هذه وقفة حزن وبكاء بلا دموع، في لحظة صدق خلقها حاتم عليّ بموته، كما سبق وخلقها في إبداعاته! وكعادتي، ورغم حزني الشديد، لم أبكِ حين بلغني خبر موت المخرج السّوري حاتم عليّ – رحمه الله. ولكن، هذا المخرج العبقريّ، الذي اقترن اسمه باسم الشعب الفلسطيني ونكبته، في مسلسله التلفزيوني المدهش، “التغريبة الفلسطينية”، الذي أراه قمّةً في الصدق والإبداع، جعلني أعرف سطوة البكاء وقسوته، حين يكون بلا دموع.
حين تنهمر الدموع من مآقينا لأيّ سبب مؤلم، فهي غالبا ما تجلي صدورنا ونفوسنا، وتمحو سطوة الحزن والألم، أو تُخفّفها على الأقلّ، أمّا البكاء بلا دموع، فهو انفجار في لحظة صدق، تتشظّى لها النفس وما تراكم فيها من حزن وألم لا تمحوه الدموع ولا الأيّام، ولا تُفلح حتى بتخفيف سطوته. في مسلسله، “التغريبة الفلسطينيّة”، أبدع المخرج حاتم عليّ، فخلق لحظة الصدق تلك.
حاتم عليّ، المولود عام 1962، عرف التشرّد في الخامسة من عمره، فقد شرّده من أرضه وبيته في مرتفعات الجولان السّوريّة، الاحتلال الصهيوني عام 1967، وتحديدا من قرية “الفيق” التي هدمها وشرّد أهلها. حاتم عليّ وافاه الأجل ككلّ منفيّ يموت وهو يترقّب أن تطأ قدماه تراب الوطن ثانية. لذلك ليس غريبا على مخرج عبقريّ مثله، وخاصة حين تلتقي خبرته في الإخراج، مع خبرة الكاتب الفلسطيني المبدع، وليد سيف، أن يُبدعا معا مسلسلا مثل “التغريبة الفلسطينية” وغيره الكثير من مسلسلات الدراما التاريخية. وقد رأيت في هذا الثنائي العبقريّ وكثرة أعمالهما الإبداعية المشتركة، رأيت فيهما الإصرار على استعادة وحدة سوريا الكبرى التي مزّقها الاستعمار.
موت حاتم عليّ، أحزنني كثيرا رغم أنّني لم أعرفه إلّا من خلال مسلسله، “التغريبة الفلسطينية”، الذي أخرجه عام 2004، وقد تجلّت فيه عبقريّته النادرة، إذ يشهد فيه المتابع مدى التّشابه حدّ التّطابق بين ما قدّمته الكاميرا وبين ما حدث في الواقع من فعل الاغتصاب والتهجير، لدرجة يشعر فيها المشاهد بتلاشي الحواجز أو الفروق بين زمن القصّ وزمن القصّة، لكأنّه يعيشها لحظة القصّ.
موت حاتم عليّ وحزني عليه، جعلاني أنطلق من اللاوعي، لأُبحر تلقائيّا في الشبكة، لأبحث فيها عن المسلسل، “التغريبة الفلسطينية”، وأعيد مشاهدته. والنكبة بالنكبة تُذكر، فلعلّ في جائحة الكورونا أيضا ما ساعدني على ذلك!
اعتكفت ثلاثة أيّام أمام شاشة حاسوبي، شاهدت فيها إحدى وثلاثين حلقة، بمعدّل عشر ساعات متواصلة في اليوم، هي عشر ساعات من البكاء والنحيب المتواصل، ولكن بلا دموع، عشر ساعات من الغصّات القاسية المتتالية، كانت تجتاح حلقي الغصّة تلو الغصّة، فينهمر البكاء وتأبى الدموع، فلا تسعفه ولا يُسعفني.
خلال المشاهدة، كنت بين حين وآخر، أسأل نفسي: لماذا كلّ هذا البكاء الآن وأحداث النكبة، رغم أنّي ولدت بعدها ولم أشهدها، ماثلة أمامي منذ وعيت على الدنيا قبل ما يزيد عن ستّين عاما؟ ولم أجد جوابا سوى هذا الإبداع الذي أنجزه المخرج حاتم عليّ، بالتّعاون مع الكاتب الفلسطيني الفذّ، وليد سيف الذي أبدع القصّة والسيناريو والحوار. فالمخرج وكاتب السيناريو، هما الشخصيّتان اللتان لهما بصمة في كلّ صغيرة وكبيرة في المسلسل، أيّ مسلسل، سواء شاركتا في التمثيل أم لا. كاتب السيناريو يُخطّط والمخرج يُنفّذ.
على مدار تلك الساعات، شعرت أنّني لا أشاهد الأحداث فحسب، بل أعيشها، أعيشها وليس كشخص من شخوصها، بل كأنّني كلّ شخوصها. ولعلّه هذا ما جعل الألم والحزن لديّ، يتدفّقان نحيبا لا ينقطع. ذلك لأنّ الإنسان غالبا ما يعيش في الواقع قصّته وغصّته، وإن التقتا أو ارتبطتا بقصص الآخرين وغصّاتهم. ولكن في مسلسل “التغريبة الفلسطينية”، يعيش المشاهد، المنتمي على الأقلّ، قصّته وقصص الآخرين، ويُكابد غصّته وغصّات الآخرين، كأنّها كلّها له. وهذا لعمري هو الإبداع الذي يسمو ويفوق الواقع، لأنّه يُبدع المعاناة ويجعلها تحفر في النفس أكثر من معاناة الواقع. وظنّي أنّ الكاتب وليد سيف والمخرج حاتم عليّ، هذا الثنائي العبقريّ، قد نجحا أيّما نجاح، لأنّ إبداعهما صدر عن معاناتهما الشخصيّة وليس عن معرفتهما بالتاريخ فقط، فهما لم يُوثّقا تاريخا فحسب، بل أبدعا في صنع التاريخ وفي إسقاطه على الواقع الراهن أيضا.
بعدما انتهيت من مشاهدة مسلسل “التغريبة الفلسطينية”، قرأت بعض ما كُتب حول أعمال المخرج حاتم عليّ، ووجدت أنّه أبدع بالاشتراك مع الكاتب وليد سيف، مسلسلات أخرى لم تسبق لي مشاهدتها، فلست مغرما بالتلفزيون ومسلسلاته. شدّ انتباهي منها ثلاثة مسلسلات يحكي كلّ منها بعض تاريخ الأندلس: الأول، مسلسل “صقر قريش”، ويحكي قصّة الخليفة الأمويّ، عبد الرحمن الداخل مؤسّس الدولة الأمويّة في الأندلس. والثاني، مسلسل “ربيع قرطبة”، ويحكي قصّة محمد ابن أبي عامر (327 – 392 هـ / 938 – 1002 م)، الملقب بالملك المنصور أو الحاجب المنصور الذي ولد في منطقة الجزيرة الخضراء جنوب الأندلس. قدم إلى قرطبة صغير السنّ، طلبا للعلم والأدب، وهناك ذاع صيته بسبب فصاحته وبلاغته في الرسائل والمخطوطات والعرائض التي كتبها للناس في مكتب صغير أقامه أمام قصر الخلافة. وبسبب فصاحته وبلاغته وسعة اطّلاعه، ألحقه بالقصر، الخليفة الحَكَم المستنصر بالله، كمرافق لولده عبد الرحمن. وقد أصبح بعد موت الخليفة، الحاكم الفعلي للأندلس. وأمّا الثالث، فمسلسل “ملوك الطوائف”، ويحكي قصّة المعتمد بن عبّاد، كواحد من أشهر ملوك الطوائف في الأندلس، في فترة عُرفت باسمهم، وهي الأشدّ ظلاما في تاريخ الأندلس السياسي، رغم ما شعّ فيها من نور المعرفة والثّقافة، علما وأدبا وفلسفة.
اعتكفت مرّة أخرى لأيّام، شاهدت فيها المسلسلات الثلاثة، فأكّدت لي ما سبق وزعمته، أنّ الإبداع في الأعمال السرديّة والدراميّة، لا يكمن في مدى الصدق بتوثيق التاريخ فحسب، بل في مدى النجاح في صنعه وإسقاطه على واقعنا الراهن. وقد نجحت المسلسلات الثلاثة في ذلك أيّما نجاح. ولكن، فقد كان لمسلسل “ملوك الطوائف” الأثر الأكبر في نفسي، لا لنقص في سابقيه، بل لما فيه من إبداع يجعل المشاهد يستحضر ما هو حاضر فعلا، “ملوك الطوائف”، أولئك الذين ما زالوا يعيشون بيننا، نشاهدهم ونسمعهم ونقرأ عنهم في مختلف وسائل الإعلام كأنّهم يعيشون معنا رغم بعدهم عنّا، ولكن ليس في ذلك يتجلّى حضورهم الحقيقي، وإنّما في موبقاتهم وفواحشهم التي تجعل النكبة الفلسطينية وغيرها من النكبات العربية، حاضرة فينا، وأحداثها مستمرّة تُعمل أنيابها في لحمنا، فنجدنا نعيش علقمها في كلّ فعل من أفعالهم، في كلّ خبر من أخبارهم، في كلّ تصريح سياسيّ وغير سياسيّ من تصريحاتهم، وباختصار، في كلّ فاحشة من فواحشهم ورذيلة من رذائلهم. فأين منهم ملوك طوائف الأندلس الذين قد يُدانونهم في خبثهم ودسائسهم واقتتالهم ولكنّ ملوك الطوائف في أيّامنا، يفوقونهم في ذلّهم وخسّتهم وموت نفوسهم، هذه الرذائل التي تتجلّى في انحيازهم وخضوعهم المذلّ لأعداء شعوبهم وأمّتهم.
يحصر البعض أنّ ملوك طوائف الأمس، هم ملوك النفط اليوم. كم كنت أرجو ذلك، لرأيت عندها في بعض الآخرين بعضا من الرجاء، ولكن لا، فلمزيد الحزن والأسى والأسف، ملوك طوائف الأمس، هم كلّ ملوك طوائف اليوم، ملوك أمّتنا التي شرذموها وهتكوا عرضها، كلّهم لا أستثني منهم أحدا.
قد يكون ملوك النفط اليوم، هم الأبرز بين ملوك الطوائف، وذلك لبروز فواحش سقوطهم ومهانة ذلّهم أمام أعداء شعوبهم وأمّتهم، وقذارة تحالفهم معهم طلبا لحماية عروشهم، حاملات أقفيتهم. هؤلاء حقّا، قد فاقوا الأشهر من بين ملوك طوائف الأندلس، المعتمد بن عبّاد، ملك إشبيلية الذي تحالف مع ألفونسو، ملك قشتالة الصليبيّ، لحماية عرشه وملكه، ودفع له الجزية من الذهب الخالص، ولم يكن يجرؤ على مخالفته رغم أنّه كان يتعمّد إهانته لدرجة يقال فيها إنّ ألفونسو الذي كان يؤمن بالتنجيم، وخضوعا لإيمانه به، أرغم المعتمد بن عبّاد، ألّا تلد زوجته إلّا في مسجد قرطبة الكبير. أمّا اليوم، فهذه هي حال ملوك النفط، إلّا أنّ المعتمد بن عبّاد في نهاية الأمر، ظلّت في نفسه بقيّة من كرامة، وإن لم يحفظها حتى النهاية. فحين تدهور وضع إشبيلية الاقتصادي، وعجز المعتمد عن دفع الجزية، خلط الذهب بالنحاس ليتمكّن من ذلك، ولكنّ مبعوث ألفونسو اكتشف الخدعة فرفض استلام الذهب المغشوش، فغضب المعتمد وطرده وقتل جنوده. وحين بلغ الخبر ألفونسو، حاصر إشبيلية ثلاثة أيام، ولكنّه فكّ حصاره لها مضطرّا، فقد هدّده المعتمد بن عبّاد بالاستعانة بيوسف ابن تاشفين، زعيم المرابطين الذي بنى في المغرب دولة قويّة وموحَّدة.
وهل يخشى الصليبيّون شيئا في كلّ زمان ومكان، كخشيتهم من تحالف العرب والمسلمين، أو الشعوب المقهورة حيثما كانت؟ ولأنّهم لا يخشون ذلك اليوم، لثقتهم باستحالة التحالف بين ملوك الطوائف، جاء الملك الصليبيّ الجديد، ترامب، إلى ديار ملوك النفط، محمّلا بحقائب فارغة، وعاد منها بحقائب تفيض ذهبا وفضّة، بينما ترزح شعوب مَن ملأوها، تحت نير القهر والجوع.
ولماذا أنعت ترامب بالملك الصليبيّ، على غرار ألفونسو الصليبيّ؟ ذلك لأنّه بعد عودته محمّلا بالذهب، من لدن ملوك الطوائف العرب، أعلن عن القدس الموحَّدة عاصمة أبدية لإسرائيل. وقد اختار يوم إعلانه بدقّة وعناية مقصودة. فبعد أن كان إعلانه مجرّد تصريح أطلقه في حملته الانتخابية، اعتبره البعض “بلفورا” جديدا، انتظر لتحقيق تصريحه والإعلان عنه، إلى ما بعد انتخابه بعام تقريبا. أعلن عنه في يوم الأربعاء، السادس من كانون الثاني 2017 تحديدا، لأنّه في مثل ذلك اليوم، قبل مائة عام، في السادس من كانون الثاني 1917، دخل الجنرال أللنبي القدس، وهناك قال عبارته المشهورة، “الآن انتهت الحروب الصليبية!”، وقصده كما أفهمه، “الآن قضينا على أعدائنا العرب والمسلمين”. ولأنّ الذين قُضي عليهم هم الحكّام وليس الشعوب، فقد جاء إعلان ترامب، القدس الموحَّدة عاصمة أبديّة لإسرائيل، في ذلك اليوم بالذّات، لأمرين أظنّ أن لا ثالث لهما: الأوّل، إهانة العرب والمسلمين بإهانة حكّامهم الذين لا تلد نساؤهم إلّا بأمره. والثاني، الإعلان عن أنّ الحروب الصليبية لم تنتهِ بعد، وأنّ الحقد التاريخي كذلك لم ينتهِ، فهما مستمرّان ما استمرّ العرب والمسلمون في الوجود. فهل اهتزّت شعرة في جسد أيٍّ من ملوك الطوائف؟ أو شعر أحد من ملوك النفط الذين ملأوا حقائب ترامب بالذهب، بشيء من الإحراج أمام شعبه أو أمّته، أو بشيء من الخزي والإهانة في نفسه، أو بشيء من الشعور بالذنب والإثم أمام الله؟ لا وشرف إيفانكا وعفّتها، وجمال طلعتها وميعة غصن بانها الذي أشعل أشياءهم، وأسال ريالاتهم، ما حدث ولن يحدث! ولماذا يحدث وقد كان آباؤهم، هم من أعانوا بن غوريون على تصريحه قبل أن تقوم إسرائيل بسنوات، حيث قال: “لا إسرائيل بدون القدس، ولا قدس بدون الهيكل”؛ عبارة تُلخّص المؤامرة الصهيونية التي تدعمها الإمبريالية الغربية، تُلخّص ما تحقّق منها وما ينتظر. وها هم حصلوا على إسرائيل كلّها (فلسطين كلّها)، وعلى القدس كلّها، بشرقها وغربها، حديثها وقديمها، فهل بقي غير هدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم مكانه؟ أليست الحملة الصليبية الجديدة، المعروفة بصفقة القرن، كفيلة بذلك، وها هو تنفيذها مستمرّ باستمرار اغتصاب الأرض وضمّها وبناء المستوطنات عليها، وكذلك في استمرار هدم المنازل الفلسطينية وتشريد أصحابها؟ وإذا سألني سائل منكم: أين حُماة القدس؟ أضحك حتى أنقلب على ظهري وأقول: أوّلا، هل تأتّى كلّ ذلك للصهيونية والصليبيين، بدون دعم ملوك الطوائف وموافقتهم، وخاصّة حماة القدس منهم؟ وثانيا، أليس من العيب أن يخفى الجواب على أحدكم، ونحن جميعا، نشهد في الأيّام الأخيرة ليل نهار، الـ “حرّة” تأكل بثدييْها في الأبراج الشاهقة خزيا، والفنادق الفخمة ذُلّا، وهي تحتفل بأعيادنا الوطنية للخيانة والتطبيع!
حاتم عليّ، دعني لا أثقل عليك أكثر، إذ لا أظنّك تنام الآن قرير العين، بل تتقلّب مهموما على أحرّ من الجمر، رغم بلائك الحسن في ما تقرّ به عيوننا. حاتم عليّ، لك أحني هامتي، فقد أبدعت ما أبكاني بلا دموع. إبداعك لم يُعد إلى ذاكرتنا ما سبق من تاريخنا بما فيه من نور ونار وظلام فحسب، بل خلقته وخلّقته، فأضأت به عقولنا وأثلجت صدورنا وأرحت نفوسنا، بهذا الهجوم الكاسح الفاضح على ملوكنا، ملوك الطوائف المعاصرين، أولئك الذين خاضوا كلّ معاركهم راكعين عراة على رُكبهم، زاحفين أمام جسد فتنة، أو أمام سيّد يحشر إصبعه في مواضع الفتنة. وهكذا جعلوا تاريخنا المعاصر مسلسلا عربيّا من المخازي!