ومن جهة أخرى حين انتقم لهم من المؤرّخ السلطوي الذي تجاهلهم.
لا يولد الحدث في فراغ، بل في بيئة لها مكانها وزمانها وأشخاصها، بيئة تتحرّك فيها الشخصية محكومة بظروفها. صحيح أنّ رواية حسين ياسين جاءت لتنصف هؤلاء الأبطال، “عليّ” ورفاقه، الذين غمرهم التاريخ، ولكن، ليتأتّى له ذلك، ولكي تكتمل الصورة، كان لا بدّ له من كشف أوراق الحزب الشيوعي آنذاك، بشقيه العربي واليهودي، وإظهار الصورة الحقيقية لقيادته: العربية التي انحازت للوطن والدفاع عنه، واليهودية التي انحازت بأغلبيتها لـ “اليشوف” ومشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين. وهنا، كإنسان شيوعي، فكرا وانتماء، لا بد أنّ أذكر أنّ كل شيء خاضع للنقد والمراجعة، وأنّ انتمائي للفكر الشيوعي لا يعني قبولي لكل ما يقوم به حزبي أو أي حزب شيوعي آخر. ولكنّه لا يعني بحال من الأحوال، قبولي لما يروّجه بعض الموتورين أو المأجورين، للناس البسطاء، من أنّ أخطاء الشيوعيين أو خيانتهم، هي ما أدّى إلى تقسيم فلسطين أو ضياعها.
وشيء آخر أراه في غاية الأهميّة، هو أنّ الحزب الشيوعي في الداخل، بعد الانقسام عام 1965، هو غير الحزب الشيوعي قبل الانقسام وقبل النكبة كذلك، رغم ما وقع فيه من أخطاء. بعد الانقسام عام 1965، لم يعد باستطاعة الرفاق اليهود الذين انحازوا لمبادئهم الشيوعيّة، أن يقفوا مع المشروع الصهيوني، ولا مكتوفي الأيدي حيال قضية الشعب الفلسطيني الذي قام المشروع الصهيوني على أرضه وعلى أنقاضه.
أمّا في المرحلة التي يأخذنا حسين ياسين إليها، في ثلاثينيات القرن الماضي، فالموقف الصهيوني معروف، ولكن ما يهمّنا هو موقف الكثيرين من الرفاق اليهود الذين وقعوا في الخطأ الذي استمرّ لفترة طويلة، بدعمهم للاستيطان اليهودي في فلسطين، وهم يعرفون أنّه يقوم على حساب شعب يُشرّد بالحديد والنار من أرضه وتُبنى المستوطنات الصهيونية على أنقاضه. ويعرفون أيضا أنّ فكرة الكيبوتس هي مجرّد خداع واحتيال صهيوني على المعسكر الشيوعي وعلى العالم كله.
ومن هنا أعود مرة أخرى إلى أمر في غاية الأهميّة يتعلّق بالشكل. فعلى حدّ تعبير فيصل دراج: “اتفقت الرواية مع “التاريخ التقدّمي” واختلفت عنه في آن: اتفقت معه وهي تُقاسمه وحدة الواقعي والمتخيل، والذهاب من الحاضر إلى المستقبل … واختلفت عنه مبتعدة عن الكلّيات ومحتفية بالتفاصيل، وذلك في نصّ معتم متعدّد المستويات، يتأمّل التاريخ في طبيعة إنسانية مثقلة بالتناقض” (درّاج، ص 12). وأتساءل: ألم تكن طبيعة حسين ياسين الإنسانية وفكره الشيوعي الأممي، هما ما دفعه نحو هذه الحقبة المعتمة من التاريخ، والمليئة بالتناقض؟ ألم يحتفي بالتفاصيل التي يهملها التاريخ، لكي ينتقم لعليّ ورفاقه من التاريخ الذي أهملهم؟ وبالنسبة لبطل الرواية، ألم تكن طبيعته الإنسانية وفكره الشيوعي والأممي كذلك، هما ما دفعه نحو إسبانيا، ليُؤكّد أن النضال الفلسطيني هو نضال إنساني بالأساس، وهو جزء من النضال الإنساني العام ضد الظلم والاستغلال.
ويرى فيصل درّاج أيضا، أنّ جوهر العمل الروائي الأكثر عمقا يُعبّر عن ذاته في السؤال: ما هو الإنسان؟ … والسؤال عن ماهية الإنسان، يرافقه هاجس جاء على لسان البولوني ب. باتشكو وهو يُسائل روسّو: “يسقط الطغاة حين يسأل الإنسان: من أين جاء الطغاة؟” (دراج، ص 15). وأنا أرى أنّ هذا الهاجس، عبّر عنه حسين ياسين من خلال شخصية البطل، مرتين على الأقلّ: مرة في مقاومة “عليّ” للاستعمار الإنجليزي في فلسطين، ومرة في مقاومته للدكتاتورية في إسبانيا.
فترة النضال في إسبانيا، يُمكننا اعتبارها “استراحة الفارس أو المحارب” في حياة “علي”، ولكنّها استراحة من نوع آخر، استراحة من النضال بالنضال، استراحة نضالية أبرزت شخصيته الأممية، في حين أظهرت مقاومته للإنجليز شخصيته الوطنية والشيوعية في آن معا. ولذلك، ذهب “عليّ” إلى إسبانيا، ليُساهم في حسم الأمر لصالح الثورة، وعلى أمل أن يعود للنضال في فلسطين. ولو حالفه الحظّ وعاد إلى فلسطين لناضل بشخصيته الإنسانية بشقّيها: الوطني والأممي، لا ليحرّر فلسطين فقط، وإنّما ليعلّم رفاقه اليهود الذين انحازوا للاستيطان الصهيوني على حساب شعب فلسطين، ليُعلّمهم درسا في الأممية، وفي السمو الوطني الذي لا يفقده الإنسان إذا دافع عن وطن غير وطنه. ولكن، هذا السمو لا يمكن أن يشعر به من يوافق على اقتلاع إنسان من بيته ليسكن هو أو غيره، مكانه.
ولا بد من ملاحظة أخيرة. في رواية حسين ياسين، نوع من السعي نحو مدينة فاضلة “تُنهي التاريخ وتتوّج نهايته بانتصار عادل، لأنّه من حلم الإنسان بعالم عادل، جاءت فكرة اليوتوبيا” (دراج، ص 22). وأنا أجزم أنّه يجمع بين حسين ياسين وبطل روايته دافع واحد، هو الحلم بعالم عادل. حلم البطل دفعه للنضال في فلسطين ثم إلى إسبانيا، وحلم الكاتب دفعه للكتابة لينصف البطل وينتزع حقّه من براثن التاريخ المزيّف. هذا الإنصاف الذي بخل به التاريخ والمؤرخون المأجورون، تولاه حسين ياسين في روايته، “عليّ”، أو قصة رجل مستقيم”، فحمله وبدأ بكتابتها طريقه نحو مدينته الفاضلة.