تصرّفات النائب منصور عبّاس وتصريحاته في الفترة الأخيرة، لاقت الكثير من ردود الفعل. ولو لم تكن القضيّة تخصّ جماهيرنا العربية، وتمسّ كرامتها الوطنيّة وسبل نضالها المشروع، وتؤثّر على حياتها اليومية، الاجتماعية والسياسية، وعلى ثوابتها الأخلاقية، قبل الدينية والوطنيّة، لكان من المؤسف أن ننفق كلّ هذا الوقت وهذا الحبر، على نائب انفلت من عقاله وأخلّ بكل الثوابت. أراه يستهبلنا ويتعامل معنا كقطيع من المؤمنين بـ “ثوابته” هو، نقبلها بقلوبنا، ولا قدرة لنا على التفكير والتّعامل معها بعقولنا. وهكذا يصبح هو الراعي الوحيد لهذا القطيع، والقائد الأوحد الذي يستحقّ رئاستنا وليس رئاسة المشتركة فقط. وعلينا أن ننتهز هذه الفرصة، فقد لا تتكرّر هذه الظاهرة الفريدة الموسومة بالنائب الدكتور منصور عبّاس حفظه الله وهداه.
منصور عبّاس، النائب في المشتركة عن الحزب الذي اسمه “الحركة الإسلاميّة الإسرائيلية”، ليست الثوابت هي التي فرضته علينا، بل نسبة الحسم، وأظنّه يعرف ذلك. هذا النائب، انفلت من عقاله السياسي والدّيني، وحتى الأخلاقي، وأثار بتصرّفاته وتصريحاته، وكذلك بأسلوب تعامله الاستفزازي مع زملائه، أثار جدلا واسعا وردود فعل كثيرة، بعضها كان موضوعيا واضحا يُعبّر عن فهم للظروف الموضوعيّة، السياسية والاجتماعية التي تمرّ بها جماهيرنا العربية، يفوق فهم النائب الدكتور بما لا يُقارن، ويرمي إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح وفقا لحاجات جماهيرنا المتعلّقة بحقوقنا الوطنية واليومية في هذه البلاد، وبضرورة نشر الوعي بها وبقضية شعبنا عامة، بين أجيالنا.
وبعض تلك الردود كان مبهما لم أستطع أن أنفذ منه إلى خلاصة أفهمها لأعرف كيف أتعامل معها بموضوعيّة؟ المبهم، صدر عن الحركة الإسلاميّة نفسها، وعن إبراهيم صرصور، رئيسها السابق. فقد اجتمع قادة الحركة وأصدروا بيانا فضفاضا ثمّنوا فيه جهود النائب عبّاس، رئيس قائمتهم العربية الموحّدة، التي يبذلها كما يدّعي هو، للإصلاح ومكافحة العنف وما يترتّب عليه من جرائم في مجتمعنا العربي. وأشادوا كذلك بجهوده المباركة لحثّ الحكومة على تبنّي خطّة شاملة لمكافحة العنف والجريمة. وتعقيبا على الاجتماع نفسه، على ذمّة المحامي جواد بولس، في مقال له بعنوان “النائب عن الحركة الإسلامية، منصور عبّاس، ولافتة قف”، وأنا أثق به وبتقييمه، كتب إبراهيم صرصور أنّ الحركة الإسلامية وضعت أمام النائب عبّاس، “لافتة قف”، ما يعني أنّه وحركته، يعترضان على نهج عبّاس وتصرّفاته، كلّها أو بعضها، مع أنّهما، صرصور وحركته، لا يشكّان في حسن نيّته، ولكنّهما يطمحان إلى أن يكون حُسن التصرّف، هو الترجمة الصادقة لحسن النيّة وصدق العزيمة ومضاء الإرادة. ويستبعد صرصور أن يعود النائب عبّاس لمثل تصرّفاته وتصريحاته التي أتحفنا بها في الفترة الأخيرة، خصوصًا لأنّه حسب ادّعاء صرصور، “واحد من أكثر القيادات فهمًا لمبادئ الحركة وخطوطها الحمراء، وتنفيذًا لتوجّهات (أو توجيهات) قيادته”، إلّا أنّ ما فعله النائب عبّاس لاحقًا، كان معاكسًا لتوقّعات صرصور. تشهد بذلك، لقاءاته مع الإعلام الصهيوني. فحين سُئل في لقاء مع “واينت – Ynet”، إذا كان يعتقد بأنّ نتنياهو يعمل لصالح المجتمع العربي أو لصالح العرب في إسرائيل؟ وفي لقاء آخر حين سألته مذيعة يهوديّة: “ألا تعتقد أنّ نتنياهو عنصري؟ ألا يحرض ضدّ الجماهير العربية؟”، كان جوابه عن السؤالين ملتويا تُشتمّ منه رائحة الدفاع عن نتنياهو وحكومته.
وخلاصة القول، أنّ بيان الحركة الإسلاميّة فضفاض، وردّ صرصور مبهم، وإجابات النائب عبّاس ملتوية. كلّ ذلك وتُعلن الحركة الإسلاميّة حرصها على الحفاظ على المشتركة كمشروع وطنيّ، ولكنّها تشترط على شركائها، بعدم الخلاف معها في ثوابتها الدينية والوطنيّة”. ويتساءل بولس في مقاله: “وما أدرانا ما يقصدون بالثوابت الوطنيّة؟”، وأضيف أنا على مسؤوليتي: “وما أدرانا ما يقصدون بثوابتهم الدينية؟”. وعن قصد أقول “ثوابتهم”، أي الثوابت الخاصّة بالنائب عبّاس وحركته، لأنّني بصريح العبارة، لا أثق بهم ولا بثوابتهم الدينية التي أراها ليست في شيء من ثوابتنا الإسلامية كما نصّ عليها ديننا الحنيف، فما بالك بثوابتهم الوطنية؟ وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: أيّ ثوابت تلك، دينية كانت أم وطنية، التي تُجيز لنائب عربي في البرلمان الإسرائيلي، أن يُتأتئ في عنصرية نتنياهو وحكومته وتحريضهما على العرب عامة، وعلى الجماهير العربية في إسرائيل بشكل خاصّ؟ وأيّ ثوابت تلك التي تُجيز له أن يُجيب عن الأسئلة المباشرة والواضحة، بأجوبة ملتوية يفوح منها نتن الدفاع عن النتن ياهو وحكومته؟ وعند هذا التساؤل المشروع، لا بدّ لنا أن نتذكّر أنّ النائب عبّاس، صرّح في أكثر من مناسبة، أنّه يُمثّل، بنهجه وبمواقفه، حركته الأمّ. ألا يعني ذلك أنّ الحركة وقادتها، إذا كانوا معترضين فعلا على نهج عبّاسهم، يتحتّم عليهم أن يكونوا واضحين وحاسمين في ردّهم عليه، لأنّ التأتأة والإبهام والالتواء في مثل هذه المواقف، قد تعني الطبطبة واللفلفة للتغطية على نائبهم الذي يُنفّذ توجيهاتهم ولا يخرج عن إجماعهم؟
كان هذا حول الردود المبهمة، وما دامت مبهمة فهي غير موضوعية، وما دامت غير موضوعية، فعلينا إلّا نبني على أصحابها أو نتوقّع منهم الكثير، ففي ظنّي أنّهم لن يُراجعوا أنفسهم وسيمضون في غيّهم. ونحن، المعترضين على نهج النائب منصور عبّاس، نحن مّن علينا أن نراجع أنفسنا في مسألة شراكتهم، وليس في المشتركة فقط، وهنا أعني الشراكة مع القادة وليس مع جمهور المصوّتين لها، فالقادة هم الذين يدركون هشاشة المشتركة، فهي من صنع أيديهم، وسيتركونها بأنفسهم بعد أن يشقّوها، أو (يخربوها ويقعدوا على تاليها). وأظنّ، والنائب عبّاس يعرف، أنّ بعض الظنّ فقط، إثم، أنّ شقّ الصفّ وهدم المشتركة، هو هدف تواجدهم فيها، لأنّه الهدف الذي كُلّفوا بدخولها لإنجازه. وسأغضب إن سألني أحد: من الذي كلّفهم؟ تابعوا تصرّفات النائب عبّاس وتصريحاته في الإعلام الصهيوني، وسترونها تنطوي على إجابة واضحة؟
أمّا الردود الموضوعية، المتأنّية والواضحة، والتي لا تأتأة فيها، ولا إبهام ولا التواء، فسأكتفي منها بثلاثة، وسأبدأ من آخرها، مقال بولس، والذي اعتمدت عليه كثيرا في ما كتبت حتى الآن.
في مقاله المذكور، يتساءل بولس حول مصير القائمة المشتركة بعد المناكفات التي حذّر ويُحذّر منها، والتي “اندلعت، وما زالت تتداعى، بين النائب عبّاس، وبين زملائه في الجبهة الديموقراطية وحزب التجمع الوطني”. ومردّ تلك المناكفات، إلى تصرّفات النائب المذكور وتصريحاته أمام الإعلام الصهيوني، التي أراها أنا، تليق بنائب ينتمي إلى “غوش إمّونيم”، أو على أقل تقدير، بنائب عربي ينتمي إلى حزب صهيوني يميني متطرّف. ولا تليق بحال من الأحوال، بنائب في المشتركة حتى لو كان فيها ولا ينتمي إليها، وقد وصل بأصوات ناخبيها، وهو يعرف أنّهم أرسلوه وهم مجمعون على قلع نتنياهو ونهجه العنصري التحريضي.
يستعرض بولس تصرّفات عبّاس وتصريحاته، وموقف حركته منها، ويُعلن استياءه من الغامض والمبهم والملتوي في تلك التصرّفات والتصريحات والمواقف، وليس دفاعا عن أحد إلّا عن صوته الذي منحه للمشتركة، ومساهمة ذلك الصوت بوصول النائب عبّاس إلى الكنيست كممثل للجماهير العربية وليس للحركة الإسلامية فقط.
وينتقد بولس نهج عبّاس، ويُنهي مقاله: “لا أعرف أيّ لافتة قد تُرفع في وجه من لا يتوقّف عند خطوط “حركته الحمراء أو لا ينفّذ توجّهات قيادته”؟ لكنّني على قناعة أنّه إذا استمرّ في نهجه، وهذا ربّما كان حقّه وحقّ حركته، فسيترتّب على الشركاء في القائمة المشتركة إيجاد “اللافتات” الصحيحة التي ستقنعنا، نحن المصوّتين، بالتوجّه الى صناديق الاقتراع وانتخابهم مرّة أخرى!”.
لا أشك بحقّ المحامي جواد بولس في طرحه، ولا بصدقه، ولكن رغم حبّي واحترامي له وللتواضع، أنتقد تواضعه في هذا المقام. فمن جهة، نهج عبّاس ليس حقّا، بل هو نهج التطاول المُخزي والمرفوض، وكذلك هو نهج حركته إذا لم تأخذ موقفا واضحا منه، موقفا رافضا وحاسما في رفضه، بلا تأتأة ولا إبهام. ومن جهة أخرى، فالمسألة ليست مسألة لافتات قد يراها المعنيّ ويخرقها، جهلا أو وقاحة، وإنّما هي مسألة مبدأ ثابت وموقف حازم، أشكّ بقدرة نوّاب المشتركة، بمن فيهم رفاقنا، نوّاب الحزب والجبهة، أن ينطلقوا من المبدأ الثابت، حقوق جماهيرنا وكرامتها الوطنيّة، ويتّخذوا الموقف الحازم، في هذه الظروف التي يعرف بولس كما نعرف جميعنا، أنّ جماهيرنا العربية طالبت دائما باتّفاقنا ووحدتنا على الثوابت الوطنيّة والحاجات الموضوعيّة، ولكن للأسف، نسبة الحسم في الانتخابات، سرّ وحدتنا، كانت أقوى من مطلب الجماهير.
لا أتابع تصرفات النائب منصور عبّاس وتصريحاته، في الكنيست أو خارجها. بصراحة ليس لديّ وقت لأهدره، ولكنّي أقرأ كلّ ما يصل إليّ من ردود الفعل عليها. وبعدما قرأت مقال بولس بالأمس، وقرأت كذلك “ملخّص تصريحات عبّاس لقناة المستوطنين وغيرها”، المنشور اليوم، الجمعة، 27/11/2020، في صحيفة “الاتحاد” (ص 5)، وبعد كلّ تلك التصريحات والبيانات، تخيّلت أنّ الحكومة برأسها الحالي، عروس بثوبها الأبيض الذي لا تشوبه شائبة من العنصرية وكراهيّة العرب، تنتظر عريسها ومخلّصها، النائب عبّاس، قادما على حصانه الأبيض المجنّح، يُردفها خلفه، ويطير بها إلى شاطئ الأمان الجديد الذي اكتشفه، واكتشف أنّه يزخر بحبّ الحكومة ورأسها النتن، للإخوان العرب وتوجّهه إليهم وقت الانتخابات بـ: (האחים הערביים (الإخوة العرب), האחים בחברה הערבית (الإخوة في المجتمع العربي))، وضرورة الطبطبة على ظهورهم وتفهّم أوضاعهم وأسباب زعلهم، ولو في فترة الانتخابات وما يتخلّلها من مصائب قضائية تقع على رأس رئيس حكومتنا، الديمقراطي النّزيه، المحبّ الحكيم المستقيم. ولكنّي كبحت جماح خيالي، حين تذكرت صورة تداولتها مواقع التواصل، تجمع بين عروسين جميلين غير منسجمين، النائب عبّاس عروسا بمكياجها وثوبها الأبيض، تجلس إلى جانب عريسها، رئيس الحكومة النتن ياهو الذي تفوح من بدلته الكحليّة رائحة العنصرية، وترجمة نظراته وملامح وجهه تقول: “لعن الله تلك الورطة التي ورّطتني في هذه الورطة”. وبغضّ النظر عن مُفبرِك الصورة ومبدعها، فقد أثارني منظر العروسين لدرجة شعرت فيها بإهدار كرامتي الشخصية والوطنية، وقرفي من هذا الحضيض الذي سقطت فيه تلك العروس التي ذهبت خطيفة وهي تُمثّلني في البرلمان.
الردّ الموضوعي الثاني، والذي أشكّ في قدرة النائب عبّاس على فهمه، هو ردّ صديقي البروفيسور إبراهيم طه، الذي جاء بقسمين نُشرا في ملحق الجمعة في صحيفة “الاتحاد”، اليوم وفي الأسبوع الماضي.
في القسم الأول، بعنوان “الحرام والعيب والغلط”، يردّ البروفيسور إبراهيم طه بمنتهى الشفافية والموضوعيّة والجرأة، على تصرّفات النائب عبّاس وتصريحاته، ويشرح بمنتهى العمق، ما فيها من حرام محزن، وعيب معيب، وغلط مؤسف. ولأنّني ارتويت ولم أجد كلاما يُقال بعد هذا الكلام، أرسلت له الرسالة التالية، أنقلها إليكم بتصرّف طفيف: “مقالك هذا عن “الحرام والعيب والغلط”، وعن المحزن والمعيب والمؤسف، ذكّرني بأمرين: الأول، قولك لي قبل أيّام، تعقيبا على المفارقة في صورة تجمع بين بعض الشخصيّات اليهودية العقلانية المتنوّرة والشجاعة التي تُدافع عن حقّ شعبنا الفلسطيني، وبين المتصهينين العرب الذين يُنكرونه: “مفارقات اعتادتها جلودنا وتَمْسَحْنا للأسف الشديد!”. والثاني، مقال للصحفي نظير مجلي في جريدة هآرتس، “הארץ“، بعنوان “הערבים שאלו: למה נתקענו בעולם השלישי“? (العرب سألوا: لماذا علقنا في العالم الثالث؟)، ويتحدّث عن الأجيال العربية الجديدة في إسرائيل، وعن أسئلة تحدّياتها في واقعها الراهن كما يراه الكاتب. وهو مقال فيه ظلم كبير لأجيالنا، ولنا عليه مآخذ كثيرة، ولكن ليس ذا مكانها. ولكن استنادا إلى ما جاء فيه، ها هي هذه الأجيال بدأت تتكشّف مجسّدة بالنائب عبّاس ومن لفّ لفّه. أولئك يا عزيزي، جعلوا الحرام والعيب والغلط، دخلاء على أخلاقنا وثقافتنا. وبدأوا، مأجورين طبعا، يُؤسّسون فينا ويغرسون في ذاكرة أجيالنا، ما هو محزن ومعيب ومؤسف، فلا حرام ولا عيب ولا غلط يردعهم، لأنّهم إلى ما خُلقوا له ماضون كالببّغاوات المُلقَّنة أو الربوطات المأمورة.
هذا كان تعقيبي على القسم الأول، ولم أكن أعرف أنّ هناك قسما ثانيا، بعنوان “الحسبة ثلاثية: حتى لا تتحوّل الانتخابات إلى انتحابات”. وقد نُشر اليوم في ملحق “الاتّحاد”، ولكنّ، كان صديقي العزيز قد اتّصل بي وقال: سأرسل لك القسم الثاني من مقالي وقد أرسلته للجريدة. قرأته وكتبت له التعليق التالي: “وكما قلت لك، موافق على كل كلمة، على الله يفهم الدكتور، مع أنّي واثق أنّه حتى لو فهم لن يعمل، فهو يخدم ما وُجد هو لأجله، لا ما أرسلناه نحن من أجله. في حساباته رسالتنا انتهت حين دخل البرلمان، والآن علينا تنفيذ أوامر الإله الذي صنعناه من عَجْوَتِنا، فغلّف وجهه بقشرة هشّة من المقدّس، ظانّا أنّنا قطيع خانع يُحسن الخضوع لا التفكير. ووجود أمثالك يا عزيزي، خطر عليه. وحساب السرايا مش مثل حساب القرايا، وحسابات استثمارك الفكري الذي تسعى إليه والذي سيؤتي أكله ولو بعد حين، لا تنسجم مع حسابات الدكتور الذي يأكل والمهمّة الملقاة على عاتقه أن يُطعمنا الآن ولو بالإكراه، من السمّ الذي يطبخه له ولنا، النتن ياهو. مهمّته، هذا الشرخ الذي يحدث الآن. وأنا، منذ بدأ التفكير بهذه الشراكة والذي أفرز المشتركة، لم أكن مقتنعا وما زلت كذلك غير مقتنع به وبها. وقلت في حينه أنّنا (أقصد الحزب والجبهة بشكل خاص وجماهيرنا بشكل عام) سندفع ثمن هذه الشراكة التي تستند إلى ذبذبات نسبة الحسم، ولا تستند إلى فكر أو منطق أو مطلب جماهيري. وما مسألة مصلحة جماهيرنا العربية ووحدتها، إلّا تغطية للحقيقة المرّة والمشروع الأساس، دمارنا الذي لم يُفكّر فيه المتهافتون إلى الكنيست. وها نحن كما ترى، بدأنا ندفع الثمن. الدكتور تاجر، ولكن الحساب عنده ليس حساب الربح والخسارة من أجل الجماهير، بل حساب الربح فقط على ظهر الجماهير، وهو يعلم علم اليقين، أنّه شتّان ما بين الحسابين”. وهنا ينتهي التعليق.
قد يظنّ بعضكم أنّي مشاكس، ربّما، ولكنّي محظوظ أكثر بأصدقائي المشاكسين. فاليوم مثلا، بعد قراءته مقالي حول “الحروب بالوكالة”، ومقالي بروفيسور إبراهيم طه، اتّصل بي أحد هؤلاء المشاكسين، واكتفى بالتعليق حول مقالي بـ “مقالك حلو، أعجبني”، وانتقل مباشرة للحديث عن بروفيسور إبراهيم طه، وأثلج صدري أكثر من تعليقه على مقالي. قال: “يا زلمي شو هذا إبراهيم طه، منين بجيب هذا الحكي؟ نازل بمنصور عبّاس كسح، وكل كلمة موزونة وبمحلها، وبتسوى ثقلها ذهب. أعطيني رقم تليفونه بدّي أحكي معه!”.
إذن، جماهيرنا، إذا قرأت، تستوعب وتهتمّ، فمن الذي لا يفعل؟ طبعا من العيب أن أقول كلّ نوابنا في المشتركة، لأنّ بعضهم ليس كذلك، ولكن بلا شكّ، بعضهم كذلك وأكثر. ولكن، حتى هذا الـ “بعضهم” الثاني، غطّى عليه النائب عبّاس وكفّى ووفّى. فكأنّه لا يكفي أنّه لا يعرف كيف يُمثلنا في البرلمان، ولا حتى في جاهات الصلح العشائري، وأحداث كابول التي ما زالت دائرة، تشهد على فشله، فقد قرّر أن يبيعنا بثمن بخس، بثوب زفاف أبيض كمَهر من عريس لُقْطة … يا للعار! وليست هناك حاجة لأعود للحديث عن الثوابت التي يجهلها، أو يعرفها ويتجاهلها أو يتمرّد عليها، وأقصد الثوابت التي تجمعنا جميعا، وليس ثوابته الشخصية وثوابت حركته، الحركة الإسلامية الإسرائيلية.
والردّ الأخير الذي سأتوقّف عنده، وهو الأقدم، مقال للرفيق توفيق كناعنة، بعنوان: “نقاش هادئ مع النائب د. منصور عبّاس”، نُشر في ملحق “الاتحاد، 4/9/2020، أي في بداية الانفلات وسوء تعامل النائب عبّاس مع زملائه في المشتركة، وفي ردّه على الرفيق عصام مخّول. وبالفعل، كان نقاشه هادئا جدّا، وأكثر من اللازم، وموضوعيا جدّا في الردّ على تصريحات النائب عبّاس. وبالرغم من اتّفاقي مع الرفيق كناعنة في كلّ كلمة وردت في مقاله، إلّا أنّ هناك أمرا لا بدّ من التوقّف عنده. “يقول الدكتور منصور عن الرفيق (عصام) مخّول “إنّه في نهاية المطاف هو عضو في حزب اسمه “الحزب الشيوعي الإسرائيلي” ونحن أبناء لحزب اسمه “الحركة الإسلامية” والفرق واضح!”.
التصريح أعلاه، هو كلمة حقّ أراد بها باطلا. ولو كان يُدرك ما الحقّ الذي فيها، وأنّه عكس ما قصده تماما، لما صرّح بها، ولكن هيهات. والفرق فعلا واضح، واضح جدّا جدّا، بالضبط كما جاء في ردّ الرفيق كناعنة: “أوافق الدكتور قوله هذا لأن الفرق واضح جدًّا جدًّا”. وتلا ذلك بالكثير من الأدلّة الموضوعية الدامغة. ولكنّ الإشارة الواردة في المقال، والتي تفرض نفسها عليّ في هذا المقام، هي: “هل تعرف يا حضرة الدكتور أنّ الحركة الإسلامية أقيمت في أواسط سنوات السبعينيات من القرن الماضي وأنّ مؤتمرها الأول كان في سنة 1977، أي بعد يوم الأرض الخالد وبعد صدور وثيقة حاكم لواء منطقة الناصرة يسرائيل كينغ المعروفة للجميع، وإذا كنت لا تعرفها فمن الأفضل لك أن تعود إليها وتقرأها بتمعن حتى تعرف الفرق جيّدًا”.
النائب عبّاس، ربّما قرأ الوثيقة المذكورة، وربّما لم يقرأها، ولكن: هل يجرؤ النائب عبّاس على السؤال: من أقام حركته ولماذا عقد مؤتمرها الأوّل في ذلك التوقيت بالذات؟ وهل يجهل فعلا أنّه، بتصرّفاته وتصريحاته الآن، يجعل من نفسه وحركته، ترجمة حرفيّة لبعض بنود تلك الوثيقة سيئة الصيت، والتي تؤتي أكلها ليس في ما يفعله النائب عبّاس اليوم، بل منذ قيام حركته! “وتستحيش يا دكتور إذا حابب تعرف، اللي بسأل بِتُهِشْ”.
عزيزي القارئ، بغضّ النظر عن عقيدتك الدينية ومشاربك السياسية، أمعن النظر في تصريح النائب عبّاس أعلاه، وكن موضوعيّا في حكمك: هل يُطلِق مثل هذا التصريح نائب ذو عقل وهو جالس بإرادته لا بالإكراه مع الشيوعيين في قائمة واحدة؟ ألم يكن الفرق بينه وبينهم واضحا له قبل الانتخابات، أم أنّها نسبة الحسم لعنها الله؟ وهذا النائب الذي يشتم زملاءه ويُهدّدهم، هل يُمكن أن تُقلقه مصلحة الجماهير العربية وهو يُهدّد بشقّ صفّها مستغلّا هشاشة قائمتها الوحيدة، المشتركة؟ لو أطلق تصريحاته وتهديداته وهو خارج المشتركة، لتفهّمناه رغم رفضنا له ولها. فأين كانت شجاعته آنذاك؟ هل فقدها بضغط نسبة الحسم، أم أنّها لم تكن موجودة أصلا؟ لو كان شجاعا فعلا، لقال في تصريحه على الأقلّ، إنّ الرفيق عصام مخّول “في نهاية المطاف هو عضو في حزب اسمه “الحزب الشيوعي الإسرائيلي”، ونحن أبناء لحزب اسمه “الحركة الإسلامية الإسرائيلية”! أليست الحركة الإسلامية في نهاية المطاف حزبا إسرائيليا؟ وهي في رأيي، حزب إسرائيلي متميّز، لأنّه بالاستناد إلى المعلومات أعلاه، نشأ بإرادة إسرائيلية (وثيقة كينغ) وفي ظروف إسرائيلية خاصّة، بعد يوم الأرض وارتفاع أسهم اليسار في مجتمعنا العربي، وعلى رأسه الحزب الشيوعي؟
وبعد الفعل وردود الفعل، ما هي الخطوة القادمة؟
الإجابة عن هذا السؤال، تفترض عدّة سيناريوهات تختلف باختلاف الظروف الموضوعية التي لا بدّ لبعضها، أو لأحدها على الاقلّ، أن يتهيّأ لمعرفة أيّ سيناريو هو الذي سيتحوّل إلى حقيقة؟
الأقرب، هو أن تتمّ لفلفة الموضوع مؤقّتا. وعندها سنجد أنفسنا مضطرّين إلى انتظار الانتخابات القادمة، وخاصة الفترة التي تسبقها من ضغط تقديم القوائم. وإذا استعصت اللفلفة، فسيستمرّ الصراع، لأنّ النائب عبّاس وحركته، سوف يعملان كلّ ما بوسعهما، ليس بالضرورة من أجل الارتقاء إلى رئاسة القائمة، وإنما من أجل دحر الحزب والجبهة عنها، لأنّ هذا هو المطلب الأساس للحركة ومرسليها الحقيقيين. ولا أقصد جمهور ناخبيها. وإذا تحقّق الهدفان، لا سمح الله، فزيادة الخير خير وبركة بالنسبة لهم. وإذا لم يتحقّق أيّ منهما، فستكتفي الحركة وممثّلها، بالشرخ الذي يحرصان على توسيعه يوما بعد يوم، وإضعاف موقف المعارضين لنهجهم وثوابتهم، داخل المشتركة وأمام ناخبيهم، وعلى رأسهم الحزب والجبهة. وهنا يدخل نوع آخر من الظروف: هل سيصمد هؤلاء المعارضون لنهج الحركة وثوابتها، أم سيرضخون لها ولشروطها؟ وما الذي سيكون دافعهم إلى الصمود أو الرضوخ، قداسة مطلب الجماهير واحترام أصواتها والحفاظ على كرامتها الوطنيّة، أم نسبة الحسم؟ الأولى مصدر قوّة والثانية مصدر ضعف!
وأخيرا، المستفيد الحقيقي من نهج النائب عبّاس وتصرّفاته وتصريحاته، هو الحكومة ورئيسها. الحكومة تُمثّل السلطة اليمينية المتطرّفة الأكثر فسادا وعنصرية وفاشيّة في تاريخ حكومات إسرائيل، وهي ذات نفس طويل، ولا يضيرها أن نقتتل إلى أن تنضج الطبخة. ولكن اللاعب “المحروقة بصلته” ولا يُمكنه الانتظار، هو رئيسها، نتنياهو. صحيح أنّه يكره العرب ويُحرّض عليهم، وهو أبعد ما يكون عن الاعتراف بحقوقهم، ولكنّه ذكيّ، فماذا حدث له؟ هل كفّت بصرَه وبصيرتَه ملفّاتُه القضائية، لدرجة حلّ فيها الغباء مكان الذكاء، فصار يرى بمنصور عبّاس وحركته المنقذ من الضلال؟ في السياسة كلّ شيء جائز!
وعلى ما تقدّم، وكما أتوقّع، في الانتخابات القادمة لن تخرج الحركة الإسلامية الإسرائيلية من المشتركة، إذا لم تضمن خرابها أو عدد مقاعدها فيها. فهل هناك من بطل يُخرجها، إذا هي لم تخضع لثوابت مطلب الجماهير؟