قراءة في السيرة الشعرية، “لاجئة في وطن الحداد”، للشاعرة سلمى جبران.
سلمى جبران، أديبة مثقّفة وشاعرة فجّرت شاعريتَها المأساةُ التي عاشتها، وما زالت تعيشها كأنثى وامرأة فقدت زوجها وشريكها، وكأمّ فقدت والد أطفالها، ولكن بالأساس، كإنسانة زعزع الفقدان كيانها ورمى بها في عالم الوحدة بين مخالب مجتمع لا يرحم الضعيف ولا يواسي المحزون ولا يتماثل مع الجريح إلّا بقدر رضوخه لعلاجات متخلّفة أرحم منها الجراح مهما كانت عميقة.
سلمى جبران إنسانة انقلب عالمها الداخلي والخارجي فلم ترحمها القبيلة أيّا كان رمزها، فلاذت بالشعر والحبّ والإيمان، رسمتها أيقونات تستمدّ منها قوّتها على الصبر والصمود في وجه عاصفة لا ترحم، وبالتالي، تستمدّ منها توقها للحرية والخلاص.
فجّرت المأساة شاعرية سلمى فولدت سيرتها الشعرية في أربعة فصول أسميها أنا دوائر، أولا لأنّ الشاعرة استعملت هذا الاسم في اثنتين منها، وثانيا لأنّني لا أفترض تتابعها فقط، وإنّما تداخلها أيضا، رغم أنّا لا ندري مدى هذا التتابع والتداخل، ولكن لا نشكّ أيضا بترابطها برابط الألم والشعور بالحزن والحرمان، الذي أنتجه الموت والفقدان، في ظلّ قبيلة تُحاصر الإنسان، خاصة إذا كان امرأة لا أحد يأبه لما يعتمل في قرارة نفسها، من أسباب الوحدة والحاجة إلى التعاطف والمساندة، ومن توق إلى الحرية والانطلاق، بحثا عن خلاصها قبل أن يقتلها ثقل المأساة.
منذ العنوان، يدخل القارئ فضاء المأساة، ويبدأ بإدراك مدى الألم الذي هو مقبل عليه في هذا الملجأ والمنفى الذي دخلته الشاعرة ظلما وقسرا. “لاجئة في وطن الحداد”، عنوان تطلقه الشاعرة على الدوائر الأربع، ما يُؤكّد استمرارية مأساتها ومعاناتها التي قد لا تنتهي في الدائرة الرابعة. وتخّص الشاعر كل دائرة بعنوان ثانوي يحمل سمات المرحلة الواقعية والوجدانية التي تمرّ بها.
ويشمّ القارئ رائحة مأساة وما فيها من ظلم وقهر وتّعثّر ولجوء وفقد وحداد، من عبارة الإهداء: “إلى كل امرأة فقدت … فتعثّرت إنسانة وتعثّرت أنثى”. بهذا الإهداء تُصدّر الشاعرة مجموعتها أو دائرتها الأولى، دائرة الفقدان. وتكرّره في بداية كل دائرة من دوائرها الأخرى. وهذا في رأيي يُؤكّد أنّ الدائرة الأولى، “دائرة الفقدان”، هي أقوى الدوائر الأربع في حياة سلمى جبران، وهي الأكثر تأثيرا في سيرتها الشعرية. وبكل تأكيد، أحسّت هي بذلك، لهذا لم تتنازل عن إهدائها، ولم تُغيّره من دائرة إلى أخرى.
سلمى جبران، إنسانة وشاعرة، أدركت في مرحلة ما، من مراحل مأساتها أنّ القبيلة تخشى الجسد، لذلك تُحكم حصاره وتُحاول بشتى الطرق أن تكبت ممارساته. ولكنّ الشاعرة أدركت أيضا، أنّ القبيلة عاجزة عن حصار الفكر والروح، وإن كانت لا تكفّ عن محاولات قتلهما من خلال قتل الجسد أو محاصرته. وقد اثبتت سلمى جبران في رباعيتها “لاجئة في وطن الحداد”، وخاصة في دائرتها الأولى، دائرة الفقدان، أنّها شاعرة لاذت بالشعر تبحث عن خلاصها وانعتاق روحها، وأنّه لا بدّ لها من الخروج عن إجماع القبيلة، لينطلق فكرها وتسمو روحها لتبدع مأساتها في فضاء الشعر، دون أن تُقابل القبيلةَ العداء بالعداء والبغض بالبغض، بل اتخذت من الحبّ والإيمان سلاحا للمواجهة. صحيح أنّها لجأت كثيرا إلى الدين واللجوء إلى الدين في الشعر، يُعبّر غالبا عن ضعف الإنسان واستسلامه للقدر، ولكنّ الشاعرة حاولت بذلك أنّ تستمدّ من تعاليم السيد المسيح قوّة ونورا لتبصر طريقها في مجتمع أضاع طريقه.
يظهر بشكل واضح أثر الدين المسيحي، المتمثّل بأثر الإنجيل المقدس وتعاليم السيد المسيح في نفس الشاعرة وفي إبداعها الشعري. “لكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ” (إنجيل لوقا، 6: 27-28). من هذه الوصايا أبصرت سلمى جبران نور طريقها، واتخذت منها نهجا في حياتها وشعرها، وفي مواجهة مأساتها. يُثبت ذلك تكرّر هذا الأثر في الكثير من القصائد في دوائرها الأربع.
تجيد الشاعرة توظيف الأفعال بأزمنتها المختلفة. ولكنّها تخصّ المضارع بنصيب الأسد، لما يُضفيه على القصيدة من حركية تحتاجها لشدّ القارئ والتأثير في نفسه. ويبدو أثر ذلك واضحا عندما تنفلت وتخرج من رتابة الفعل الماضي وسكونيّته، إلى الحركية بواسطة الفعل المضارع. كما أنّها وظّفت الفعل الأمر وهي تعرف ما فيه من قدرة على تحريك الساكن في واقع أرادت أن يخرج من سكونه ليصبح دراميا يعجّ بالحركة، كما في قصيدة “خذ كل متاع الدنيا” (الحلم خارج الدائرة، ص 21).
سلمى جبران، قبل أن تكون شاعرة، هي إنسانة فقدت، وكاد الفقدان يقضي عليها، كإنسانة وكأنثى، وعندما عجز، حاولت القبيلة أن تُلقي بها داخل الحصار. ولكنّ الألم الذي لا يشعر به غيرها، مهما تكاثر المتعاطفون، جاش في نفسها وحملها إلى الشعر حيث تعالت على جراحها وتسامت روحها فوق الألم وطفقت تبحث عن الانعتاق والخلاص.
قد تكون سلمى جبران كتبت الشعر قبل مأساتها، وقبل دخولها دائرة الفقدان، ولكنّها حينذاك، أتوقّع أنّها كتبته لتجد ذاتها، لا لتخلّصها. أمّا بعد حدوث المأساة ودخول الشاعرة “دائرة الفقدان”، فقد صقلها الألم والحزن وأضاءا جوانحها فأبصرت عبوديتها، وأبصرت مبشّرات حرمانها وخارطة خضوعها وانكساراتها. وإذا كان وعيها المأزوم تلك اللحظة، كان مهيّأً لقبول تلك الخارطة والسير عليها، فإنّ لاوعيها لم يحتمل هوانها، فراح يتدفّق على وعيها، مستغلّا حساسيتها الواعية القادرة على الغوص في طبقات اللاوعي واستخراج مكنوناتها التي تُمثّل الإحساس الصادق بالحياة.
تكتب سلمى جبران القصيدة بأشكالها المختلفة، ولكنّ قصيدة النثر هي الشكل الذي استحوذ على إنتاجها الشعريّ. وهي تعتمد في قصائدها النثرية إيقاعا تستمدّه من إيقاعها الداخلي، إيقاع مأساتها وإيقاع ذاتها التي صقلها الألم ولم يهزمها الحزن. وكثيرا ما نجد أنّ هذا الإيقاع يتبدّل ويتغيّر، يتسارع ويتباطأ ويصخب ويهدأ، تبعا لإحساسها بمأساتها وبالواقع الظالم من حولها، وبإيقاعها الداخلي الناجم عن ذلك الإحساس.
ولأنّ مأساة سلمى جبران هي فصل من فصول حياتها، وهي الفصل الأشدّ حسرة وألما، والأقسى ظلما وظلاما، لا عجب أنّها دعت رباعيّتها سيرة شعرية، فهي، لا يختلف اثنان أنّها تسرد، شعرا، أجزاء من سيرة حياتها الخاصّة. ولذلك لا عجب أيضا، أن يطغى الأسلوب القصصي على قصائدها، وأن يبرز الأنا في سردها، وإن كانت لا تهمل الآخر ولا تحتقره حتى لو ظلمها بإهمالها واحتقاره لها. وهنا تجلّت أيضا قدرتها على توظيف الضمائر، فتنقّلت بينها رغم طغيان الأنا المتكلمة. كما أنّ أسلوب السرد في قصائد سلمى جبران، يُؤكّد أنّها ما زالت تحمل محنتها وتعيش مأساتها، وتصرّ على متابعة محاولاتها في مواجهة المجتمع، للخروج من دوائر القيد التي كشفتها المأساة.
“لاجئة في وطن الحداد”، هي سيرة شعرية جاءت في أربع دوائر، عناوينها تؤكّد ما أكّدته الشاعرة في لقاء معها، أن الدائرة الرابعة هي ليست الأخيرة، وأنّ دائرة أخرى سترى النور قريبا. وأنا أتوقّع أنّ الدائرة الجديدة قد لا تكون هي الأخيرة أيضا.
المأساة التي فجّرت شاعرية سلمى جبران، كشفت عن صوت شعري فيه من العمق والصدق، ما يُوازي القدرة على اللغة وتكثيفها وترميزها، وفيه من الثقافة ما يجعله قادرا على توظيف التناص مع التراث والدين والأسطورة، بشكل يثُري القصيدة جمالا ومضمونا. ومع ذلك، أقول بكل ثقة، أنّ هذه القدرة، وهذا صدق في المشاعر، والعمق في النفس الشعريّ، برز أكثر في دائرتها الأولى، ربما لأنّها الأقرب إلى المأساة، زمنًا ونفْسًا، حيث كانت شاعرية الشاعرة أقرب إلى مأساتها، تنبع وتتدفّق استجابة للألم المنبعث منها.
في قصائد الدوائر الأربع، يطغى الشخصي، فالذات المتكلّمة هي ذات الشاعرة بكل حمولاتها المأساوية. ولكنّ هذه الحمولات تكشف الواقع بكل أطرافه، لذلك كان لا بدّ أن يمتزج الشخصي بالعامّ، بكل مكوّناته الاجتماعية والسياسية والدينية، دون أن تُحدّد رموزا عينية لهذه المكوّنات، ربما لأنّها لا تطلب منهم شيئا سوى أن يبتعدوا عنها و”يتركوها بحالها”، تواجه قدرها وتقرّر مصيرها بنفسها وبقدراتها الذاتية. فهي ليست ضعيفة كما يتوهّمون.
في دوائرها الثلاث الأخيرة بشكل خاص، تكرّر الشاعرة ذاتها في الكلمة والعبارة والمعنى، وفي أكثر من قصيدة. ولكنّ هذا التكرار لا يرقى دائما إلى مستوى التكرار البلاغي. صحيح أنّ له أحيانا ما يُبرَّره، ولكن، كثيرا ما لا نجد له مبرِّرا، فيتحوّل إلى كلمات أو عبارات مكرورة كثيرا ما تفقد مصداقيّتها، لأنّ التأكيد وحده لا يكفي، لأنّ بلاغة التكرار تكمن في الدلالات التي يُحيل إليها التأكيد. ولكنّها المأساة، مهما تسامى الشاعر فيها فوق الألم، تُعجزه أحيانا عن اللغة المتسامية التي توازي مشاعر الحزن والألم. وعن ذلك يصدر التكرار الذي يكتفي بالتأكيد، أو الذي لا مبرّر له أبدا.
1. دائرةالفقدان
الدخول في هذه الدائرة كان قسرا، لأنّ بانيها هو الموت الذي لا سلطة للإنسان عليه. ولكن، سبقت الموت ارهاصات كثّفها مرض الفقيد / الحبيب، أجّجت الشعور بقرب المأساة قبل وقوعها. وقد تكون هذه المرحلة، والشعور الذي يُرافقها، أقسى بما لا يوصف، من وقوع المأساة والدخول في دائرة الفقدان. في هذه المرحلة القاسية، بدأت شاعرية سلمى جبران تتكوّن بالتزامن مع تطوّرات المأساة. ولكنّها تدفّقت بعد أن تجسّد شعورها بالفقد والحرمان برحيل شريك حياتها. تقول في قصيدة “إلى شاعري”، الأولى في “دائرة الفقدان”: “لو تعرف الحواكير / التي زرعتها / لو تعرف الأرض / التي أحببتها / لو تعرف البساتين / التي غنّيتها / كيف انحنى القلب / تشرّد في هواك / قلبي يدور في فلكه الحنين / وتعصف الرياح في طيّاته / تهزّه تعصره / نوائب الدهور”.
توظيف التكرار لعبارة “لو تعرف”، ينطوي على دلالات أعمق بكثير من التأكيد فقط، فهي تحمل ألم الموت وحزنه، فهو الذي خطف الحبيب، وهو الذي كسر إرادته وفرض عليه امتناعه عن المعرفة، بدليل معرفة الشاعرة المسبقة بحبّ فقيدها للأرض وغنائه لها ولبساتينها. ولكن الآن، بعد حدوث المأساة، وقبل هدوء عاصفتها ولو قليلا، بدأ يتفجّر ويطفو على السطح الشعور بالفقد والحرمان، والحنين إلى ما كان. ولكن، بدأ أيضا الشعور بضرورة المواجهة، مواجهة الموت في مسارين متوازيين: الأول، مقاومة الموت بمعنى مقاومة آثاره النفسية من ضعف وحزن وشعور بالفقد والحرمان، التي فُرضت على الشاعرة وتكاد تقتلها. وهنا يأتي المسار الثاني، مقاومة الموت في الحياة. وهذا ما أكّدت عليه الشاعرة في قصيدتها الثانية، “روحك أقوى”، حيث تقول في مطلعها: “يا حبيبي أنا لم أبقَ / وحيدة / أنت نور في فؤادي / أنت دمع وحياة / وقصيدة / أنت حلم لم يمتْ / أنت لحن يُطرب القلب / يُغنّيه نشيده”. في هذا المقطع، ومن خلال تكرار مفردة “أنتَ” وما يليها، تخلق الشاعرة معادلا موضوعيا للحبيب ووجوده الحقيقي، وتُخفّف من حدّة آثار مأساتها. كما أنّها تستعين بشكل واضح بالشعر كعامل مساعد على الخلاص، حين قالت في المقطع السابق: “أنت دمع وحياة / وقصيدة”. ومثل هذا يظهر في كثير من قصائد الشاعرة. في قصيدتها التالية، “ليتني أسكب روحي” مثلا، حين تقول في مطلعها: “يا حبيبي / ليتني أسكب روحي / في سطوري”.
ومن نافل القول، أن نذكر أنّ الشاعرة في كثير من قصائدها، تُؤكّد وفاءها لحبّها وحبيبها، كوفائها لذاتها التي صقلتها مأساة فقده. وهذا الوفاء يُجسّده البحث عن حبيبها في الناس والأشياء حولها، لعلّها تجد فيهم من، أو ما يُعوّضها عن غيابه. تقول في قصيدة “بعد الرحيل”: “أبحث عن إنسان / ما زال هواه يغمرني / أبحث عن وجه ألقاه / حين أجوب شوارع / حيفا / … / ألقاه في كلّ / شوارع وطني / … / ينتظر لقاءً يُحييه / ويُحييني / … / أبحث عنه في “خلَّة” صبرٍ / أو في كرْم التينِ”. ولكنّ هذا البحث يُعيد الشاعرة إلى الواقع ويصدمها به، كما في قصيدتها “الآهات العشر”، وفيها تناصّ مع “الضربات العشر”، وليس مع “الوصايا العشر”. في هذه القصيدة تتكشّف للشاعرة آفات المجتمع: النفاق، التسلّط والظلم، انعدام البرِّ والتضحية، التناقض بين الجوهر والمظهر، الحقد، عدم التفهّم والتعاطف، قلب الحقائق، الخِسّة، احتقار المرأة، الخضوع للحاكم المستبدّ دائما. وهنا لا بد من موقف، ضعيف يتمثّل بالخضوع، أو صلب وحازم يتمثّل بالتمرّد. ومما لا شك فيه أن قصائد كثيرة في هذه الدائرة، “دائرة الفقدان” وغيرها، تُؤكّد تمرّد الشاعرة على المجتمع وأعرافه وقيمه السلبية الظالمة. تقول في قصيدة “صور بشرية”: “ويثور القلب المجروح / ويزأر ويُهدّد كلّ / القيم المرتدّة / والأعراف اللاإنسانية / يُعلنها حربا تتحدّى / كلّ قيود الأرض / وتنسف أفكارا رجعيّة”. وترفض الشاعرة بشكل خاص، النظرة الرجعيّة الدونيّة التي ينظرها المجتمع إلى المرأة، حين تقول في القصيدة نفسها: “تكتمل الدائرة / فتشقى روحي / تتعذّب نفسي / تتحقّق أحلام الضعفاء / تهزمني تلك / “الصور البشرية” / فأعود إلى نفسي / وأمزّق كلّ الأحزان / وكلّ الأهواء / وكلّ “النعرات القبلية” …”. ولكنّ الشاعرة التي أثبتت لنا تعاليها على الجراح وتساميها فوق الألم، تُثبت ذلك مجدّدا برحابة صدرها واتساع قلبها للناس جميعا، رغم ما فيهم من ضعف وخضوع وظلم، حيث تقول: “وأعودُ فأُلقى في نفسي / بـذرةَ حُــبٍّ / تحميها أيـدٍ ربَّانـيَّة / ترويها في روحي / آيـاتُ الإنـجيلِ الطَّاهـِرِ / تزرعُها فِــيَّ / ترعاها روحُ حبيبي / الحائِمـةُ هـناك / في أجـواءِ الأَبَدِيَّة / تنتعِشُ البذرَةُ / تكبرُ … تنمو / فتُحطِّـمُ حربًا في نفسي / تجعلني أهوى، أعشقُ حـتَّى / تلكَ “الصُّوَر البشريَّة” …”.وقد سبق لي أن ذكرت مدى تأثّر الشاعرة بوصايا السيد المسيح وتعاليم الدين المسيحي البارزة في المقاطع السابقة. ولم يكن ذكر “الإنجيل الطاهر” ليبرز هذا التأثّر فقط، وإنّما ليُؤكّد تمسّك الشاعرة بالطهارة التي يدّعيها المتستّرون بالإنجيل وطهارته. وتظهر طهارة النفس في البكاء الذي يطهّر النفس التي تغرف من نبعها المقدّس: “وأنوح أبكي ساعة / وتُذيب جسمي لوعة الحسرات / فأعود للنبع المقدّس / أنهل الأسفار والآيات / فيضجّ في صدري نشيدي”. توظيف مفردة “يضجّ” هنا، ليس موفّقا، رغم أنّه لا يُخفي المعنى والدلالة المقصودين، ولكن، كان على الشاعرة أن تدرك أنّ للضجيج، عادة، له دلالة سلبية مرفوضة، بينما أرادت هي للمفردة دلالة إيجابية لا تخفى على القارئ.
تظهر قمة التعالي على الجراح والتسامي على الألم وقبول الآخر والإنسانية كلّها، في قصيدة “وتذوب النقمة” (دائرة الفقدان، ص 39)، حين تنتقل روح الفقيد / الحبيب، وتتجسّد في روح الشاعرة، فيتلاشى الجسد وأفراحه الفانية، وتموت الأهواء البشرية ويسمو الحبّ فيصير الحبّ البشريّ حبّا إلهيًّا يتسع لكل الناس ويجعل الدنيا كلّها وطنا واحد للجميع.
هناك تداخل واضح بين قصائد الدوائر الأربع. فهناك قصائد تصلح لأكثر من دائرة ولكنها موجودة في دائرة وكان من الأفضل أن تكون في دائرة أخرى. مثلا قصيدتا “حوار صامت” (دائرة الفقدان، ص40)، و”سؤال” (م. ن.، ص 45)، لا أدري لماذا لم تدرجهما الشاعرة في الدائرة الرابعة، دائرة “حوار مع الذات” رغم أنّ هذا النوع من الحوار بارز في كليهما.
كان فقيد الشاعرة / الحبيب والزوج، شاعرا. والشاعرة تذكر ذلك في كثير من قصائدها. ولكن الأهمّ، وهنا يبرز حبّها وصدقها، هو استحضار شخصه وروحه، ليُفجّر قريحتها وعبقريتها الشعرية، لأنّه يريد خلاصها، ويُؤمن، بتأثير تجربته، أنّ خلاصها سيكون في الشعر، كما يظهر ذلك في قصيدة “حكاية غريبة” (الفقدان، 64). في هذه القصيدة توظّف الشاعرة الأسطورة. فحكايتها الغريبة تتناصّ بشكل ما مع أسطورة “عازف الناي” الذي خلّص مدينة هيملين (Hamelin) الألمانية من الجرذان. والشاعرة تستحضر في قصيدتها، شخص حبيبها ليخلّصها بتفجير عبقريتها الشعرية. والغريب الذي لم أفهمْه من هذا التوظيف هو أن تجعل الشاعرة، عندما تصلها تلك القصة الغريبة مرّة أخرى، “عن رجل يدور في الحارات / ليلا حاملا قيثارة / وعازفا لحنا نشازا / كلّ ما فيه جنون …”، تجعل صوت القيثارة نشازا كلّه جنون. قد نفهم جنون الحياة في مأساة الشاعرة، ولكنّ النشاز لا أفهمه إلّا إذا قصدت اختلاف صوت حبيبها عن الأصوات الأخرى التي تُحيط بها بعد رحيلها.
الشاعرة في “دائرة الفقدان” تحنّ إلى الماضي. ولكنّها في قصيدة “وأحطّم كل شباكي”، تكتشف أنّها والفقدان، أغنية ينقصها اللحن العذب الذي كان، ويسكنها اللحن الجديد الشاكي الذي يُشعرها حين تعود على نفسها، بالخيبة وفداحة الخسران.
الشاعرة ليست حبيبة فقط، أو زوجة فقدت شريكها، وإنّما هي أمّ أيضا، تعيش حالة الفقدان من خلال أطفالها الذين فقدوا والدهم الذي كان يرعاهم، يلاعبهم ويلعب معهم كأنّه واحد منهم. أما الآن، بعد رحيله، فالأمّ مضطرّة للقيام بالدورين معا: دور الأم ودور الأب: “فتضيء دنياهم / بنور أمومتي / يحيا بها قلب الأب المعطاء / يحضنه الصغار …”.
وللذكريات نصيب كبير في قصائد الشاعرة. فمن خلالها حاولت الشاعرة أن تعيش التناوب بين الماضي والحاضر، بين الذكريات السعيدة والواقع الراهن المؤلم، كما في قصيدة “غريبة في بلد يرعى الغريب” (دائرة الفقدان، ص 77)، حيث تستحضر روح الحبيب وتنصهر بها لمواجهة الحياة من أجل الأطفال. أو كما في قصيدة “هل يصدق حلمي؟”، حيث تستعين بالذكريات والشعر لمتابعة الحياة، فإذا كان الماضي قد ولّى فإنّ في الحاضر ما يستحقّ أن تحيا الشاعرة لأجله، أطفالها الذين تتخلّى من أجلهم عن ذاتها. تقول في قصيدة “ويصير حبّهم لأسئلتي جوابا”: “فأسير راضية أمامهم / ويبعث نورهم / في عالمي عطرا مذابا / فيزول من دربي / ظلام حالك / ويصير حبّهم / لأسئلتي جوابا” (دائرة الفقدان، ص 96).
يُخيّم الشعور بالفقدان بكلّ أبعاده على قصائد الدائرة الأولى، “دائرة الفقدان”، ولكنّه في الحقيقة، لا يُفارق الدوائر الثلاث الأخرى إلّا قليلا. ولذلك أتوقع أن يستمرّ هذا الشعور بكل قسوته في أيّ دائرة قد تتبع الدوائر التي أصدرتها الشاعرة حتى الآن.
2. الحلمخارجالدائرة
في هذه الدائرة، دائرة “الحلم خارج الدائرة”، محاولة للخروج من “دائرة الفقدان” إلى الحياة الجديدة التي فُرضت على الشاعرة، لكيلا تفقد صلتها بالحياة من حولها، لأنّ الموت وما يفرضه من الألم والشعور بالفقدان، مهما كان قاسيا، يجب إلّا يفضي إلى الموت في الحياة.
في قصائد هذه الدائرة، في نظري، لم تفلح الشاعرة بالخروج من “دائرة الفقدان”، وذلك لأنّي وجدت أنّها تُكرّر نفسها، في قصائد كثيرة يبرز فيها هذا الشعور. ولكنّها بذلك، ضربت عصفورا آخر، فقد جسّدت أمامنا، مدى الألم، ومدى صعوبة الخروج من تلك الدائرة. يظهر ذلك في تخبّطها في كثير من قصائد هذه الدائرة، دائرة “الحلم خارج الدائرة”، فهي تتخبّط بين الخروج من دائرتها الأولى وبين البقاء فيها. هي تريد أن تخرج، ولكنّها ببساطة لا تستطيع، ليس لأنّ المجتمع ظالم لا يريد لها الخروج فقط، وإنّما لأنّ مأساتها صعبة، كثيرة الألم والحزن، وقاسية شديدة القسوة، لا تُمكّنها من ذلك بسهولة.
من القصائد التي تعكس الحلم خارج “دائرة الفقدان”، قصيدة “وتكسّر ذلّها قيدا فقيدا” (الحلم خارج الدائرة، 13-14). تقول في نهاية القصيدة: “يا من أبيتم أن تروا / إنسانة ترقى / وتكسّر ذلّها / قيدا فقيدا / هيّا أفيقوا … واعرفوا / أنّ النساء إذا أحبّت / لا ترى قبرا ولحدا / فهيامها ينمو / وغرامها يرقى / ويتّخذ المحبّة / والهوى دينا ومبدا …”.في هذه المقاطع، كما في القصيدة كلّها، محاولة جادّة للخروج من “دائرة الفقدان” ومواجهة المجتمع الظالم الذي لا يرحم امرأة فقدت، لا يهتمّ بها ولا يريدها لها أن تخرج من قيودها التي رسمها لها. وهو كما تراه الشاعرة، مجتمع جاهل متخلّف، لا يفهم قدرة المرأة على تحطيم قيودها.
ولكنّ الشاعرة، وفي القصيدة التالية مباشرة، “أعيش على الرصيف” (م. ن.، 15-16)، تقول: “ويثور بي في لحظةٍ / ألم الفراق / وتعتريني نوبةُ / الحبّ الدفين، وتحيك لي دنياي / سخرية ومعذرة / ثوبا يشعّ سواده، يكويني/ فأحسّ أنّي / حين ألبسه يُظلّل / وحدتي، يُخفي المرارة، في دمي، يُخفيني / ويصير لون، الكائنات كلونه / وتذوب ألوان الحياة / تُحيلها سودا فساتيني”. هذا المقطع يُعبّر بصدق عن لوعة الفقدان وعدم الخروج من دائرته، رغم أنّ الشاعرة تقول في نهاية القصيدة: “وأظلّ أكتب / عن معاناتي / فيهمس جمرها حينا / وأحيانا يُعزّيني / فيصير حبّي في / حياتي شعلة / تُحييني”. لا أريد التشكيك بصدق هذه العبارات، ولكنّ لا أشكّ بأن العبارات السابقة أصدق بكثير، فهي تبدأ بثورة صادقة، تتفجّر من لاوعي الشاعرة، يُفجّرها الحزن والألم، بينما في نهاية القصيدة “يهمس جمر المعاناة أحيانا”. إذًا الدائرة الأولى ما زالت أصدق وأقوى.
ما يُؤكّد ما أزعمه أيضا هو أن الشاعرة تُكرّر في هذه الدائرة، ما سبق لها أن قالته في “دائرة الفقدان”، بالكلمات أو العبارات نفسها، وأحيانا بعبارات أخرى. مثلا: في قصيدة “روحين نحيا …” (م. ن.، ص 17-18)، تجد الشاعرة خلاصها في اتحاد روحها بروح فقيدها / حبيبها. وفي قصيدة “أملك حبّا” والقصيدة التي تليها، “خذ كلّ متاع الدنيا” (م. ن.، ص 19-21)، تتنازل عن الشهرة والمجد لأجل صغارها، وتكتفي بالحبّ وروح حبيبها التي تسهر معها ولا تفارقها، أي أنّها تتنازل عن كل ما هو مادّي لأجل كل ما هو روحاني: الأطفال والحبّ وروح الحبيب.
ويتكرّر عجز الشاعرة عن الخروج من “دائرة الفقدان” في قصيدتي “قلب كئيب صائم” و”لوحة خرساء” (م. ن.، ص 40-43). ولكن، قد تتميّز هذه الدائرة بأنّ الحلم فيها هو حلم بالعودة إلى الماضي أو إلى ما كان، كما يظهر في قصيدة “حلمي يظلّ معذّبي” (م. ن.، ص 46)، لأنّها ما زالت تشعر أنّ فقيدها / حبيبها، هو الحامي حين تقول: “ويزورني حلم يُقيّدني / ويكبت فيّ أنفاسي / ويجعلني أعيش وحيدة / وأذوق آلام الفراق، أقاسي”.
كما يبرز في هذه الدائرة أيضا، وإن لم يكن جديدا، اكتشاف الشاعرة للقبيلة بكل دلالاتها ورموزها، وما تضمره القبيلة من عدائية للشاعرة وحقد عليها. ويبرز كذلك استعدادها للمواجهة، ولكن بسلاح مختلف، لا علاقة له بالعداوة والحقد. سلاحها هو الشعر والحبّ. وقد أشرت سابقا، إلى أثر تعاليم الدين المسيحي في شعر الشاعرة وسلوكها. بالشعر والحبّ تقاوم الشاعرة كل هموم الدنيا حين تتساءل في قصيدة “هل هذا ما يُسعد قلبًا” (م. ن.، ص 49-50): “هل هذا ما يُسعد قلبًا / أم أنّ هموم الدنيا / أقوى، أعظم بل أكبر!! / يتحوّل كل الكون ويرقى / لكنّ الحبّ يظلّ / يُقاوم، يشقى، يحيا / يبقى حبّا لا يتغيّر!!”. في هذه القصيدة، وفي عبارات كثيرة، مثل: “سلبتني نجما يتنوّر … لم أبصر حولي أثرا للنجم الغارب / لم أبصر / قد غاب النجم وحيدا / بقيت أحزاني تتكرّر”، تتناصّ الشاعرة مع الخنساء وحزنها بأفول نجم أخيها. ومن الجدير بالذكر هنا، أنّ الشاعرة نفسها تعترف بتكرّر أحزانها، وفي ذلك إشارة واضحة لتكرّر عباراتها ومضامينها.
في هذه الدائرة أيضا، محاولات كثيرة للتأقلم خارج “دائرة الفقدان”، ولكنّها تبدو في كثير من القصائد محاولات يائسة، أو خائفة على الأقلّ. هذا المعنى واضح في قصيدة “هل أستعيد” (ص 86)، ولكن في قصيدة “جنون” (ص 88)، يتجسّد الخوف من الضياع أو فقدان الصلة بالحياة، ورجاء الطمأنينة بعد ما فعلته “دائرة الفقدان”. تقول: “أخاف أن يمتدّ بي الجنون حيث / يُعدَم الكلام / هل انتهي في خلوة مع الردى / أم أنّ روحا / تفوق روحي صحوة / وتنتقي لي درب من / حصدهم حُرُّ الغرام / يا حبّ أرشدني / إلى الروح التي تناسخت / في كبدي، علّي أنام!!”.
ينتهي “الحلم خارج الدائرة” بالتخبّط ذاته، بين البقاء في “دائرة الفقدان” ومحاولة الخروج منها. وهذا التخبّط مشروع في رأيي، حيث أنّ الشاعرة، تبحث عن ذاتها وخلاصها في الوقت نفسه، في ظلّ الحقيقة الجديدة، الفقدان وما تلاه من حزن وألم، كما يظهر ذلك في قصيدة “باحثًا عن الحقيقة” (م. ن.، ص 101)، حيث تقول: “لا قلب يملأ عالمي / يُحييه أو يبعثه / يدلّه يُنير طريقه / … / فيغلب السواد / فيه حالكا / وصارخا وباحثا / عن الحقيقة …”.
3. متاهة الحبّ
المتاهة التي عاشتها الشاعرة في “الحلم خارج الدائرة”، وعدم قدرتها في حزم أمرها، أدخلاها في الدائرة الثالثة، “متاهة الحبّ”. هي متاهة فعلا، تظهر واضحة في التناقض الذي يُرافق الشاعرة في كثير من قصائدها. في القصيدة الأولى في هذه الدائرة، “وعيي يُعرّيني” (متاهة الحبّ، ص 13)، يظهر التناقض واضحا بين الفقرتين: الأولى حيث تُنهيها بـ: “فلا أدري إذا كانت حواراتي / تُدبّر لي حياتي / أم تُدبّر قتلي!!”. وهذا تعبير واضح عن المتاهة. بينما تقول في مطلع الفقرة الثانية: “ولكنّي اخترقت جدار / أصنام أحاطتني … / فحطّمها سؤالي / ومشيت فوق حطامها”. هذا التقرير العقلي الصارم، لا يتفق مع تلك المتاهة. ولكنّه التخبّط، كما ذكرت، التخبّط المشروع الذي تعيشه الشاعرة بعد مأساتها. وهو ذاته ما يخلق في نفسها الصراع بين عشق الروح وعشق الجسد. فالشاعرة تقول: حبّ الروح، وعباراتها الصادرة عن اللاوعي، تنضح بحبّ الجسد، ما يجعلنا نشعر، وبحقّ، أنّ حبّ الروح يأتي تعبيرا عن عجزها، على الأقلّ، في التوفيق بين الإثنين. تقول في قصيدة “أسئلة تبحث عن فجر” (متاهة الحبّ، ص 18): “قد أعشق فيك الصوت / وأعشق فيك الحلم / وأبصر فيك حياتي / … تتفجّر في قلبي / ودماغي شهواتي / لا يزني من يعشق / فكرا أو روحا”. تبدو العبارات الصادرة عن اللاوعي صادقة، “تتفجّر في قلبي / ودماغي شهواتي / لا يزني من يعشق”. ولكنّ عبارة “فكرا أو روحا” تبدو مقحَمة على ما سبقها من عبارات لا تُخفي حبّ الجسد إن لم تكن تنضح بشهواته.
في القصائد التالية، لا تتنازل الشاعرة عن انتصارها في البحث عن الحرية في مواجهة القبيلة (أبصرت النور، ص 20). فهي لن تخسر أكثر مما خسرت، محنتها كسّرت قيودها (أترك جرحي، ص 22). وهي تحتفظ بحقّها في التعبير عن ألمها، حتى لو كره الآخرون (الآاااااخ، ص 23). ولكنّها تعود وتعترف بتخبّطها في متاهة الحبّ، كأيّ امرأة عربية، خاصة عندما تُحاصر بعد مأساة حلّت بها. تتخبّط ولكنّها لا تستسلم، كما ورد ذلك في قصيدة “حلم امرأة عربية” (ص 24): “دوما أتخبّط، أركض / وأفتّش عن حلمي / حلمي سرقته / منذ قرون / كلّ “فتوّات” العرب / … / إنّي لن أقبل / بعد اليوم / بسجن هدمْتُه”.
يبرز في هذه المتاهة أيضا، وفي أكثر من قصيدة، سمو الحبّ وتعالي العاشق فوق جراحه لينتصر الحبّ على الآفات البشرية. يبرز اقتراب الشاعرة من هذا المعنى في قصيدة “حبّي يتلاشى”. هذا من حيث المضمون، ولكن من حيث الشكل في هذه القصيدة، تبرز معارضتها بشكل ما، لقصيدة “مضناك جفاه مرقده” لأحمد شوقي، التي عارض بها الحصري القيرواني في قصيدته، “يا ليل الصبّ متى غده؟”. وفي هذه المعارضة، إسقاط للحزن الذي عاشه الشاعران، على الواقع القاسي الذي تعيشه شاعرتنا.
ويلفت النظر في هذه المتاهة أيضا، التوظيف الموفق للأسطورة، كما يتجسّد في قصيدة “من وحي الأوديسة” (ص 99)، وإن كنت أفضّل اختيار عنوان آخر للقصيدة، لأنّ عنوانها سلب القارئ بعض المتعة التي يخلقها التناصّ. في القصيدة، تستلهم الشاعرة مأساة “بنلوب”، ومعاناة انتظار حبيبها، أوديسيوس، الذي هرب من حرب طرادة فعاقبته الآلهة بالضلال في الطريق، ولكنّه وصل في اللحظة المناسبة، حيث كانت حبيبته “بنلوب”، الوفية لحبيبها، تواجه جيش الطامعين بقتل روحها للاستمتاع بمباهج جسدها. توظّف سلمى جبران هذه الأسطورة لتسقطها على واقعها، في إخلاصها لفقيدها / حبيبها، أثناء صراعها ورفضها لإملاءات القبيلة التي تطالبها بالسكوت والخضوع وعدم الشكوى.
قد ترى الشاعرة أنّها نجحت في الانتقال بشكل طبيعي من دائرة إلى أخرى. وأنا أقبل هذا النجاح ولكن بتحفّظ كبير. فمن ناحية، هناك حقيقة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، أنّ الشاعرة قدّمت لنا سيرة شعرية من أربعة فصول أو أربع دوائر، فيها الكثير من الإبداع. ولكن من ناحية أخرى، لم يكن عبثا، تساؤلي سابقا حول توثيق كتابة القصائد بتواريخها وأهميّة ترتيبها وتداخلها بين الدوائر الأربع. لأنّني افترض أنّ التدرّج في كتابة القصائد في رباعيّة كالتي بين أيدينا، يفرض تدرّجا في تطوّر إدراك الشاعرة، وفي تطوّر أو تغيّر حالتها الشعورية: النفسية والعاطفية. وهذا، لا نستطيع أن نجزم به إلّا من خلال معرفتنا بتسلسل كتابة القصائد، وتسلسل ترتيبها ومدى تصويرها للواقع في الدائرة الواحدة، وفي الدوائر الأربع كلّها. وهذا متعذّر علينا. وأنا أفضّل تسمية أجزاء السيرة بالدوائر على الفصول، لأنّ الفصول تتابع ولكنّها لا تتداخل، بينما التداخل بين الدوائر ممكن، وأنا افترض مثل هذا التداخل بين دوائر السيرة أو أجزائها الأربعة. وعليه فإنّي أرى أنّ الشاعرة أخفقت في الخروج من أيّ دائرة على المستوى الشعوري، وعلى المستوى الفنّي أيضا. ويظهر هذا من ناحية، في التكرار الذي سبق الحديث عنه. ومن ناحية أخرى، في الانتقال إلى الدائرة الرابعة، دائرة “الحوار مع الذات”. وهنا أتساءل: ما الذي أرغم الشاعرة، بعد المراحل الثلاث السابقة على اللجوء إلى الحوار مع ذاتها؟ أليس هو الفشل في تخطّي الحواجز: الفنية والشعورية، على حدّ سواء أو بتفاوت ما؟ وفي كل الأحوال، الدائرة الرابعة، دائرة “حوار مع الذات”، كانت نتاج الدوائر الثلاث السابقة، فقد كانت بذور هذا الحوار موجودة فيها جميعا.
4. حوارمعالذات
هذه الدائرة، كما ذكرت، أتت نتاجا وتطوّرا طبيعيا للدوائر الثلاث السابقة. فلماذا لجأت إليها الشاعرة؟ ومتى يلجأ الإنسان عامة إلى الحوار مع الذات؟ ألا يعني ذلك أن هناك خللا معيّنا تراه الشاعرة فيما قامت به حتى الآن، أو أنّ الحوار مع الآخر قد فشل لسبب أو لآخر، ولهذا السبب تريد الشاعرة مراجعة نفسها ومحاسبتها، من منطلق أنّ الذي لا يستطيع الحوار مع ذاته، لا يستطيع الحوار مع الآخرين؟ قد لا يكون السبب متعلّقا بالشاعرة فقط، قد يكون متعلّقا بالآخر أيضا، ولكنّ أسلوب الحوار وزمنه، خاصة إذا كان مع الذات، هو قرار الشاعرة فقط.
الحوار مع الذات يجب أن يتمّ بهدوء تفتقده قصيدة “جنوني يُعلنني” (حوار مع الذات، ص 23). الجنون في القصيدة يعني ثورة الشاعرة على المجتمع وأعرافه التي تظلم المرأة، ولا نقاش لنا على شرعية هذه الثورة. ولكنّ القصيدة تفتقد الحوار مع الذات لبلوغ قرار ما. المأساة فجرّت الثورة بحقّ. ونهاية القصيدة تُشعرنا ببلوغ الثورة غايتها: “والآن ارتاح الخافق / من حقد هاجمه / وغدا ينهل من / كأس حياتي يشربه” (ص، 24). هذا الهدوء لم ينتج عن حوار مع الذات، وإنّما عن ثورة نجحت وبلغت أهدافها. ولذلك لا أرى مكانا لهذه القصيدة في هذه الدائرة بالذات.
عناوين القصائد في هذه الدائرة، معظمها يُعبّر عن توجّه الشاعرة نحو حوار هادئ مع الذات، فيه محاولة جديّة للخروج من المتاهات السابقة. المقارنة بين قصيدتي “باحثا عن الحقيقة” في الدائرة الثانية، “الحلم خارج الدائرة” (ص 101)، و”البحث عن حقيقتي”، في الدائرة الرابعة، “حوار مع الذات” (ص 13)، تبيّن الفرق بين التخبّط الذي عاشته الشاعرة في محاولتها للخروج من الدائرة الأولى، “دائرة الفقدان”، وبين الهدوء النفسي والتفكير العقلاني الذي تعيشه الشاعرة الآن، زمن الخطاب في الدائرة الأخيرة.
لننظر فقط إلى نهاية كلٍّ من القصيدتين: نهاية الأولى تقول: “فيغلب السواد / فيه حالكا / وصارخا وباحثا / عن الحقيقة …”، بينما نهاية الثانية تقول: “وتقول لي: “لا تقربي / دوّامة الأحقاد، وانسيْ / كلّ حاضرها وماضيها” / فنجوت من دوامتي ونسيتها / وحييتُ روحي للهوى أعطيها”. في الأولى هناك تخبّط نفسي واضح في البحث عن الحقيقة، وليس واضحا أيّة حقيقة، بينما في الثانية هنالك حوار واضح وهادئ مع الذات يُفضي إلى قناعة معينة. الهدوء يبدو واضحا في الناحية الفنية أيضا، في الإيقاع الهادئ في القافية التي جمعت بين الياء والهاء والألف، والتي أراها مستوحاة من قصيدة “المدينة والفجر” للشاعرة والناقدة الفلسطينية، سلمى الخضراء الجيوسي.
الحوار مع الذات يبدو واضحا في كثير من قصائد هذه الدائرة. وعلى سبيل المثال، في قصيدة “بين السطور” (حوار مع الذات، ص 23)، تطرح الشاعرة همّها بهدوء، قد يكون الإرهاق أحد أسبابه. ولكنّها تخلص بهدوء أيضا، إلى نتيجة تكفيها أو تكتفي بها، حيث تقول في نهاية القصيدة: “والآن يكفيني / ضمير ناهض / ومحبّة / بين السطور أعيشها / وأحسّ فيها / نشوة الحرية” (ص 26). وهذا الهدوء والسكون الذي يُميّز الحوار مع الذات، نجده في قصائد كثيرة تالية في هذه الدائرة. من هذا المنطلق تقول الشاعرة بهدوء بارز تستلهمه من جبران وعالمه الرومانسي في مواكبه وكافره وأرواحه المتمرّدة وغيرها، وتُجسّده في قصيدة “روح فتاة غجرية” (حوار مع الذات، ص 28)، حين تقول: “أحببتك لم أعرف / أنّ الموت سيهزمني / ويّلوّع قلبي / ويضني جسدي / لم أعرف أنّي بعدك / قد أبقى حيّة” (ص، 31).
لا مكان عندي للادعاء بإنّني قلت كل شيء تستحقّه سيرة سلمى جبران، بإبداعاتها الملحوظة وسقطاتها التي لا تخفى على القارئ. إنّها تستحقّ دراسات أخرى، جادّة ومتأنّية. ولكن، في نهاية هذه الدراسة، لا بدّ لي من الإشارة إلى مسألة أراها ذات أهميّة كبيرة، وتؤثر على فهم القارئ لشعر سلمى جبران، الذي جاء انعكاسا وإبداعا لمأساتها وواقعها بعد تلك المأساة.
أعتقد أنّ الشاعرة قد أخطأت عندما أصدرت رباعيتها دفعة واحدة، بغّض النظر عن الأسباب، سواء كانت فنية أو مادية أو غير ذلك، خاصة وأنّه لا يوجد بعد كلّ قصيدة، تسجيل يُوثّق تاريخ كتابتها. ولهذا السبب، من الصعب أن نجزم بتتابع أو عدم تتابع القصائد، أو تداخلها أو عدم تداخلها في ترتيبها في الدوائر الأربع، عوضا عن أنّ بعض القصائد كما أسلفت، تليق بأكثر من دائرة، أو تليق بدائرة وهي موجودة في دائرة أخرى. وما كانت الكاتبة لتقع في هذا الإشكال، أو لتوقعنا في هذا الظنّ، الذي قد يُصيب وقد يخيب ويظلم، لو أنّها على الأقلّ، أصدرت دوائرها منفردة. نحن نفترض توازي الكتابة، ليس بالضرورة الزمني، وإنما النفسي، مع تطوّرات الأحداث، ونفترض تتابعها وفق تطوّرات الأحداث، واقعا وليس افتراضا، بغض النظر عن حقّ الشاعرة في أن تأخذنا، في قصائدها ودوائرها، في رحلات مختلفة تجوب فيها الأزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل، وقت تشاء، وبالشكل الفنّي الذي تشاء.