(هذه المداخلة قُدّمت يوم الخميس 24/3/2016، في نادي حيفا الثقافي، في أمسية الاحتفاء بالشاعرة فردوس حبيب الله، ولإشهار ديوانها الثاني، “وجع الماء”)
مساؤكم خير، وكل آذار وأنتم بخير، آذار المرأة وآذار الأم، آذار الأرض وآذار الشعر.
وفي هذه الأجواء الآذارية، يسعدني أن أتحدّث اليوم، باسمي وباسم اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين، وأبارك للشاعرة فردوس حبيب الله، مولودها الجديد، ديوانها الثاني، “وجع الماء”. فردوس حبيب الله، شاعرة نعتزّ بها كعضو نشيط، كما نعتزّ بنشاطها الإبداعي الذي يتدفّق دفئا أحيانا، ونارا أحيانا أخرى، فهو يحمل همّا ووجعا يُؤلمنا جميعا. كما أنّ إبداعها ينسجم بفكره ومعانيه، مع فكرنا، ومع معاني الحياة الجميلة التي نبحث عنها، ونحاول بكل طاقاتنا، أن نُثبّت أقدام أجيالنا عليها.
فردوس حبيب الله، امرأة شابّة، طموحة، كسرت قيدها وانطلقت. في مجال العلم والعمل شقّت طريقها في عالم التربية والتعليم وبناء الأجيال. وفي ساحة الفنّ والإبداع، اعتلت صهوة جواد الشعر الجامح، وحلّقت في فضاء الفكر والأدب. ولكنّ الظمأ الذي يقتل صحراء العرب، ويملأ حياتنا بالجفاف، مسّ شغاف قلبها وفكرها، وخلق منها شاعرة تعيش “وجع الماء”. وأنا، القارئ الظمِئ إلى الماء، حين ملت إلى بحورها، لأطفئ ظمأي بماء وجعها، اعترضتني حورية من حوريّات جبل سيخ وهمست في إذني: هلّا زرت جبلنا أولا؟! هلّا مررت بينابيعه المتدّفقة، وترنمْتَ بهمسات خريرها الدافئة، لعلّها تكون زادا يُعينك على “وجع الماء”؟ … وهل تُقاوَم حورية من جبل سيخ؟! أتيت الجبل وخاطبته، فصبّ في أذنيّ همساتِه الدافئة، وناره في قلبي.
وها أنا أرتدّ إليكم لأرتّل لكم، “إنّي آنست نارا لعلّي آتيكم منها بقبس”. فدعوني من نفحات فردوس اقتبس، لعلّكم أنتم أيضا، تُطفئون ظمأكم بهمساتها الدافئة المتدفّقة من جبل سيخ على جبل سيخ، وعلينا:
نسيم صباحك، جبليّ عليلْ
كلحن الناي، رنَّ في الجليلْ
نَسيمُك من رحيق الزهر يعلو
يحاكي الشمس أمواجا تميلْ
وطعمُ الأرضِ في الزيتون شافٍ
ولونُ الزيت للهمَّ مُزيلْ
جمالُ الروحِ في أهليكَ ساحِر
وطيب القلبِ فيها سلسبيلْ
هذه النسمات الدافئة، التي هبّت علينا من فردوس جبل سيخ، آنست بها دفئا، و”آنست نارا” أيضا، تصبّها فردوس على حوريّات جبل سيخ، وعلى كل الحوريّات في كل الأرض العربية، جبالها وسهولها وصحرائها.
من قصيدة “شقّي رداء القيد وانطلقي”، اخترت لكم شذراتٍ، لعلّها تُحرّق وتستفزّ الحوريّات إلى ما تدعوهنّ فردوس إليه. تقول:
قد حان دورك فاستعدّي للنهوض
شُقّي رداءَ القيدِ وانطلقي
هبّي رياحًا، حاربت صمت الخرافِ
ثوري بفكركِ
فالعجز عنوان الضعافِ
تكلّمي
قولي أريد ولا أريد
ولا تبالي!!
هذه الحمم المتوهّجة، ترشقها فردوس حبيب الله في وجه كلّ حورية استسلمت للواقع وركنت للخنوع. وفي وجه كلّ رجل تلفّع بالظلام، وخان الشمس، باع الأرض وقتل فيها الحبّ والياسمين، معلّلا نفسه بالحور العين.
وليدها الأول، “همسات من جبل سيخ“، المولود عام 2013، تدفّقت قصائده بالدفء والنار، بدافع فطري وبعفويّة تامّة. تدفّق دفئه كما يتدفّق الغناء على لسان إنسان يُفاجئه الحبّ وتدفّق العواطف. وتدفّقت ناره من بركان إنسان يثور على الظلم والقهر. ولكنّ تجربة الشاعرة، وخبرتها التي راكمتها التجربة، قادتها إلى الوعي، فأدركت جرحها وتعقيدات واقعها المليء بالتعقيدات، المليء بالظلم والقهر والخنوع، خنوع النساء للأصنام، وخنوع الأصنام لتجّار البغاء، تُجار الزيت والنساء. من مستنقع الخنوع وبراكين القهر، من خنوع النساء وغير النساء، تدفّق لدى فردوسَ “وجع الماء”، جاءها المخاض بوليدها الثاني، فخرج إلى الدنيا يصرخ بالصمت أن يتفجّر: “دع الجرح يبوح بنزف شاعر“، وبوح نزيف الشعراء، أبلغ وأشدّ إيلاما من عواء أصنام الصحراء. فلماذا اختارت “وجع الماء” اسما لوليدها؟ وهل للماء وجع؟
ذلك لأنّ فردوس حبيب الله خاضت التجربة وتعلّمت منها، أصبحت قادرة على التعامل مع الواقع رغم تعقيداته. وأصبحت تملك الوعي والأدوات. تطوّرت لديها القدرة على التعامل مع الذات والآخر، كما تطوّرت ملكتها اللغوية والجمالية.
قد يتبادر إلى إذهان البعض، أنّ بلاغة الشعر هي أن يُحرّك الشعر كل شيء، ويجعله يُحسّ، لكي يُحرّك في النهاية أولئك الذين يتحرّكون ولا يُحسّون، أو يُحسّون ولا يتحرّكون. بلاغة الشعر أن يستفزّهم ليواجهوا الوجع. وكل هذا صحيح، فالشاعرة هنا، تُحسّ بوجعها، وتدرك جرحها، حيث تقول في مطلع قصيدة بعنوان “دنيا”:
وبي وجع يُؤرّقني ليالي
يشرّد مهجتي، يحتلّ بالي
أنام بِنزف جرح لا يكفّ
وأصحو بالنزيف ولا أبالي
وتكاد الشاعرة تستسلم لجرحها حين تقول في نهاية القصيدة:
هي الدنيا أبينا أم رغبنا
تُؤرجحنا بحبل من رمالِ
وتحمينا بحبّ إن أرادت
وحين تُريد تضرب بالنعالِ
وأين إرادتنا نحن؟ هذا إذن، نوع من الاستسلام يُعبّر عن ضعف. ولكنّه ضعف إنسان مستضعفٍ وليس ضعيفا. ونحن شعب مستضعف ولسنا ضعفاء. ضعف المستضعفين ولّد الوجع لدي الشاعرة. في قصيدة بعنوان “وجع شاعر”، تقول:
في عتمة الليل الذي لا ينتهي
تلد القصائد شِعرها نورا ونار
ما كل هذا البؤس في آهاتنا
ملّت حروف قصيدة قيدَ الولادة، الانتظار
هنا تُعبر الشاعرة عن إحساسها بطول زمن الوجع، وطول الانتظار، فتبدأ بدقّ نواقيس الثورة التي تولد بوادرها نورا ونارا. ولكنّ الزمن لا يستسلم بسهولة، وينظر إلينا باحتقار إذا استكنّا، لذلك فهو لا يُجيب تساؤلات الشاعرة. تقول:
يأبى الزمان، يأبى أن يُجيب تساؤلي
يأبى الزمان، يأبى أن يُجيب تفاهتي
الشاعرة تُدرك تفاهتها، وتفاهتنا أيضا، إذا نحن استسلمنا لقيد الانتظار.
ويبلغ الوجع قمّته في قولها في نهاية القصيدة:
يأبى الزمان تراجعا
ويريد لي صبر الحمار!
وعندما يبلغ وجع الشاعرة إلى مثل هذه القمّة، يشعر القارئ أنّها ستحوّله إلى وجع الماء. صحيح أنّ الماء هو الحياة، والحياة كثيرة الأوجاع، ولكنّ الحياة قوية، والماء يُعبّر عن قوّتها، لذلك تأخذنا الشاعرة إلى وجع الماء، بمعنى الماء الموجع إذا ضرب، كما بشّرتنا بذلك في عتبة سبقت نصوص الديوان حين قالت:
لو أنّ الماء لا يُوجع، لما تفتّتت الصخور.
تريد الشاعرة أن تكون قوية كالماء الموجع الذي يُفتّت الصخر. ولكنّ، قصيدة “وجع الماء” التي توهّمنا أنّنا سنجد فيها خلاصنا، في الحقيقة، عمقت جرح شاعرتنا وجرحنا أكثر وأكثر، لتعبّر بذلك عن هذا الجرح العربي الذي يمتدّ في قلوبنا بمساحة الوطن. ولنجدّ أنّ كل شيء في هذا الوطن يوجعنا حين تقول في القصيدة:
نحن لحن أدمن الوجع المحلّى بالحنين
يوجعنا الموت، وتوجعنا الحياة، وكل شيء فيها يوجعنا أيضا، فنبكي، والبكاء علامة ضعف. تقول:
وفي ليلنا وجع اغتصاب الروح يفضحه البكاء
كل الأشياء توجعنا، البكاء والحقيقة واختناق الصوت، وكذلك الشتاء الذي يجيء شحّا فلا نرتوي، فنعيش “وجع الماء” بدل أن نُحوّل الماء وجعا لأعدائنا.
فالماء حتى الماء يوجعنا
في الغيم يوجع صبرنا
في البحر يوجع همّنا
في الرحم يوجع لحمنا
فنموت قبل مماتنا
قصائد الديوان كلّها مليئة بالوجع، وهو وجعنا جميعا، وليس وجع فردوس فقط، وليس وجع النساء فقط، وأن كان بارزا في بعض القصائد انحياز الشاعرة لبنات جنسها، ولكنّه ليس انحيازا أعمى، فهي تحمّل النساء أيضا مسؤولية تحرّرهنّ ومسؤولية تحرير المجتمع. وهذا يعني أن نُحوّل وجع الماء إلى سلاح بأيدينا ولا نتركه وجعا يقتلنا.
بجرأة ظاهرة، تحمّل الشاعرة قصائدها مضامين ذاتية واجتماعية وسياسية. ولكنّها وبحقّ، ليست متفائلة كثيرا، فالوجع كبير، ولذلك ينطوي بعض قصائدها على شيء من التشاؤم، وهو بلا شكّ وليد الوجع، الوجع الذي نخاف أن يغلبنا قبل أن نغلبه، أن يقتلنا قبل أن نقتل به أعداءنا. إنّ وجع القصائد ونهاياتها الموجعة أيضا، لهو تعبير عن استمرار الوجع حتى اللحظة الراهنة. ولكنّ عزاءنا، أنّ تشاؤم الشاعرة لا يُعبّر عن يأس، ولا استسلام، فنحن شعب قد اعتاد التضحية، واتخذ من الصمود مركبا إلى المستقبل الذي لا بدّ سيأتي. وفردوس حبيب الله رغم تشاؤمها، لا تكفّ عن الأمل، فهي تزرعه في كثير من نهايات قصائدها.
تقول في نهاية قصيدة “شوق”:
لكنّي أعرف أنّ الموسيقى
ما زالت تعزف على أوتار قلبي
وتُطرب روحي الحزينة
وأنا
سأغنّي كلّ حروف الأمل
إلى أن يعود الغياب
وتقول في نهاية قصيدة (رسالة إلى حكامنا “الأشراف”):
نعم أنتم فخامتكم
ونحن الفقر صاحبنا
ولكنّي أذكّركم
هي الأيام، يا حكّامنا “الأشراف”، موعدنا!
هي الأيام موعدنا!
وأنا أقول للشاعرة فردوس حبيب الله، ولكم جميعا، هي الأيام موعدنا مع الأصنام، هي الأيام موعدنا مع أعداء الحياة. وإنّ مولودك الجديد يا فردوس، لهو خطوة أخرى على هذا الطريق. ولأنّني أدرك أنّك تُدركين أنّ النساء يحملن أولادهن وهنا على وهن، أبارك لك مولودك الثاني، وأنا على ثقة أنّك ستستمرّين في تضحياتك وإبداعاتك، وسترفدين مولوديْك بقافلة أخرى من الإخوة، سيأتون تباعا، وسوف نتحوّل معك في يوم قريب، من أمّة خانعة يوجعها الماء، إلى أمّة تُذيق أعداءها وجع الماء.