(هذه المداخلة قُدّمت في أمسية تكريم الكاتب المقدسي، جميل السلحوت، في قاعة المجلس الملّي الأرثوذكسي برعاية نادي حيفا الثقافي واتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين، في حيفا بتاريخ 14/4/2016)
مساؤكم كضيفكم جميل، ولقاؤكم طيّب يشفي العليل، هو صوت مقدسيّ أصيل، جاءنا من زهرة المدائن، يحمل أشواق الكنائس والمآذن، طاف يُعانق الأحبّة في الجليل.
باسمكم جميعا أرحب بضيفنا المقدسي، الكاتب جميل السلحوت.
* * * * *
لغتنا، هي رابطنا الأقوى، وثقافتنا، هي صورتنا المشرقة. يتّسع في السنوات الأخيرة، اهتمامنا بثقافتنا، وبلغتنا التي تحملها. بهما نعزّز هويتنا الوطنية، ونرسّخ انتماءنا لأرضنا وشعبنا وأمتنا، وللمجتمع الإنساني بأسره. لأنّ لغتنا وثقافتنا هما حامل صورتنا الحضارية، كما نريدها أن تكون بين الأمم المتحضّرة.
أعرف صديقي، الكاتب جميل السلحوت، منذ زمن بعيد. ولكنّي تعرّفت على شخصيته الأدبية والثقافية، من خلال ما أرسله لي من إنتاجه الأدبي، ومن خلال موقعه على الشبكة. أذهلني الكمّ الهائل من إنتاجه وإصداراته. وأذهلني مدى انتشاره الثقافي. فمن تدريس اللغة العربية، إلى الصحافة، إلى الكتابة، الأدبية، إلى عضوية مؤسسات ثقافية كثيرة، بينها المسرح الوطني الفلسطيني، وندوة “اليوم السابع”.
عندما دخلت موقع جميل السلحوت، رأيت أنّه يضمّ كل أنتاجه. وعندما قرأت سيرته وشيئا من إنتاجه ككاتب وناقد، رأيت أنّه يُشيّد بُرجا ثقافيا شاهقا، وفضاء مفتوحا على التواصل الفكري والإبداعي، يكون مرجعا لكل المهتمّين بفلسطين والقدس، في مجالات الفكر والثقافة والإبداع، ويهدف إلى كسر الحصار البربري الذي تعيشه القدس، وإلى ترميم ما دمّره الاحتلال من شخصيتها ومعالمها.
قرأت بعض مقالاته في النقد الأدبي وغيره. وقرأت أربعا من رواياته، وقد أعجبتني الروايات رغم بعض الملاحظات عليها، ليس هذا وقتها. في هذه الأمسية، رأيت أن أحدّثكم عن جميل السلحوت كصاحب مشروع ثقافي له أهداف وطنية جليلة، يسعى إلى تحقيقها مع رفاقه من الكتّاب والمثقّفين المقدسيين. في نهاية حديثي، سأتناول إحدى رواياته باختصار، كنموذج يُثبت فعلا، أنّه صاحب مشروع ثقافي وطني.
في مجال النقد عامة، له زاوية بعنوان “بلا مؤاخذة”، ينتقد فيها أوضاعنا الفلسطينية والعربية، الاجتماعية والسياسية والثقافية. وفي مجال النقد الأدبي، له كمّ هائل من المقالات، معظمها يهتمّ بنقد إنتاجنا الأدبي الفلسطيني، في كافة أماكن تواجده. هذا إلى جانب تلك الندوة الرائعة، ندوة “اليوم السابع”، التي يُعتبَر السلحوت من أوائل مؤسسيها. وهي ندوة أدبية ثقافية أسبوعية، بدأت عام 1990 وما زالت مستمرة حتى اليوم، تُقام كل خميس، في المسرح الوطني الفلسطيني، ويُشارك فيها عدد من المثقّفين المقدسيين، يتناولون عملا أدبيا، ويقومون بتحليله والتعليق عليه للاستفادة مما جاء فيه من دروس، ويُوثّقون دراستهم له. مثل هذه الندوة في اعتقادي، يجب أن يتحوّل إلى نهج، في كل مدننا وقرانا.
في مجال السرد، كتب السلحوت عددا كبيرا من الروايات والقصص القصيرة، بعضها للقارئ العادي، وبعضها للشباب البالغين، وبعضها لليافعين دون سن البلوغ، وبعضها قصص للأطفال. وقد انتبهت إلى أن لتلك السرديّات، أهدافا محدّدة، تجمع بين التوثيق، وبين المعرفة والتنوير، وبين التربية والتثقيف. وهناك رابط قويّ يجمع بينها جميعا، هو القدس عاصمة فلسطين. ينشد الكاتب من خلال إنتاجه توعية أجيالنا إلى التمسّك بانتمائهم الفلسطيني، المقدسي خاصة، والتمسّك بأرضهم وأصالة تراثهم. وهو في جميع رواياته، ينبذ الموروث السلبي، ويؤكّد على ضرورة التمسّك بالموروث الأصيل. وفيها أيضا، يحضّ على دور العلم في تغيير حياتنا، ورفض أنماطها السلبية. ويحضّ أيضا على دور المرأة وضرورة تعليمها ومشاركتها الفعّالة في حياة المجتمع. ولذلك نجده في رواياته، يوظّف تاريخنا وتراثنا ويستلهم منهما قصصا تترك أثرها النافع في القارئ الفلسطيني. من هنا ينطلق اهتمامه بتوثيق تراث القدس ومعالمها التاريخية والجغرافية، لتصمد أمام زحف التتار الجدد، الذين لا همّ لهم إلّا قلب الحقائق وتزييف مسار التاريخ ومعالم الجغرافيا.
جميل السلحوت، أراه يؤمن بمقولة، “أعطني مسرحا أعطِك شعبا”، أو “أعطني خبزا ومسرحا أعطِك شعبا مثقفا”، وهو يعرف بلا شكّ، أنّ الخبز رمز للحياة والمسرح رمز للثقافة. ويُدرك دور المسرح في بناء المجتمع الإنساني. ورغم أنّي لم أجد له أعمالا مسرحية، إلّا أنّه كتب الكثير عن المسرح، وخاصة عن المسرحيات التي قدّمها المسرح الوطني الفلسطيني، وذلك من منطلق البحث عن حياة حرة كريمة لشعبنا، تتميّز بالوعي، وتكون الثقافة مركّبا أساسيا فيها.
من موقعه على الشبكة، ومن هذه الشمولية في الإنتاج الأدبي والثقافي، ومن مشاركاته التي لا تُحصى في برامج ونشاطات أدبية وثقافية، رأيت في السلحوت، صاحب مشروع ثقافي تهيّأت له كل مقوّمات النجاح. وهو مشروع ينسجم مع احتياجات مجتمعنا الفلسطيني، يُركّز على القدس بشكل خاص، لأنّها تُواجه منذ احتلالها، هجمة شرسة تهدف إلى تدمير وجهها العربي. ولذلك، نجده في رواياته، يهتمّ كثيرا بتوثيق معالم القدس بكافة تنويعاتها.
“البلاد العجيبة”، هي رواية أصدرها السلحوت مؤخّرا. وقد دمغ غلافها الأول، بعبارة “رواية لليافعين”. لست بصدد نقد الرواية وتحليلها الآن، ولكن، سأتحدّث عنها باختصار كصورة مصغّرة عن مشروعه الثقافي.
ليس عبثا يختار السلحوت الكتابة لشريحة اليافعين. فَهُم جيل يعيش مرحلة الانتقال بين الطفولة والبلوغ، في واقع فلسطيني ومقدسي، يُحاول الاحتلال أن يُدمّر فيه كل شيء، وبشكل خاص، أن يُدمّر الإنسان العربي المقدسي الذي يتشبّث بالقدس ليحمي انتماءه وانتماءها معا. وهو يدفع ثمنا باهظا لصموده في وجه آلة التدمير.
في هذه الرواية، استطاع السلحوت، بلغة بسيطة، وبأسلوب شيّق، أن يأخذنا في رحلة خيالية ممتعة، هربا من واقع الاحتلال الذي يُحاول طحن شبابنا وتدميرهم.
جميل السلحوت يسكن القدس، والقدس تسكنه. يوميا يواجه آلة التدمير، ويعرف مدى خطورتها على أجيالنا. ولذلك يُحاول أن يُنقذ ما يُمكن إنقاذه. في هذه الرواية، يُحاول إنقاذ اليافعين، هذا الجيل الجامح بخياله، الذي يقف على مفترق طرق خطير، تستهدفه آلة التدمير بشكل خاص. ولأنّ السلحوت يتفهّم احتياجات هذا الجيل، لذلك يبني له “بلادا عجيبة” أو مدينة فاضلة، لا يُمكن الوصول إليها إلّا عبر القدس، مدينة تقوم على الحبّ والخير والجمال، وتتحقّق فيها غاية الإنسان من العلم والسلام والمساواة والطمأنينة.
في روايته أيضا، يمزج الكاتب بين الخيال والواقع، ويستخدم الخيال والأحلام وسيلة للوصول إلى تلك البلاد. لأنّه يعلم أنّ العلم والواقع لا بدّ لهما أن يبدآ كفكرة في خيال الإنسان وأحلامه.
تحمل الرواية أيضا، توثيقا لتراث القدس ومعالمها التاريخية والجغرافية. وقد اختار للوصل بين الواقع والخيال أو الأحلام، أسرة فلسطينية فقيرة رزقها الله من حيث لا تحتسب. وليس عبثا جعل الكاتب ثراءها خياليا، ذلك لأنّه يُريد أن يُبيّن لهذا الجيل، أنّ البقاء في القدس والتمسك بتاريخها ومعالمها، هو الثراء الحقيقي الذي لا يُقدّر بمال.
وقد ربط الكاتب بين الخيال والعلم بواسطة التّكنولوجيا الحديثة التي تسيطر اليوم على واقعنا، ليبيّن لهذا الجيل أهميّة العلم، في حياة الإنسان وفي مواجهة الصعوبات، وعلى رأسها الاحتلال. التمسك بالقدس ومعالمها، هو بساط الريح الذي رأيناه في الرواية ينقلنا إلى تحقيق أحلامنا. وليبّن لنا كذلك، أنّ ضياع القدس ومعالمها هو في الحقيقة ضياعنا جميعا.
في روايته أيضا، ينحاز السلحوت للمرأة، فيجعلها سيّدة الموقف، ويجعلها حاكمة “البلاد العجيبة”. وفي ذلك رسالة واضحة، لهذا الجيل ولكل الأجيال، أنّ المرأة محطّ ثقة، وهي قادرة على القيام بالدور الذي يليق بها، في بناء مجتمع يقوم على الحبّ والخير والجمال، وعلى الحقّ والعدل والمساواة.
في الرواية أيضا، إشارات كثيرة إلى حرّيّة الرأي وحرّيّة الدين والعبادة، واحترام الآخر وخصوصيّاته، بغضّ النظر عن العرق واللون والدين. وهذا هو المعنى الإنساني الذي ينشده السلحوت، للوحدة بين الأفراد والجماعات رغم اختلافهم.
تعكس الرواية أيضا، روح الانتماء للقدس وضرورة التمسّك بأرضها ومعالمها المقدّسة. يبدو ذلك من خلال تصرفات أهلها في الرواية، أهلها الذين يُؤمنون أنّ “من يعيش في القدس القديمة أو يطلّ عليها، سيعيش سعادة دائمة”.
القدس مدينة مهدّدة بناسها ومقدساتها وتاريخها وثقافتها وطابعها العمرانيّ. الناس جميعا يعرفون أنّها مدينة عربية. والاحتلال نفسه يعرف. ولكنّ هذه الحقيقة، هي ما يُؤرّق الاحتلال، وهي ما يسعى الاحتلال إلى تدميره. لذلك تأتي رواية “البلاد العجيبة”، لتشحن جيل اليافعين بحبّ القدس، وحبّ الانتماء لها، والعمل على البقاء فيها، وإفشال المؤامرات التي تُحاك ضدّها. ولذلك أيضا، يُقدّم الكاتب في الرواية الكثير من المعلومات التي تُقرّب القارئ من القدس، وتدفعه أن إلى تذويتها في نفسه.
محمود وأخته زينب (من شخصيّات الرواية) يافعان يقومان بتلك الرحلة الخيالية، برفقة والدهما، ويعود الجميع سعداء من رحلتهم. هذه السعادة، تعني أنّ تحقيق الحلم ليس مستحيلا. فالإنسان أولا وأخيرا يبحث عن سعادته. وجميل السلحوت لا يستطيع أن يتصوّر سعادة الإنسان الفلسطيني بعيدا عن القدس. ولذا يُربّيه على حبّها والتمسّك بها.
بناء رواية “البلاد العجيبة” على الخيال، هو النقيض الحلو والجميل للواقع المرّ والبشع الذي يعيشه الناس في القدس تحت الاحتلال، وتحت العنف والتشويه القائمين على الخداع والجشع. هذا الواقع يُريد السلحوت أن يُغيّره. لذلك يأتي بمشروعه الثقافي، الذي يُجسّده في هذه الرواية، كما يُجسّده في كل إنتاجه الأدبي والثقافي. لأنّ السلحوت يُريد لأجيال القدس أن تبقى فيها، وأن تعيش فيها عالما قائما على المحبّة والتّسامح والعلم. وتحقيق ذلك، سيعيد القدس إلى أحضان أصحابها، ويجعل واقعنا أفضل من الخيال، وبلادنا أفضل من “البلاد العجيبة”.
وإلى أن يتحقّق الحلم، أتمنّى للجميع، متعة القراءة والثقافة، وللأستاذ جميل السلحوت، دوام الصحة والعطاء.