قراءة في قصة «موت البجعة» لهيفاء بيطار
مقدمة
عنوان النص “موت البجعة”، للوهلة الأولى ينقلنا إلى رائعة تشايكوفسكي الموسيقية، “بحيرة البجع”، ولكن بعد الغوص في النص، نكتشف أنه يقودنا إلى رائعة أخرى هي رقصة الباليه “موت البجعة” (The Dying Swan) والتي كما ورد في موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية، هي القطعة الثالثة عشرة، من “كرنفال الحيوانات”، والتي وضعها ميخائيل فوكين، عام 1905، لعزف منفرد على آلة الشيللو، وقد قدّمها كاميل سانت سينس Camille Saint-Saëns، باسم “البجعة” أو (Le Cygne)، وقدمت الرقصة واشتهرت بها الفنانة العالمية، راقصة الباليه الروسية، آنا بافلوفا. وهذه القطعة هي غير “بحيرة البجع” لتشايكوفسكي.
الكاتبة توظف قصة آنا بافلوفا وقصة البجعة في خدمة قضايا المرأة في المجتمع العربي. وما ترمي إليه هذه الدراسة هو قياس مدى نجاح الكاتبة في توظيفها للتراث العالمي أو الإنساني ليخدم القضايا المذكورة من جهة، وفي خدمة فنها القصصي من جهة أخرى، ككاتبة لا يقلقها وجود أدب نسائي بقدر ما يقلقها التصنيف الذي يضع أدب الرجل في مرتبة أولى أرقى من أدب المرأة، وهي وسيلة أخرى من وسائل القمع.
الكاتبة والمجموعة القصصية
هيفاء بيطار قاصة وروائية سورية، ولدت عام 1960 في مدينة اللاذقية. تلقت دراساتها في مدارس اللاذقية. درست الطب ثم تابعت فتخصصت بأمراض العين. اشتهرت ككاتبة تكتب القصص القصيرة والروايات والدراسات النقدية والمقالات الاجتماعية. صدر لها حتى الآن اثنتا عشرة مجموعة قصصية وتسع روايات، وترجمت قصصها ورواياتها الى أكثر من لغة اجنبية.
في مجموعتها “موت البجعة” الصادرة عن اتحاد الكتاب في دمشق عام 1997، ثلاث عشرة قصة ارتقت فيها من الهمّ الخاص إلى الهمّ العام، حيث تعالج قضايا مأخوذة من حياة الناس عامة، تعبّر فيها عن أوجاع أناس بسطاء مظلومين ومهمّشين. بعض قصص المجموعة يتناول حياة المرأة وقضاياها الخاصة والعامة. في قصة “موت البجعة” تولي الكاتبة اهتماما خاصا بما تعانيه المرأة من قمع في مجتمعنا العربي.
“موت البجعة”: ملخص النص
فاتن ابنة الثامنة تملك جسدا متميزا بليونته، وهي ابنة لعائلة ارستوقراطية، تدرس في مدرسة إنجليزية في الرياض حيث تظهر وتنمو موهبتها في رقص الباليه فتتنبأ لها مدرّستها بمستقبل زاهر.
في الثانية عشرة تفرح فاتن لترشيحها للمشاركة في مسابقة عالمية للرقص، ولكن كيف وهي مقيدة داخل السور؟
ذات يوم استدعاها والدها وفاجأها بسهمه القاتل: ولكن يا فاتن يجب أن نفكر بعقل. لم يفلح في شرح الموضوع فأوكل الأمر للأم. تطلعها أمها بتعقل السيدة الأرستقراطية على ما لا يقبله عقلها. أنت الآن صبية وستصيرين زوجة، وشرف الصبية أثمن ما في الوجود، أثمن من الذهب والألماس، وحركات الباليه يمكن أن تفقد الصبية شرفها، ونحن لن نسمح بذلك. تذعن فاتن لـ “حكم العقل”، وتعيش على أمل الزواج ممن يقدر موهبتها. وكان لها ذلك، ولكن!
زوجها، الذي عاش في أوروبا، يقبل شرطها الوحيد: ممارسة الباليه ولكن بعد الزواج. وبعد الزواج يأتي الحمل ثم الإنجاب ثم تأتي “لكن” الثالثة، القاتلة، إذ لا يصحّ حسب رأي الزوج وفي ظروف مجتمعه، أن تمارس امرأة وأم، البالية أمام المتفرجين. ماذا سيكون موقفها أمام ابنتها؟
وجدت فاتن نفسها محاصرة بين أضلاع المثلث: الأب والأم والزوج ولكل منهم “لكن”، فساء وضعها وبلغ حدا لا يحتمل. ذات مساء لبست ثياب الرقص وفتحت الستائر والنوافذ، وأخذت ترقص وترقص، ثم رمت بنفسها من النافذة. ذعر الناس لهول المشهد وفغروا أفواههم في وقت واحد: لكن، لكن، لكن.
توظيف التراث في النص
للأدب النسائي ثيماته وخصائصه، وفي قصة “موت البجعة” تظهر بعض هذه الثيمات والخصائص بوضوح. علاقة المرأة بالمجتمع المتمثل في القصة بالأب والأم والزوج، وعلاقتها بالرجل المتمثل بالأب والزوج، وعلاقتها بجسمها وذاتها التي تنعكس في حب فاتن لرقص الباليه، فهي تملك جسدا ملائما يتميّز بليونته وقدرة على القيام بأية حركة، وحرص المجتمع (الأب والأم والزوج) على قمع المرأة وخنق موهبتها، خاصة تلك المتعلقة بجسدها، ما أدّى إلى شعور فاتن بالاغتراب عن ذاتها وبالتالي لجوؤها إلى الانتحار كطريقة للانعتاق والخلاص من هيمنة المجتمع، وهو ما يؤكد ضعفها وعدم قدرتها على المواجهة.
لتوصيل الرسائل التي تحملها القصة بثيماتها المختلفة توظف الكاتبة قصتين من التراث العالمي أو من تاريخ الفن الإنساني، هما: قصة حياة الفنانة، راقصة البالية الروسية الشهيرة، آنا بافلوفا، ورقصتها المشهورة “موت البجعة”، وقصة البجعة التي يقال أنها تطلق اصواتا قبل موتها تنذر به، لتسقط القصتين على حياة امرأة عربية خليجية لتبين لنا من خلالهما مظاهر الاختلاف بين المجتمعين: الغربي والعربي، والتناقضات التي يتميّز المجتمع العربي في التعامل مع المرأة وكيف يحرص على قمعها وخنق مواهبها وقدراتها ومنعها من تحقيق ذاتها رغم معرفته أنها تملك منها ما يؤهلها لبلوغ أرقى الدرجات في جميع المجالات.
يقول يحيى جبر وعبير أحمد (2009) إنّ توظيف التراث في الأدب يعني استحضار فترات محدَّدة من التاريخ من خلال مواقف أو حوادث أو شخصيات، أو استلهام قصص وحكايات … ثم العمل على إعادة صياغتها وتحويلها إلى قصص تتناسب وروح العصر. والكاتبة في قصتنا تستحضر قصة آنا بافلوفا، راقصة البالية الروسية المشهورة (1881-1930)، التي بدأت حياتها الفنية في سن الثامنة وما أن ظهر نبوغها حتى تلقفها صناع النجوم الذين يقدرون فنها وقدراتها فجعلوا منها أشهر راقصة باليه في العالم. وقد مارست فنها، وإن لم تعش طويلا، إلى آخر لحظة في حياتها.
يقول صبري الحيقي (2008) إنّ المحاكاة في النص هي إعادة تصوير لفعل وقد ذكر أرسطو في كتابه “فن الشعر” أنها محاكاة لفعل عن طريق استخدام الشخصيات، والفكر، والكلمات … وبظهور مذهبي الواقعية والطبيعية تأكّد مفهوم المحاكاة بأنه تصوير صادق للحياة البشرية. (ص 44). وهنا كذلك، ما تقوم به الكاتبة مع فاتن في قصة “موت البجعة” هو نوع من المحاكاة غير المباشرة لقصة أنا بافلوفا لأنها، من خلال هذه القصة، تريد أن تظهر المختلف أكثر من المؤتلف، لأنّ تعامل المجتمع العربي مع المرأة هو المختلف وليست حاجات المرأة العربية إلى الحرية أو قدراتها في تحقيقها. وإذا كان الرقص هو لغة الجسد التي يتناغم فيها الجسد مع الروح، فهو عند المرأة يعبّر عن حريتها النفسية وتوقها إلى التحرر بشكل عام. إن اختيار الكاتبة للقصتين المذكورتين، وبناء القصة على فكرة الرقص إنما هو تعبير عن مدى توق فاتن (المرأة العربية) إلى التحرر والانعتاق من أسر المجتمع وظلمه. ولكن التوظيف، كما ذكرت، جاء ليبرز النقيض في حالة مجتمعنا، أي كيف يقمح المجتمع المرأة ويجعلها لا تنقطع عن الإحساس بدونيتها.
فاتن، بطلة قصتنا، أو كما يروق لي أن أسميها، آنا بافلوفا العربية، والتي أرادت أن تتحرر من خلال جسدها ورقصها، تملك جسدا وقدرات مشابهة تماما لآنا، وتظهر موهبتها، مثل آنا، في الثامنة من عمرها. ولكن، في المجتمع العربي، حتى وإن كانت المرأة “من تلك العائلات الارستقراطية التي تقدس الطقوس …” (موت البجعة ص 71)، شتان ما بين الطفلة والمرأة (الصبية). فاتن الطفلة لاقت من يشجعها على تحقيق ذاتها وموهبتها، وإن لم تشعر، ربما لطفولتها، أن التشجيع ليس لذاتها بل لذات المشجّع ولمتعته، ما يؤكد فكرة عبودية المرأة للرجل “وفي الفيلا الفخمة المسورة كانت فاتن تلبس ثياب الباليه، وتصير فراشة، تطير من غرفة إلى غرفة، أو زهرة تتلوى على أنغام الموسيقى، كانت تذهل أهلها وزوارهم الكثر بليونة جسدها وطراوته، وتعبير وجهها المسافر بعيداً إلى فضاءات لا يحلمون ببلوغها”. (ن. م. ص 71-72). لكن فاتن الصبية، والتي ستتزوج عما قريب، لها طقوس أخرى. الشيء الوحيد الذي يحرص عليه المجتمع عندها هو شرفها الأثمن من الذهب والماس. وما أذكي الكاتبة حين اختارت لفاتن البيئة الأرستقراطية، فهي البيئة التي ترعرع فيها فن الباليه، ولكن البيئة الأرستقراطية الغربية غير العربية، فالعربية مختلفة والإنسان فيها مختلف. وقد عبّرت فاتن عن ذلك الاختلاف في ردها على ادعاء أمها “أنت تعرفين أن شرف الفتاة هو أهم شيء على الإطلاق، وأن الرياضة العنيفة، وكذلك رقص الباليه، قد يجعلانها تفقد هذا الشرف الثمين … (فردت فاتن) أوه يا أمي أتخيل الذهب والألماس بكلمة ثمين” (ن. م. ص 74)، ما يعني أن الأرستقراطية العربية هي أرستقراطية مادية فقط لا شأن لها بالفكر الأرستقراطي الغربي بكل مفاهيمه.
لقد عاشت آنا بافلوفا ما يقارب الخمسين عاما يمكن اعتبارها كلها رحلة لتحقيق ذاتها من خلال فنها. أما فاتن فقد أتيحت لها خمس سنوات فقط، من الثامنة حتى الثالثة عشرة، لتمتع الآخرين بفنها، ثم قمعت وانتهت نهاية مأساوية. أي أن رحلة فاتن مع فنها لم تزد عن عُشْر حياة آنا، ما يؤكد انحطاط مكانة المرأة في المجتمع العربي والهوّة التي تفصلها عن المرأة في المجتمع الغربي، وأنّ الطبقة الأرستقراطية في المجتمع العربي لا تختلف في معاملتها للمرأة عن المجتمع العربي بشكل عام. فالمرأة تواجه الإهانة والقمع حتى لدي الطبقات التي تعتبر نفسها راقية ومتحررة، أي أنها تواجه القمع من المجتمع بكافة مستوياته: الأب والزوج وربما الأهم منهما الأم، تلك التي تمثل الأنثى ضد الأنوثة لأنّ الأم بالتالي تخدم أغراض المجتمع الذكوري المهيمن، فأنّ رؤيتها للعالم كما يرى جورج طرابيشي (1984) “ليست نتاج ذاتيتها الأصيلة بل … نتاج تماهيها مع مستعمرها واستبطانها لأيديولوجيته المعادية لها”. (ص، 6).
هذا الأمر يجسد أيضا دور المرأة المتمثلة بالشخصية الثانوية، الأم، أو الشخصية المركزية، البنت (فاتن)، دورها في خدمة الرجل في المجتمع العربي فهي كما ترى مريم فريحات (1995) مجرد آلة تقوم على خدمة الرجل وتأمين راحته (ص 47)، بخلاف دورها في المجتمع الغربي حيث تتحكم هي بتحقيق ذاتها. وهذه الخدمة تظهر بوضوح في تنفيذ الأم لإرادة الأب في إقناع فاتن بالتخلي عن الرقص، وفي دور فاتن في إمتاع أهل البيت وزواره برقصها، فهي كما ذكرت لا ترقص لذاتها حتى وإن كانت لا تدرك ذلك. ولذلك وفي الوقت المحدد، عندما أصبحت فاتن صبية في نظر المجتمع (الأب والأم)، تظهر صورة البنت التي هي “دائما مصدر خوف للأب (المجتمع)، الخوف على الشرف والعرض، … وإن كان للبنت أن تفعل شيئا، فليس أكثر من البكاء بحرقة وسخط مقابل القرارات الجائرة بحقها” (ن. م. ص 53). وهذا بالضبط ما واجهته فاتن إلا أنها لم تكتف بالبكاء فذهبت بضعفها إلى ما هو أبعد من ذلك: الانتحار.
إذن، الأب والأم والزوج، الثلاثي المحاصِر، يمثلون المجتمع العربي الذي يؤمن، ظاهريا، بكل ما هو تقدمي وحضاري (حب الأب والزوج للأوبرا والباليه)، أما عند التطبيق فالأمر مختلف تماما، إذ يعود كل منهم عبدا للعادات والتقاليد التي تقمع المرأة وتدوس حقوقها وتكرس دونيتها. وشتان بين هذا المجتمع الارستقراطي والمجتمع الارستقراطي الذي حضن آنا بافلوفا.
وفاتن في حبها للرقص، وخاصة الباليه، أرقى أنواع الرقص، تمثل المرأة العربية في حبها للحياة وشوقها إلى الحرية والانسلاخ عن واقعها الظالم والمهين، ولكن، هي أيضا، عند الحاجة للتطبيق نجدها تعود إلى ضعفها وإذعانها للمجتمع، ولا تجد لها خلاصا إلا الانتحار والموت. وقد وظفت الكاتبة الموت بشكل فني رائع عندما أحالت إليه في نهاية النص من خلال توظيفها لشخصية البجعة في رقصتها أو أغنيتها الأخيرة إذ أنّ البجعة – كما تقول الأسطورة – تودع العالم بشدو جميل تطلقه قبل موتها يعرف بـ “الأغنية الأخيرة” أو كما جاء في مجلة البيان الإماراتية حول أسطورة “غناء البجع” وهو ذلك الحداء الحزين الذي يقال بأن البجع يصدره قبل الموت، ما يعني في القاموس العربي “خاتمة الإبداع”[1]. أي أن المبدع يستشرف نهايته بعمل إبداعي يكون الأخير بين أعماله. ولكن بما أن التوظيف هدفه بيان المختلف أو النقيض، فقد رأينا فاتن لما “اشتد حزنها إلى درجة مخيفة، وأنه احتل الجسد الطيع اللين، وأن عقلها صار يئن تحت ثقل عقولهم، يجرّونه مجبراً ليفكر مثلهم، وبلغ بها الإرهاق حداً يصعب تحمله” (موت البجعة ص 79)، رقصت رقصتها الأخيرة وألقت بنفسها من الشباك، ولكن، وهذا هو المهم، قبل أن تبدأ رحلتها الحقيقية مع الإبداع.
خلاصة
وخلاصة القول إنّ الكاتبة هيفاء بيطار، في قصتها “موت البجعة”، أثبتت أنها تدرك أنّ توظيف التراث، عربيا كان أو إنسانيا، كسمة من سمات الحداثة في الأدب الحديث، لم يعد مجرد شكل تزييني يزين به المبدع نصه ويدلل به شكليا على ثقافته، وإنما يجيء هذا التوظيف لخدمة أفكار المبدع والمضامين التي يريد إيصالها، وكذلك لخدمة مبنى النص. ذلك لأنّ التوظيف الصحيح للتراث إنما يزيد مبنى النص قوة ويضاعف فاعليته على القارئ الذي ينشدّ إلى اكتشاف العلاقة بين التراث الموظـَف والنص وما يحيل إليه في الواقع. ولا شك في أنّ الكاتبة قد نجحت في مهمتها، فقد استطاعت أن تبلغنا رسالتها من خلال نص فنيّ جميل.
ثبت المراجع
· جبر، يحيى وحمد، عبير. حضور المأثورات الشعبية في أعمال سحر خليفة، نابلس: جامعة النجاح، 2009. من: http://blogs.najah.edu/staff/yahya-…
· الحيقي، صبرى. من إشكاليات النص: الخلط بين التراث الشعبي والتاريخ، 2008. في: http://www.ghaiman.net/derasat/issu…
· طرابيشي، جورج. أنثى ضد الأنوثة، بيروت: دار الطليعة، 1984.
· فريحات، مريم جبر. (1995)، “شخصية المرأة في القصة القصيرة في الأردن”، عمان، دار الكندي.
· مجلة البيان، استعراض لكتاب “أساطير الفكر الكبرى، البيان”، الإمارات، عدد 16/1/2006. في: http://www.albayan.ae/paths/books/1135664258994-2006-01-16-1.882629
· “The Dying Swan”, In: http://en.wikipedia.org/wiki/The_Dying_Swan
[1] . مجلة البيان الإماراتية. استعراض كتاب “أساطير الفكر الكبرى” لهنري بينا-رويز Henri Pena-Ruiz, Grandes légendes de la pensée وهو كتاب عن الأساطير التي أسست للفكر كما وصلتنا عبر العصور.