قراءة سريعة في باكورة عمله الروائي
د. محمد هيبي
هي رواية الأستاذ الذي يقع في حبّ تلميذته، ويوقع بها في حبّه. الموضوع ليس جديدا، لا في الأدب العربي ولا في الأدب العالمي، ولكنّ الكاتب يُقدّمه بنكهة التجربة الشخصية المرتبطة بزمان ومكان لهما خصوصيتهما، ومجتمع له حساباته الخاصة. كالعادة، الأستاذ يفوق تلميذته سنّا وتجربة، فعمره ضعف عمرها تقريبا، وتجربته وثقافته أوسع. في نهاية الرواية، وبعد حبّ دام سنتين تقريبا، وبعد أن تعلّقت الفتاة بأستاذها، ورأت فيه صفيّ روحها، يتركها الأستاذ تخوض تجربة فراقه وبُعده عنها، لتواجه مصيرها وحيدة، في مجتمع ذكوري لا يرحم، يُمثّله “ربيع”، الذي عاد إلى نور، يُظهر وجها ويُخفي آخر. عاد نادما في الظاهر ولكنّه يخفي نيّته على الانتقام منها. أما عمر فقد برّر تركه لها بأنّه لمصلحتها، بينما في الحقيقة، كانت المبرّرات لمصلحته هو، وقد بدت مهنيّة أكثر منها إنسانية.
قد يكون الجديد والغريب في الرواية، هو اختيار الكاتب لابنته، ابنة السادسة عشرة، ليُقدّم لها رسائله واعترافاته، ويحمّلها عبء كتابة الرواية. والأغرب، أن تُظهر ابنة السادسة عشرة، من القدرة والتجربة ما يفوق عمرها بكثير، وبشكل لا أعتقد أنّه يقنع القارئ.
تلك هي رواية “زهر الشوق”، الرواية الأولى للكاتب الفلسطيني، إسلام عكريّة، المولود في كابول. ورغم كونه فلسطينيا مشرّدا، فقد شرّد أجداده من “ميعار”، إلّا أنّنا نجده يغرّد خارج السرب، ويخرج في روايته عن سياق الهمّ الفلسطيني. فقد عوّدنا الكتّاب الفلسطينيون عامة، والمحليّون خاصة، والروائيون منهم أيضا بشكل خاص، أن يكون الهمّ الفلسطيني هو المحور الرئيس، أو أحد المحاور على الأقل، في معظم أعمالهم الإبداعية. أما إسلام في روايته “زهر الشوق”، فقد خرج عن المألوف وعالج همّه الذاتي، العاطفي، ولم يلامس الهمّ الوطني والسياسي إلّا بعبارات قليلة جدا وغير مباشرة، ظهرت في الرواية وكأنّها هبوط اضطراري، يؤكّد أنّه ليس من السهل أن يبتعد الكاتب الفلسطيني كلّيا عن قضية شعبه حتى لو أراد ذلك.
تقع الرواية في 320 صفحة من القطع المتوسط، صدرت في كابول، عن “دار الأركان للإنتاج والنشر”. وأعتقد، خاصة وأنّ الرواية شكلا ومضمونا تستحقّ القراءة، أنّه كان على الكاتب أن يتريّث قليلا في إصدارها، وأن يهتمّ بمراجعتها وبتنسيقها بشكل أفضل، والأهمّ من ذلك أن يتفادى ما فيها من أخطاء لغوية: نحوية وإملائية، ومن بعض الخلط بين مفردات اللغتين: المحكية والفصحى. وقد جاء هذا الخلط ليس من باب توظيف المحكية حيث لا تنفع الفصحى أو لا تكفي، وليس كذلك من باب ملاءمة اللغة لمواصفات الشخصية.
تتداخل الأجناس في رواية “زهر الشوق”، خاصة الشعر بالسرد، فالكاتب يكتب الشعر أيضا، وشعره رومانسي ممسوح ببعض مسحة صوفية متأثّرة ببعض ما قرأه عن مولانا جلال الدين الرومي. ولذلك يُضمّن إسلام روايته، بعض قصائده التي مَوْضَعَ بعضها بشكل موفّق، وبعضها الأخر في مواضع تُعيق تدفّق السرد وتقطع استمرارية القارئ وتواصله مع النصّ.
يورد الكاتب في روايته، وفي أكثر من موضع، اقتباساته لبعض أقوال جلال الدين الرومي، كملامح ميتاقصيّة أراد بها التأثير على القارئ لتبرير تصرّفه مع نور في نهاية الرواية. وسأوضّح ذلك لاحقا.
اقتباسه الأول، وربما الأبرز، عن الرومي، يُلخِّص، إن صحّ التعبير، جرح إسلام الكاتب، أو جرح بطل روايته، الأستاذ عمر، الراوي والمروي عنه. ولذلك ليس عبثا أورده في مطلع فصل البداية (ص 7)، وجاء فيه: “الجرح هو المكان الذي من خلاله يدخل النور إليك”. هذه العبارة، فيها تعبير صوفيّ عن إشراق الجرح أو الوجع أو الحزن، الذي تميّز به الصوفيّون عامة وجلال الدين الرومي بشكل خاص. وينعكس هذا الإشراق، ولو بشكل متواضع، في بعض ثنايا الرواية، خاصة حين فكّر البطل بالآخرين، وخاصة فيما أولاه البطل من حبّ وثقة لابنته فاطمة، وما أولاه الكاتب أيضا من ثقة بشخصياته حين منحها حقّ الكلام في رواية بوليفونية، متعدّدة الأصوات، وإن لم يُفلح الكاتب دائما في تحييد صوت عمر، بطل الرواية، عن أصوات بقية الشخصيات.
قد يكون عمق الجرح حدّ الإشراق عند عمر، هو ما جعله يُقحم ابنته ويضع على كاهلها بعض حمله. ولكنّي اعتقد أيضا أنّ الكاتب وجد في هذه نزعته الصوفية هذه، وكما ذكرت، تبريرا لتصرّفه مع نور وقطع علاقته بها في نهاية الرواية. وكأنّي به أراد أن يقول للقارئ، “لا تلمني على ما فعلتُ، فالحبيب موجود فيّ سواء حضر أم هجر”. قد يأنس القارئ لمثل هذا التبرير كجزء من متعة القراءة، ولكنّه على أرض الواقع سيرفضه.
في الرواية عدد من الشخصيات أهمّها ثلاث هي: عمر، نور وفاطمة. وقد أعطى الكاتب لكل واحدة منها حقّ سرد الأحداث من وجهة نظرها هي. مما يُعطي للكاتب والراوي مصداقية في التعبير عن فكره وديمقراطيته، وعن ديمقراطية النّص كذلك. قد يكون “ربيع”، هو الشخصية الوحيدة التي لم يعطها الكاتب حقّها بالسرد، وذلك ليبيّن لنا فكره الذكوري المعادي للمرأة، وفكر الكاتب وموقفه التقدّمي من المرأة. ولذلك نجده لا يثق بربيع ويسلبه حقّه في الكلام. لأنّه يرى فيه ممثلا للمجتمع الذكوري الذي يحتقر المرأة ويُهمّشها.
ومن الطبيعي أن تبدأ الرواية بفاطمة، ابنة السادسة عشرة، وابنة البطل، عمر، وتنتهي بها، لأنّها هي الراوي الحقيقي الذي حمّله عمر همّ رسائله واعترافاته، وحمّلت هي نفسَها، همّ كتابة روايةٍ تكون حكاية والدها التي استخلصتها من رسائله واعترافاته، محورها الأساس الذي تدور حوله كل الأحداث. ولكن، هل هذه المهمّة تناسبها؟
قد لا يُؤخَذ على الكاتب اختياره لابنة البطل لتقوم بهذه المهمّة، ولكن قد نأخذ عليه اختياره لسنّها، السادسة عشرة، وما يُثيره هذا الاختيار من تساؤل، حول ما أذا كانت فتاة مراهقة في هذا السنّ، ناضجة بشكل يجعلها قادرة عل تحمّل مثل هذا العبء وهذه المسؤولية؟ لهذا اعتقد أنّه ظلمها، فهي في هذا الجيل المبكّر غير ناضجة بما يكفي لتحمل مثل هذا العبء.
ومن جهة أخرى، أرى أنّ هذا الظلم لم يكن غريبا على الكاتب أو بطله، فقد سبق لهما، أن ظلما نور حين تركاها لمصيرها، تواجه وحدها وبلا معين، قدرا قاسيا وضعها في دوامة حبّ غير متكافئ. فهي فتاة في العشرين والبطل، عمر، أستاذها في الجامعة، عمره ضعف عمرها تقريبا، فضلا عن أنّه متزوّج وله طفلة. ضغط هذه الأوضاع، الشخصية والاجتماعية، هو ما جعل عمر في نهاية الرواية، يتخلّى عن حبيبته ويتركها لمصيرها القاسي. لذلك بدا قراره تعسّفيّا، ومبرّراته غير إنسانية، رغم أنّه لفّعها بالمنطق ومصلحة نور نفسها. فالتّعلّم من خوض التجربة الشخصية، لا يعني، ولا يصحّ ولو أخلاقيا على الأقلّ، أن نترك من يحتاج لمساعدتنا الإنسانية ووقوفنا معه، وحيدا في معركة نحن نعرف مدى حاجته إلينا فيها، خاصة وأنّنا نحن أصحاب التجربة والخبرة، وهو الجديد عليهما. وأكثر من ذلك، نعرف أنّنا نحن من ورّطناه.
وهذا المنطق الذي اتخذه الكاتب وبطله، مبرّرا لتصرّف عمر مع نور في نهاية الرواية، لا يعني أنّه لا يحبّها، وأنّ ما حدث هو مجرد نزوة. العكس هو الصحيح، فقد أحبّها بصدق، ولكنّ المؤلم أنّ مصلحة عمر الشخصية، الملفّعة بمصلحة نور، هي الدافع الحقيقي. وقد ظهر هذا الدافع مسحوبا من عالَم المهنة والمؤثّرات الرياضية، التي بدت هنا مهنية كثر منها إنسانية. وعالم الرياضيات هو العالم الذي جاء منه الكاتب وبطله. فكلاهما يتعلّمان موضوع الرياضيات للقب عالٍ، ويعملان معيدين في الجامعة يُدرّسان فيها الموضوع نفسه. وهذه المؤثّرات المهنية، الناتجة عن موضوع الرياضيات تحديدا، تنعكس بكثرة في لغة الرواية، وخاصة في لغة عمر، ولغة من أخفق الكاتب في تحييد صوت عمر عن أصواتهم. وبالرغم من ذلك، فلغة الرواية جميلة وشاعرية في بعض جوانبها، وإن كانت شاعريتها تعلو أحيانا وتهبط أحيانا أخرى. وسأكتفي هنا بأن أذكر أنّ في هذه الرواية، الكثير من ملامح السيرة الذاتية التي تجعل القارئ يخلط بين الكاتب والراوي والبطل.
لا شك أنّ إسلام عكرية، قد أثبت في عمله الروائي الأول، “زهر الشوق”، قدرته على السرد وحبك عناصر روايته بشكل يجذب القارئ، فضلا عن المضمون العاطفي الذي يستند إلى التجربة الشخصية، ويُؤسّس خلالها ومن خلال شخصيتي نور، حبيبة عمر، وفاطمة، ابنته، إلى تجربة جمعية قد تتعلم منها الأجيال القادمة. ومن جهة أخرى، هذا المضمون يُؤكّد على إنسانية الإنسان الفلسطيني. فهو لا يزال رغم جراحه، ورغم همّه الوطني وقضية شعبه المعلّقة، لا يزال قادرا على الحبّ، وأن يجد متّسعا في حياته ونفسه، ليُعبّر عن حاجاته النفسية وعواطفه الإنسانية، بأشكال مختلفة سواء اهتمّ بالسياسة أو لم يهتمّ بها.
وملاحظة أخيرة حول الزمان والمكان. يبدو الزمن العام في الرواية يُعاني من اللاتعيين، وقد يكون ذلك مقصودا، حيث أراد الكاتب أن نفهم الزمان من خلال علاقات شخصياته بالمكان. خاصة وأنّه أشار إلى نوعين من المكان: محدّد وغير محدّد. المكان الذي جاء منه عمر، أو جاءت منه نور، هو مكان غير محدّد أو مُعيّن بالاسم، وهو غالبا القرية التي ترمز للمجتمع المغلق المتخلّف الذي لن ينظر بعين الرضى إلى ما فعله عمر أو نور، بغض النظر عن المسؤول الأول، وإن كان العقاب الأكبر مفهوما ضمنا، أنّه من حظّ الأنثى. أما المكان الثاني فمحدّد ومعيّن بالاسم أيضا، حيفا، وتحديدا جامعة حيفا وما فيها من مكاتب وغرف للتدريس، ومكتبة للدراسة والمطالعة ولقاءات الأحبة، وحيث تقوم على قمة جبل الكرمل التي تُطلّ على البحر، وتفيض جمالا لا يفتّح العقل للعلم فقط، بل يشرح الصدر والقلب للحياة والحرية والحبّ. وهذا الفارق بين المكانين، يُشير إلى الفارق الاجتماعي والثقافي بينهما. فالأول مغلق متعصّب لا يصلح للحبّ والحرية والانطلاق، بينما الثاني مفتوح على كل الآفاق التي يرغب الإنسان بالوصول إليها، على مستوى العلم والثقافة، وعلى مستوى الحاجات الشخصية أيضا.